بدايةً، مبروك لشعبنا فعلا هذا الإنجاز التاريخي المتمثل أولًا وقبل كل شيء في هذا الإجماع العظيم، وبهذه الوحدة الشاملة غير المسبوقة في دعم القائمة المشتركة، وبكنس كامل لكل الأحزاب الصهيونية من البلدات العربية (رغم أن هذه لم تقصر في دفع الأموال لشراء الذمم وتشغيل مقاولي الأصوات). كنا قد أطلقنا عام 2015 على المشتركة شعار "إرادة شعب"، وقد هزأ البعض من هذا الشعار في حينه واعتبر أنه عاطفي ومبالغ فيه. وها هو شعبنا للمرة الثالثة يثبت أن المشتركة بالنسبة له ليست قائمة انتخابية وأن دعمها لا يعني مجرد إدلاء بصوت في الصندوق، وإنما هي تعبير عن إرادتنا ومشروعنا الجمعي للتصدي للعنصرية والإقصاء والفاشية، وللتمسك بالأرض والوطن والوجود (وهذا ما أدعو الإخوة المقاطعين إلى إدراكه جيدًا).

في سبيل هذا المشروع الوحدوي، تراجعت كل الاعتبارات الأخرى من نقد وعدم رضى أو تبرم، سواء من أداء النواب أو الأحزاب، أو بسبب تركيبة القائمة أو غيرها.

يشهد نشطاء الأحزاب الفاعلون في الساحة الانتخابية منذ سنين طويلة، والذين ذاقوا الأمرين في انتخابات نيسان/ أبريل 2019، وهم يستميتون لإخراج الناس للتصويت، كيف أن هذه المرة خرجت الناس للصناديق وتدافعت للتصويت لوحدها، وكان الإقبال حماسيًا وينطوي على شعور قوي بأننا شعب يملك هدفا ومشروعا يجمعنا جميعا، ويرتبط بمستقبلنا المهدد من "صفقة القرن" ونتنياهو ومشاريع الترانسفير.

هكذا حقق شعبنا زيادة تمثيله من 13 إلى 15 نائبًا، وكانت هذه نتيجة مشرفة، خصوصًا زيادة التمثيل النسائي النوعي، وهذا إنجاز إضافي يشار إليه بالبنان. لنذكر أنه في آخر انتخابات قبل المشتركة كان لدى الأحزاب العربية 11 مقعدًا، وعندما انشقت المشتركة مع الأسف في نيسان/ أبريل 2019، هبط العدد إلى عشرة مقاعد فقط، أي هناك زيادة 50٪ خلال عام واحد. لا يمكن أن نعزو ذلك إلا لتأثير المشتركة، أي لـ"سحر" الوحدة والرغبة بالتصرف الجماعي كشعب.

ثانيا؛ بلا شك أن هذا الإنجاز يرفع الروح المعنوية والحماس عند الناس في زمن لا يدعو فيه شيء للتفاؤل، لا داخليًا ولا فلسطينيا ولا عربيا ولا دوليا. وعلينا أن نكون واقعيين في التشخيص وألا نؤخذ بنشوة هذا الحماس، فنصبح نرى ظلال الجبال جبالا. هذا التصرف الجماعي الجارف والوحدة العارمة من بير هداج وحتى فسوطة، لا تعني بالضرورة اتفاقًا وإجماعًا حول الأهداف والإستراتيجيات. يجب أن نعترف بواقعية أن موضوع التأثير من خلال المشاركة في اللعبة السياسية قد تغلغلت فعلا في وعي وحدس الناس. كنا نقديين جدًا نحو ما اعتبرناه إفراطا في استخدام هذه المقولة، وحذرنا من زرع الأوهام بالاندماج ومن الانزلاق نحو "أسرلة" مقنعة، عبر التركيز على تحقيق إنجازات مدنية ومقايضتها بحقوق قومية جماعية. ولكن علينا إدراك حقيقة أن الارتفاع في نسبة التصويت نتج إلى حد بعيد من هذا التغيير في الوعي والإدراك الجمعي، بأن التصويت سيؤثر علينا كأفراد وعلى عائلاتنا وبيوتنا فعليا ومباشرة، سواءً عبر إسقاط نتنياهو أو إفشال "صفقة القرن" ومنع الترانسفير للمثلث، وكذلك بتحقيق نوع من "الثأر" الفوري من العنصريين والفاشيين.

إن ازدياد التمثيل العربي إلى 15 نائبًا، وما تحقق حتى الآن من نتائج أولية بمنع بلوك نتنياهو من تشكيل الحكومة، واتضاح الصورة لغانتس وحزب "كاحول لافان"، بأنه من دون المشتركة لا يمكنهم هم أيضًا تشكيل حكومة أقلية (من المرجح أنهم يسعون لتكون لفترة قصيرة للتخلص سياسيًا من نتنياهو) يجعلنا نتوقع أن يتوطد ويتعزز هذا التوجه في انتخابات مقبلة، خاصةً إذا ما تصرفت قيادة المشتركة بحكمة وعنفوان وحافظت على وحدتها.

ثالثًا: من تحصيل الحاصل القول إن المجتمع الفلسطيني يمر بمرحلة هامة، سيقرر ملامحها العلاقة المتبادلة بين هاتين الظاهرتين المتضافرتين: من جهة بروز هذا السلوك الجماعي الوحدوي، خاصة في مواجهة الآخر وتعزز الانتماء القومي والإرادة الشعبية؛ ومن جهة أخرى، الرغبة في التأثير وتحصيل الحقوق وحل المشاكل التي يواجهها العرب نتيجة سياسة التمييز، من خلال لعب دور في اللعبة السياسية الإسرائيلية. فكيف ستكون نتيجة هذه العلاقة الجدلية بين هاتين الظاهرتين؟

من الممكن أن تزداد الهرولة نحو الاندماج من دون كوابح ولا خطوط حمر، ولا معايير وطنية خصوصًا الآن، في ظل إغراءات وأوهام أننا بيضة القبان، وأنه من دون المشتركة لن تتشكل حكومة. ومن الممكن أيضًا، أن يفرض العرب الاعتراف بهم كمجموعة قومية وبدورهم السياسي، من خلال تعزيز الوحدة والوعي الجماعي والشروع في بناء المؤسسات الوطنية، وأولها إعادة بناء لجنة المتابعة.

ما سيحدد النتيجة إلى حد كبير، هو قدرة الحركة الوطنية على فرض هذه المعايير والخطوط الحمراء، والتصدي لأي محاولات لتجيير هذا الإنجاز الكبير لصالح تنصيب غانتس رئيسًا لحكومة يمينية مستقبلا، أو لحكومة وحدة وطنية بين نتنياهو وغانتس، بادعاء أن هذا ما يريده الشارع العربي. المعركة هنا هي على وعي الناس، وعلى تعلم الدروس والعبر من الأخطاء في الماضي.