منذ النكبة (1948) جرى تظهير قضية فلسطين كأنها مجرد قضية أرض جرى اغتصابها من قبل الصهيونية، ووليدتها إسرائيل، كما جرى، في حينه، المبالغة بوظيفة هذه الدولة، ونظر إليها على أنها أقيمت، فقط، لتشكّل حاجزا بين مشرق الوطن العربي ومغربه، وكي تحرس المصالح الإمبريالية في هذه المنطقة.

ما يجب الانتباه إليه أن في كلتي هاتين الحالتين جرى (عن وعي أو من عدمه) حجب الشعب الفلسطيني، وكأن الأرض مطلوبة لذاتها، أو كأن أصحابها ليس له صلة، ووقتها قليلون انتبهوا إلى حقيقة أن هذه السياسة تفيد أو تكمل (بقصد ومن دونه) السياسة الصهيونية التي ادّعت أن فلسطين "أرض بلا شعب"، وركّزت على نفي وجود الشعب الفلسطيني أو تغييبه.

طبعا، لا نقصد هنا بأن الكلام المذكور يفتقد للحقيقة، فثمة أرض جرى اغتصابها، وثمة للدول الكبرى أغراض سياسية/ مصلحية، في إقامة إسرائيل، لكن هذا وذاك هو بعض الحقيقة، ولا يشكّل الحقيقة كلها، كما قدمنا.

معلوم أن إسرائيل قامت في 77 بالمئة من أرض فلسطين، أما باقي الأرض فغابت أو غيّبت، نتيجة لتغييب شعبها، الذي لم يمكّن من التعبير عن ذاته بإقامة كيانه السياسي، في ما تبقى من أرضه (رغم إنشاء حكومة عموم فلسطين حينها)؛ حيث أخضع قطاع غزة للإدارة المصرية، وضمت الضفة للملكة الأردنية.

هكذا جرى نبذ فلسطينيي 48 بدعوى أنهم تأسرلوا (!)، من دون تفحّص شروط بقاء هؤلاء في أرضهم وعدم تحولهم للاجئين، ومن دون تبين أهمية هذا البقاء (وهو ما تبين لاحقا) بشأن تقويض أسطورة الدولة اليهودية الخالصة، وكشف تناقضات الدولة الإسرائيلية، الدينية والحداثية، اليهودية والعلمانية، العنصرية والديمقراطية، في الوقت ذاته.

أما الفلسطينيون في بلدان اللجوء فجرى توطينهم في الأردن (ضمن منظور قيام المملكة وقتها)، في حين حصل اللاجئون في البلدان الأخرى على هوية لاجئ، رغم كونهم لاجئين في بلدان عربية، وعلى الرغم من انتمائهم إلى الأمة العربية ذاتها! فوق ذلك فقد تولّت وكالة دولية، تابعة للأمم المتحدة، مسألة "غوث وتشغيل اللاجئين"، والتخفيف من معاناتهم في هذه "بلدانهم" العربية!

وقتها تمت أدلجة التمييز وتبريره تجاه اللاجئين بدعوى رفض التوطين، والحفاظ على القضية، ما سهّل، في أحوال كثيرة، حرمان اللاجئين من الحقوق الإنسانية، وضمنها الحق أو تقييد حق العمل والإقامة والتنقل والهوية. وبدت هنا مفارقة كبيرة فالقضية هي قضية قومية، أما الشعب فمسألة أخرى، يمكن أن تنتظر، بحسب الواقع السياسي السائد! والقضية مقدسة لا يمكن المساس بها، أما الشعب فحدّث ولا حرج، عن أوضاعه وعن كيفية معاملته أو "مرمطته"!

المهم أن قضية فلسطين (الأرض) ظلت حاضرة في الشعارات والخطابات السائدة، حسب التوظيفات" السياسية المطلوبة، في حين غابت قضية شعبها، أو غيّبت، بحكم الثقافة السياسية السائدة (حيث يجري تغييب المجتمعات والأفراد لصالح السلطات والأيدلوجيات والرموز والهويات الشمولية)، وأيضا بحكم تمزّق النسيج الاجتماعي الفلسطيني، وانهيار تعبيراته وتمثلاته الوطنية، بفعل النكبة.

ولعل هذا يفسّر غياب قضية اللاجئين، في تلك الفترة، حتى أن النظام الرسمي العربي (وقتها) رفض وضع هذه القضية في عهدة المفوضية السامية للاجئين التابعة للأمم المتحدة، وتم تشكيل هيئة خاصة، مهمتها غوث وتشغيل اللاجئين فقط، دون أن حمل مدلولات سياسية (تتعلق بحق العودة)، ودون تحميل الدول العربية المستقبلة للاجئين تبعات أو استحقاقات بشأن حقوق اللاجئين كمجموعة بشرية، تنطبق عليهم الحقوق الأساسية للإنسان، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، التي اقرّها المجتمع الدولي. وبشكل مختصر فقد تم التعامل مع اللاجئين الفلسطينيين، كمجموعة وكأفراد، في كثير من الأحوال، في إطار من الرؤى أو التوظيفات السياسية، كما تم التعامل معهم كقضية أمنية.

من ذلك يصحّ الاستنتاج بأن الهوية الوطنية الفلسطينية تبلورت ليس كرد على واقع النكبة والاقتلاع من الأرض، فقط، أي في مواجهة إسرائيل، وإنما أيضا كانعكاس لتكرّس واقع التشرد والحرمان من الهوية والحقوق في أماكن اللجوء؛ وقد لعب المخيم، الذي هو بمثابة معزل، بكل ما اكتنفت به حياة اللاجئين من معاناة ومرارة دورا كبيرا في بلورة تلك الهوية.

اللافت أن مرحلة صعود الحركة الفلسطينية لم تشهد رفع شعار العودة، ففي تلك الفترة تماهى هذا الشعار في هدف التحرير، وبدا كتحصيل لعملية التحرير المفترضة. الأنكى أن قيادة منظمة التحرير (وفصائل المقاومة)، لم تفعل شيئا للتمييز بين الحقوق السياسية للشعب الفلسطيني، وبين الحقوق المدنية والفردية للاجئين في أماكن اللجوء، في وقت بلغت فيه من المكانة في الوضع العربي (وضمنه لبنان) ما يمكنها من ذلك، لتحسين أوضاع اللاجئين وتخفيف معاناتهم.

ولاشك أن قيادة المنظمة تتحمل مسؤولية كبيرة (كشأن النظام العربي)، عن هذا التقصير، بل إن هذه القيادة لم تقدم شيئا على صعيد استنهاض مجتمعات اللجوء والشتات، برغم إمكانياتها (آنذاك)، على صعيد تبني مطالباتهم الحقوقية، وعلى صعيد تطوير إطارات تمثيلهم، وأشكال مشاركتهم في حركتهم الوطنية. والثابت أن هذه القيادة تعاملت مع هذه المجتمعات بطريقة استخدامية، ومزاجية.

بعد اتفاق أوسلو (1993) بدا أن قيادة المنظمة حصرت قضية فلسطين بمجرد إقامة دولة في الضفة والقطاع، ما أدى إلى اضطراب النظام السياسي، وتشوّش الثقافة السياسية، وتولّد خيبة أمل في تجمعات اللاجئين؛خصوصا أن ذلك تساوق مع تحوّل ثقل الحركة الوطنية إلى الداخل، وتهمّش منظمة التحرير، التي كانت بمثابة كيان سياسي للفلسطينيين، ورمزا لهويتهم وكفاحهم، لحساب السلطة.

وبغضّ النظر عما تريده، أو تستطيعه، تلك القيادة فالواضح أن موازين القوى والمعطيات العربية والدولية (المواتية لإسرائيل) ما كانت تجلب الدولة والعودة معا. وأن التفاوض في هذه الظروف لن يفضي إلى تجسيد حق العودة.

النتيجة ان تلك المرحلة شهدت بروز شعار "حق العودة" للاجئين، كنتيجة للانقسام السياسي، من حول مشروع التسوية، وكنتيجة لصعود قوى أخرى (أهمها "حماس")، في الصراع على مكانة القيادة في الساحة الفلسطينية؛ وأيضا، كنتيجة للتضاربات والتوظيفات والمداخلات السياسية الإقليمية.

اللافت أن قوى المعارضة كانت، في البداية، تقلّل من شأن "حقّ العودة" لخضوعه لمنطوق القرار 194، القاضي بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى دولة إسرائيل، ولكنها عادت وتلقفته، بعد أن اكتشفت أنه يخدم أجندتها في الصراع الداخلي، ولجهة كشف وإحراج قيادة المنظمة والسلطة وفتح، لكن من دون أن تفسّر كيفية قبولها بهذا الحق، الذي يرتبط بالاعتراف بوجود إسرائيل كدولة (!) الأمر الذي يثير التساؤلات (أو الشبهات) حول حقيقة وأغراض تبنيها له.

ولعل هذا يفسّر كيف أن قضية اللاجئين، وضمنها قضية حق العودة، ورفض التوطين، عادت إلى الصدارة على صعيد الخطاب السياسي، فقط، أما في الممارسة العملية فإن هذه المعارضة لم تفعل شيئا، بدورها، على صعيد تحسين أوضاع اللاجئين، وتبني المطالب بشأن تمكينهم من الحقوق الأساسية، كما ولا على صعيد بلورة أطرهم التمثيلية، وشكل مشاركتهم في العملية الوطنية.

الآن، وطالما أن معطيات وممكنات التحرير غير متوفّرة في الأفق المنظور، فثمة عديد من المشكلات والتعقيدات والمداخلات، إضافة إلى قضايا العودة والحقوق والتمثيل، يمكن طرحها، على الجميع ولاسيما على المعارضة.

مثلا، ثمة أكثرية من اللاجئين باتوا مواطنين في الأردن، فكيف يتم حجب هذه الواقعة؟ وكيف يتساوق ذلك مع دعوات رفض التوطين؟ ثم ما هو البديل العملي المطروح في المدى المنظور؟ أيضا، إذا كانت قضية فلسطين قومية، بمعنى يتساوى فيها "الشامي مع المغربي"، فلماذا يجب تمييز شعبها وإبقائهم في مكانة اللاجئ منتقص الحقوق؟ ثم ألا يعتبر التمييز ضد اللاجئين، بدعوى مناهضة التوطين، دفعا لهم للهجرة، في حين أن تحسين أوضاعهم ومنحهم حقوقهم يسهل استنهاض قدراتهم من اجل حقوقهم (وضمنها حق العودة)؟

أخيرا أي السبل أجدى لدعم قضية اللاجئين، عقد المؤتمرات والمهرجانات، والخطابات الحماسية، أم حشد الجهود والإمكانيات لمعالجة مشكلاتهم وتخفيف معاناتهم؟ مثلا، ما الذي تم فعله لإسكان لاجئي مخيم نهر البارد، الذين بات لهم عامين في العراء؟ وما الذي تم فعله من أجل معالجة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين في العراق، بالكلام مع الميليشيات التي تدفعهم للهجرة، أو مع إيران كي تضغط على حلفائها في العراق؟ ثم ماذا فعلنا حتى لا يذهب اللاجئون، من الحدود مع العراق إلى الهند وتشيلي وأيسلندا؟ فهل ستبقى القضية إذا ذهب أصحابها؟