أشرف مروان والكونسبتسيا../ د.محمود محارب

-

أشرف مروان والكونسبتسيا../ د.محمود محارب
في مساء السابع والعشرين من يونيو/حزيران الماضي أذاع التلفزيون الإسرائيلي في مقدمة نشرة أخباره المركزية خبر وفاة أشرف مروان، في لندن في ظروف غامضة.

وأبرز التلفزيون الإسرائيلي رد رئيس جهاز المخابرات العسكرية الإسرائيلية (أمان) إيلي زعيرا إبان حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 على وفاة أشرف مروان، عندما قال إن موته له علاقة بالأحداث التي سبقت حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973.

جاء اهتمام وسائل الإعلام الإسرائيلية بأشرف مروان على خلفية الخلافات والنقاشات والصراعات داخل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية حول أشرف مروان.

فبعد أن وضعت حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 أوزارها، اندلع صراع في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، وخاصة في داخل جهازي الموساد و"أمان"، بين أصحاب وجهتي نظر متناقضتين، حول السؤال: هل كان أشرف مروان عميلا مخلصا لإسرائيل أم أن المخابرات المصرية غرسته في عام 1969، ليقود أكبر عملية خداع إستراتيجي في العصر الحديث، أدت إلى مباغتة القيادة الإسرائيلية بنشوب حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973؟.
تتفق الأدبيات الإسرائيلية على رواية بداية التخابر بين أشرف مروان وجهاز الموساد، وتذكر المصادر أنه في عام 1969 دخل شاب يرتدي ملابس أنيقة إلى السفارة الإسرائيلية في لندن وطلب مقابلة مندوب الموساد.

لبى موظف السفارة طلبه، وقام الشاب بتعريف نفسه لرجل الموساد قائلا: "أنا أشرف مروان"، فلم يبد مندوب الموساد أي إشارة تدل على أنه كان قد سمع بهذا الاسم من قبل.

فأضاف أشرف مروان "أريد أن أعمل معكم وسأزودكم بمعلومات لا تتوقعونها حتى في أفضل أحلامكم. وأريد مقابل ذلك المال الكثير، الكثير من المال".

وبعد اجتماعه القصير مع مندوب الموساد، وقبل أن يخرج من السفارة قال أشرف مروان لمندوب الموساد "فقط أوصل اسمي إلى تل أبيب، وسأعود إلى هنا في الأسبوع القادم".

فوجئت قيادة الموساد وكادت ألا تصدق، لأن الخبر أجمل من أن يصدق بسبب أهمية الشخص الذي بادر بمحض إرادته واقترح أن يكون عميلا للموساد، أثناء حرب الاستنزاف بين مصر وإسرائيل، فهو زوج ابنة الرئيس جمال عبد الناصر.

لا تتعمق الأدبيات الإسرائيلية في الأسباب التي أوردها أشرف مروان، والتي قادته إلى التخابر مع الموساد، ولا تتطرق إلى الحكاية التي حكاها أو حاكها، كي يقنع قيادة الموساد بصدقه وإخلاصه، ولكن المصادر تجمع على أن أشرف مروان زود القيادة الإسرائيلية بمعلومات قيمة لم تكن تحلم بها.

كانت تقارير أشرف مروان تصل إلى الموساد وتترجم فورا إلى العبرية وتوزع، كما وردت، في حالتها "الخام"، بدون تحريرها أو اختصارها، على عدد محدود للغاية من القادة الإسرائيليين، شمل رئيسة الوزراء الإسرائيلية غولدا مائير ووزير الدفاع موشيه دايان والوزير يسرائيل غليلي ورئيس الأركان ديفد أليعازار ورئيس جهاز الموساد تسفي زمير ورئيس جهاز "أمان" إيلي زعيرا ورئيس قسم الأبحاث في "أمان" ونائبيه.

لم تكن القيادة الإسرائيلية معنية بالحصول من أشرف مروان على معلومات عسكرية بخصوص السلاح والخطط العسكرية فقط، وإنما أيضا عن قرار الحرب وموعدها المحدد.

وتجمع الأدبيات الإسرائيلية على أن أشرف مروان زود القيادة الإسرائيلية بمعلومات عسكرية كثيرة للغاية، مرفقا هذه المعلومات بوثائق أصلية.

ومع مرور الشهور والأعوام باتت المعلومات التي زود بها أشرف مروان الموساد تحتل الأهمية القصوى، وتمنحها القيادة الإسرائيلية الأولوية والصدقية، وتعتمد عليها في تقييمها للوضع اعتمادا عاليا للغاية.

وضح العديد من قادة أجهزة الأمن الإسرائيلية الدرجة العالية التي اعتمدت القيادة الإسرائيلية فيها على معلومات وتقارير أشرف مروان، فمثلا ذكر أريه شليف، الذي شغل منصب رئيس قسم الأبحاث في "أمان" إبان حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، أن الاعتماد على معلومات وتقارير أشرف مروان وصل إلى درجة أنه ما لم يقل أشرف مروان إن مصر ستبدأ الحرب، فإن قادة وخبراء "أمان" والمؤسسة الأمنية الإسرائيلية لا يقبلون ذلك ويعتقدون أن الحرب لن تندلع، حتى وإن كانت كل الدلائل الأخرى تنذر وتشير إلى عكس ذلك تماما.

ويعود ذلك إلى "الكونسبتسيا" أو "الفرضية" التي تطورت وتبلورت في إسرائيل استنادا على التقارير والمعلومات والتحليلات التي أوصلها أشرف مروان إلى إسرائيل.

وفق هذه "الكونسبتسيا" التي كانت مسيطرة على ذهنية متخذي القرار الإسرائيلي، وخاصة قيادة المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، فإن مصر لن تشن حربا على إسرائيل إلا إذا توفر شرطان: أولهما، حصول مصر على طائرات قاذفة هجومية متطورة تصل إلى العمق الإسرائيلي، وثانيهما، حصول مصر على صواريخ سكود بعيدة المدى ومتطورة تصل إلى العمق الإسرائيلي.

ففي مقابلة مع الصحفي الإسرائيلي رامي طال، قال موشيه دايان، وطلب عدم نشرها إلا بعد موته، "لم تكن هذه "الكونسبتسيا" اختراع أحد في جهاز "أمان" أو اختراع رئيس "أمان" أو وزير الدفاع، إنها تطورت عندنا استنادا إلى معلومات استخبارية موثوقة للغاية، اعتقدنا أنها أفضل ما يمكن الحصول عليه.

أستطيع القول بثقة كاملة إن أي جهاز مخابرات في العالم، وأي وزير دفاع أو رئيس أركان يحصل على هذه المعلومات ويعرف كيف تم الحصول عليها، كان سيصل إلى نفس الاستنتاجات".

بعد انتهاء حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وعلى أثر المفاجأة الإسرائيلية بشن مصر وسوريا الحرب، وفشل المخابرات الإسرائيلية الذريع في توقعها، وفي معرفة ساعة الصفر، أخذ الشك يتسرب ويتعزز في داخل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية حول "صدقية ولاء" أشرف مروان الذي جاء بالمعلومات وبـ"الكونسبتسيا" التي كانت القيادة الإسرائيلية أسيرة لها، الأمر الذي كلف إسرائيل ثمنا باهظا لم تكن تتوقعه في أسوأ أحلامها، ومكن مصر وسوريا من مباغتة إسرائيل.

أدى احتدام النقاش في المؤسسة الأمنية حول "الكونسبتسيا" ومصدرها إلى إقامة لجنة فحص داخلية في جهاز الموساد قامت بفحص "ملف" أشرف مروان، واستخلصت أن أشرف مروان لم يكن "عميلا مزدوجا"، كما شكل جهاز المخابرات العسكرية (أمان) لجنة فحص داخلية وتوصلت إلى نفس النتيجة.
في مقابل ذلك ومع مرور السنوات وانكشاف معلومات جديدة عن الحرب أعرب العديد من قادة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية السابقين عن قناعتهم بأن أشرف مروان كان "عميلا مزدوجا" منذ البداية. فعلاوة على إيلي زعيرا الذي كان من أوائل من توصل إلى هذه القناعة أكد رئيس جهاز المخابرات العامة (الشاباك) الأسبق أبراهام شلوم الذي يوصف بأنه خبير في اكتشاف "العملاء المزدوجين"، أنه بعد أن درس ملف أشرف مروان و"ملف تفعيله"، اقتنع بأن أشرف مروان كان منذ البداية "عميلا مزدوجا" مغروسا من قبل المخابرات المصرية.

يتضح من الأدبيات المنشورة في إسرائيل التي تعالج قضية أشرف مروان ازدياد القناعة لدى الكثير من الباحثين والخبراء في إسرائيل بأن أشرف مروان كان "عميلا مزدوجا"، مزروعا من قبل المخابرات المصرية منذ البداية، رغم عدم استعداد قيادة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية للإقرار بذلك.

يورد هؤلاء أسبابا كثيرة قادتهم إلى التوصل إلى قناعتهم تلك أهمها:

أولا، يتساءل هؤلاء كيف يمكن لإنسان بمنزلة أشرف مروان أن يدخل علنا السفارة الإسرائيلية التي كانت بلا شك تحت مراقبة المخابرات البريطانية على الأقل، بدون خشية أو خوف من أن يكشف أمره؟.

ثانيا، ما هو دافع أشرف مروان؟ لماذا يقرر شخص في هذه الدرجة من الأهمية لا ينقصه شيء أن يصبح عميلا لدولة عدو تحتل أرضه وبلده في حالة حرب معها؟.

ثالثا، الإنذارات الكاذبة بنشوب الحرب: أخبر أشرف مروان الموساد الإسرائيلي مرتين أن مصر ستشن حربا عليها، مرة في ديسمبر/كانون الأول 1972 وأخرى في أبريل/نيسان 1973.

يؤكد إيلي زعيرا وآخرون أن أشرف مروان أعطى مرتين إنذارا كاذبا لكي يحدث تآكلا في الحذر والاستعداد الإسرائيلي. ويضيف إن القيادة المصرية أرادت أن تعرف وتدرس كيف ترد إسرائيل على إنذار الحرب، وكم وقتا يستغرق استدعاء إسرائيل قوات الاحتياط.

ولا يقبل هؤلاء التفسير الذي قدمه أشرف مروان حين نسب عدم نشوب الحرب لتغيير السادات موقفه في اللحظة الأخيرة.

رابعا، يناقش هؤلاء أن كتب القادة العسكريين والسياسيين المصريين تؤكد أن تحديد موعد للحرب تم مرة واحدة فقط، وذلك في اجتماع القيادتين العسكريتين المصرية والسورية في الإسكندرية بتاريخ 21-23 أغسطس/آب 1973.

ويتساءل زعيرا وأنصاره كيف أنذر أشرف مروان إسرائيل مرتين بوجود قرار مصري بشن الحرب في ديسمبر/تشرين الأول 1972 وأبريل/نيسان 1973، في حين أن موعد الحرب لم يحدد إلا مرة واحدة في أغسطس/آب 1973.

علاوة على ذلك، يتساءل هؤلاء لماذا لم يوصل أشرف مروان المعلومة عن موعد الحرب، وهو الشخص الذي كان أكثر قربا من السادات في تلك الفترة.

خامسا، يناقش هؤلاء أن الملك حسين زار إسرائيل سريا في سبتمبر/أيلول 1973 حال معرفته بنية مصر وسوريا في مهاجمة إسرائيل لإبلاغ غولدا مائير باستعدادات سوريا ومصر لشن حرب على إسرائيل في "القريب العاجل".

ويتساءل هؤلاء لما كان الملك حسين قد علم بوشك وقوع الحرب، وفورا أخبر إسرائيل، أيعقل أن يكون أشرف مروان على غير علم بقرار الحرب وهو الشخص اللصيق بالسادات في تلك الفترة ورجل المهمات الخاصة؟.

سادسا، يضيف هؤلاء أنه في نهاية أغسطس/آب 1973، زار السادات السعودية وأخبر الملك فيصل أن مصر وسوريا ستشنان الحرب "قريبا جدا"، وأن أشرف مروان حضر هذا الاجتماع واستمع إلى ما قاله السادات عن الحرب، ويتساءل زعيرا، بعد أن يورد المصادر التي تؤكد حضور أشرف مروان هذا الاجتماع، لماذا لم يخبر أشرف مروان الموساد بهذا الأمر؟ لماذا لم يخبر بوشك اندلاع الحرب؟.

ويضيف زعيرا أنه بدل أن يقوم أشرف مروان بإنذار الإسرائيليين بوشك اندلاع الحرب، وبالاجتماع بين السادات وفيصل، قام أشرف مروان بإخبار الموساد أن السادات أجل الحرب إلى آخر العام.

سابعا, اجتماع أشرف مروان وتسفي زمير رئيس الموساد في لندن، يناقش هؤلاء أن أشرف مروان نظم اجتماعه مع رئيس الموساد زمير، ليعقد في الساعة العاشرة بتوقيت لندن، أي الثانية عشرة، بتوقيت القاهرة، من صباح السادس من أكتوبر/تشرين الأول 1973، لإدراك القيادة المصرية أن إسرائيل ستعلم بالضرورة، من خلال التصوير من الجو، ومن مصادر عديدة أخرى، بنية مصر شن الحرب.

ويضيف هؤلاء أن أشرف مروان أخبر زمير في هذا الاجتماع، الذي عقد قبل ساعة الصفر باثنتي عشرة ساعة فقط، أن السادات قرر أن يشن الحرب ولكن قادة الجيش يعارضونه.

ويضيف هؤلاء أن أشرف مروان أخبر زمير أنه إذا ما حدثت الحرب، فإنها ستحدث عند مغيب الشمس، في السادسة مساء، في حين أن الحرب اندلعت قبل تلك الساعة، بأربع ساعات ثمينة.

ويناقش هؤلاء، وخاصة إيلي زعيرا، أن القيادة المصرية كانت تدرك جيدا أن إسرائيل بحاجة إلى أربعين ساعة على الأقل لدعوة جيش الاحتياط.

ثامنا، بعد سلسلة متواصلة من التلميحات الكثيرة في الكتب والمنشورات الإسرائيلية حول وجود عميل في القيادة المصرية يعمل لصالح إسرائيل، قام المؤرخ الإسرائيلي أهرون برغمان، في كتابه "تاريخ إسرائيل" المنشور في عام 2002، باستعمال كنية "النسيب" عند تطرقه إلى هذا "العميل".

وأكد برجمان في كتابه هذا أن "النسيب" كان "عميلا مزدوجا" وأنه كان السبب وراء نجاح خطة الخداع الإستراتيجي المصرية.

وبعد ذلك، وفي مقابلة له مع صحيفة الأهرام أكد أهرون برغمان أن "النسيب" كان أشرف مروان.

ويناقش الفريق الإسرائيلي المقتنع بأن أشرف مروان كان "عميلا مزدوجا" أنه بعد نشر اسمه ظل يدخل ويخرج من مصر بحرية.

علاوة على ذلك لم ينته الأمر بأن السلطات المصرية لم تتخذ أي خطوة ضده، بل قامت بدعوته إلى حضور الاحتفالات المصرية بمناسبة مرور ثلاثة عقود على حرب أكتوبر/تشرين الأول ليشارك إلى جانب الرئيس المصري في هذه الاحتفالات.

في سياق استماتته في الدفاع عن قناعته بأن أشرف مروان كان مغروسا من قبل المخابرات المصرية، يناقش إيلي زعيرا أنه من الصعب على أي مؤسسة مخابرات الاعتراف بالخطأ. ويضيف أنه من شبه المستحيل اعتراف أي مؤسسة مخابرات بأنها قد خدعت لأن ذلك ليس في قاموسها.

والسؤال هو: هل كان موت أشرف مروان مرتبطا بأحداث جرت قبل حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 كما ذكر زعيرا؟ وهل كان أسهل بالنسبة للموساد "معالجة" أشرف مروان بهذه الطريقة، من أن يعترف بأنه قد خدع؟ هذا هو السؤال.

* نشرت هذه المادة في موقع "الجزيرة نت"

التعليقات