ما حدث في قرية البعنة يدمي القلوب، تلك القرية التي لم تعرف العنف بهذه الصورة ولا أقل من هذا بكثير، سوى في السنوات القليلة الأخيرة.

تابعوا تطبيق "عرب ٤٨"... سرعة الخبر | دقة المعلومات | عمق التحليلات

فقد قتل خلال فترة ثلاث سنوات ستة عشر إنسانًا في البعنة ودير الأسد في أعمال انتقام وانتقام مضاد.

كانت جريمة القتل هي أقصى ما يمكن أن يحدث لأسرة بأن يكون ابنها قاتلا أو مقتولًا، وفي مجالس العزاء عندما يتوفى الله شابًا، يعزّي الناس ذويه بالقول" مليح أنّه لا طالب ولا مطلوب"، أي أنّه مات موتة طبيعية أو في حادث عمل أو طرق، ولم يمت قاتلًا ولا مقتولًا، لأن القتل من الكبائر التي أقرنها الله سبحانه وتعالى بالكفر والإشراك به. وفي الحديث الشريف" لا يزال المرءُ في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا".

هذا يعني أن كلَّ كبيرة مهما كانت ،يمكن تجازوها سوى القتل، ورغم ذلك، فإنّه في الآية الكريمة يترك فسحة للمغفرة لمن تاب توبة نصوحًا "قُل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، إنَّ الله يغفر الذنوب جميعًا إنه هو الغفور الرحيم".

لا شكّ أن كلّ ضحية من ضحايا البعنة وغير البعنة غالية على أهلها، لا يوجد إنسان رخيص عند أهله، الجميع له قدره من المحبة والاحترام والمشاعر والذكريات، كلُّ ضحية لها من يبكي عليها، ولها عالمها ودائرتها، حتى أولئك الذين نظنُّ أنهم سيِّئون وقساة ومجرمون.

كل ضحية تحمل معها مشاعر وعواطف مشتبكة مع كثيرين، وقتلها يؤلم كلَّ أولئك الذين يحبونها، قد يكونون أقرباء درجة أولى وثانية وثالثة وخامسة، وقد يكونون من المحبّين والأصدقاء من غير قربى دم.

لا نعرف من بدأ وفي أي ظرف وكيف، لم يعد هذا مهمًّا بعدما وصل الحال إلى هذا الوضع البائس، ولكن إلى متى! هل يريد أطراف النّزاع الوصول إلى أربعين ضحية أو خمسين حتى تتوقف هذه الدائرة الدموية أخيرًا، هل يريدون أن تخرب بيوتهم حتى النهاية وأن يقضوا على أنفسهم!

لقد نشبت حروب بين دول وبين قبائل وعائلات وأُسر، وذهب فيها مئات وآلاف وملايين الضحايا، وفي نهاية المطاف، كان لا بدَّ من حقن الدماء، لأن السَّلام حاجة حياتية للناس، ولا قيمة لمال ولا لسلاح ولا لممتلكات، ما دام أنَّ الأمن مفقود، والغني هو من يضع رأسه على وسادته وهو يشعر بالأمن والنقاء.

حالة الرُّعب باتت محسوسة في شوارع وأزقّة قرانا وبلداتنا، وأخصُّ منها البعنة التي قتل فيها ثلاثة رجال خلال يومين وأصيب رابع إصابة خطيرة.

تتحمّل السُّلطات مسؤولية كبيرة، والجميع يعرف أنّه كان بإمكانها تقليص عدد الضحايا وعدد حالات العنف، وهذا ما يدركه المتخاصمون، وأنَّ السُّلطة من ناحيتها ترى فيهم سقط متاع. ولكن نحن أيضا نتحمل مسؤولية، وأقصد أبناء هذه العائلات المتورّطين بهذه الأعمال.

نعم إنّهم يتحمَّلون مسؤولية أنفسهم ومسؤولية أبنائهم وأحفادهم وعائلاتهم.

الواقع مرٌّ ومؤلم وليس سهلا، ومعقّد جدًا، وهناك من يشعر بأنَّه مغلوب ولم يشف غليله، وهناك من يشعر بأنه لا يمكن لأيِّ تعويض أن يعيد له حقَّه، وهذا صحيح لدى كل طرف، فالأرواح والدماء لا تعوّض، ولكن ماذا بعد! هل نستمر في هذا المستنقع الدموي وننتظر الضحية التي تليها ونستعد للانتقام ثم الانتقام المضاد مرَّة أخرى!

يا أهل البعنة وغيرها من بلداتنا حيثما كنتم، ضعوا الله أمام وجوهكم، ضعوا الضمير الإنساني، من يشعر بأنّه مظلوم فليسلّم أمره إلى الله ليأخذ له حقه، ومن يشعر بأنه ظالم فليتق الله في نفسه وبأبنائه وأحفاده، وليعمل كلُّ واحد على تجاوز هذه المرحلة المظلمة الكئيبة التي لن تُذكر بالخير أبدًا في تاريخ شعبنا كله المضروب بهذه الآفة التي باتت خطرًا يهددنا أكثر من أولئك الذين يصرخون "الموت للعرب" وغيرها من هتافات وأعمال عنصرية.

بشرى جيدة، أن جلسة صلح عُقدت يوم أمس الأحد بين الأطراف المتنازعة، بحضور عدد من الوجهاء ورجال الخير، وأقسم الحضور من أطراف النزاع على بدء صفحة جديدة، ورفض هذه الأعمال أو تكرارها. نأمل أن يكون الصُّلح ثابتا وأن يجزي الله خيرًا أولئك الذين بادروا ومن التزموا ويلتزمون به.

اقرأ/ي أيضًا | بعد نزاع دام: التوقيع على وثيقة صلح بين الأطراف المتخاصمة بالبعنة