يقول المثل الفلسطيني: "العرس في دبورية وأهل المجيدل بِرقصو (يرقصون)". يُقال هذا المثل لمن يتدخّل في أمر لا شأن له فيه، ولكن هذا المثل لا ينطبق على ما يحدث في أميركا في هذه الأيام، فإذا قلنا "إن العرس في أميركا وفي الشرق الأوسط يرقصون"، فهذا واقع وحقيقة، لأنه يعني كل واحد منهم، بل ومن حقّ كل إنسان على وجه الكرة الأرضية أن يهتم بما يجري في أميركا، لأن هذا سينعكس عليه.

تُعدّ أميركا الدولة الأعظم اقتصاديا وعسكريا، وأي تغيير في قيادتها وسياستها سواء الداخلية أو الخارجية، ستكون له إسقاطاته على البشرية جمعاء، لذا لا يمكن فصل السياسة الداخلية في أميركا أو غيرها عن السياسة الخارجية، لأن النهج السياسي مكملٌ لبعضه بعضًا، وهو يعني رؤية إلى العالم وفلسفة في الحياة والسياسة والاقتصاد والمجتمع، فالقوانين التي تسنّها برلمانات العالم والتي يتبناها القادة والرؤساء تعني رؤيتهم للحياة، فإذا كانت العنصرية موجودة داخل أميركا، ويجري قمع الناس والتمييز على أساس انتمائهم العرقي وأصولهم، فهذا الوجه يوازيه في الخارج عداءٌ للشعوب المضطهدة عبر العالم، وعلى رأسها الشعب الفلسطيني، ومناصرة للعنصريين والأنظمة القمعية، فالعنصري يجد في العنصريّ الآخر، حليفا ثابتًا له على أساس فكري مشترك، ويرى بمقاومي العنصرية أعداء له حيثما كانوا، والعكس صحيح، فمن يرفع من قِيَم العدالة والمساواة بين كل البشر ويحترمها في بلاده، لا بدّ أنه سيحترمها ويحث عليها في بلاد الآخرين، وسوف يناصر المستضعفين.

هذا يعني أن أميركا عادلة داخليا ستكون أكثر إنصافًا في سياستها الخارجية تجاه الشعوب المستضعَفَة، ولهذا السبب من الطبيعي أن تكون مواقف رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، والرئيس الأميركي، دونالد ترامب، متطابقة.

العنف ليس جديدًا على الساحة الأميركية، الشرطة تقتل تقتل من السود بسهولة، وقد قتل عام 2019 حوالي 1020 إنسانا من ذوي البشرة السوداء، وكذلك تقتل من البيض، كذلك يُقتل ما معدله اثنان من رجال الشرطة أسبوعيًا، ويقتل السود من بعضهم بعضا الكثير، مثل حالنا نحن في السنوات الأخيرة.

لكن الفرق هو أن قتل السود ينبع أساسا من استهتار بحياة الأسود، ومن نظرة عنصرية تجاهه، وخصوصًا أن القتل قد يجري وكما جرى في حالة جورج فلويد، ببرود، وبعد السيطرة عليه، وهو ما حدث أكثر من مرة لفلسطينيين قتلتهم قوات الاحتلال العنصري بعد السيطرة عليهم، وآخرهم الشهيد إياد حلاق، المتوحّد، الذي قد يتمكن طفل من اعتقاله.

مشهد الشرطي الأبيض وهو يخنق بركبته الرجل الأسود أمام زملائه من رجال الشرطة، كان عود الثقاب الذي أشعل الغابة، فالانتفاضة الأميركية تجمع كل ألوان الطّيف الأميركي من أعراق وأديان، وهي ليست محصورة في الموقف من العنصرية تجاه السود، بل هي انتفاضة تصل جذورها أيضا إلى سياسة ترامب الاقتصادية، والأزمة التي تعصف بملايين العاطلين عن العمل في موجة وباء كورونا.

وحاول ترامب بدناءة استخدام الدين كسلاح في مواجهة المنتفضين، وهي مفارقة غريبة أن يقوم رجل الأفلام الإباحية برفع الإنجيل أمام الكنيسة، أما عدسات الكاميرا، ليوحي للأميركيين البيض بأنه يحارب لأجلهم الشياطين السود والملونين والمسلمين والمهاجرين بشكل عام لأجلهم.

لا علاقة لترامب بالدين، لكنه بهذا يحشد ويُقسّم المجتمع الأميركي، فيحاول الظهور بمظهر المدافع عن الأميركيين البيض في وجه الشياطين الملونة، ويعتبر مراقبون أن تهديده باللجوء إلى الجيش الأميركي لقمع المنتفضين الذين يصفهم بمثيري الشغب، خطوة خطيرة جدا، تهدد بحرب أهلية.

الأميركي ذو الأصول الإفريقية غير قادر على التخلص من حقده الدفين تجاه الرجل الأبيض الذي استعبد أجداده واغتصبهم، وما يزال يجد صعوبة في نسيان الماضي ولن يجده في المستقبل القريب، لأن المصالحة التاريخية والتسامح لا يمكن أن يحدثا، ما دامت النظرة الفوقية والمشكلة مستمرة على أرض الواقع.

طبيعي جدًا أن يقلق النظام العنصري في إسرائيل، نتيجة ما يجري في أميركا، وهناك أنظمة عربية قلقة وبحق، ولكن انتفاضة الأميركيين كشفت هشاشة هذا الحليف الذي تتكئ عليه وتدفع له "الإتاوة (الخاوة)" مقابل حمايتها، وهذا دليل على أنه لا يوجد شيء يمكن أن يقف في وجه الشعوب عندما تقرر أن تأخذ مصيرها بيديها، وهذا رأيناه قبل ثلاثة عقود، عندما ثارت شعوب الاتحاد السوفييتي ودول أوروبا الشرقية وتوحدت ألمانيا، ورأيناه في انتفاضات الشعوب العربية المستمرة منذ قبل أكثر من عشر سنوات، فهل تكون الانتفاضة الأميركية بارقة أمل لمجتمع أميركي مختلف، أم أن ترامب سينجح في قمعها؟ المؤكد أنه لا يوجد شيء مؤكد في حركة التاريخ.

اقرأ/ي أيضًا | الرجولة في تحمّل المسؤولية...