جدران أقامها الجيش وأبقاها مرسي قتلت الحياة في شوارع كانت تنبض بها وسط القاهرة

هذا الجدار هو واحد من حوالي عشرة جدران ما زالت تسد عدداً مماثلاً من الطرق في المناطق السكنية المركزية والاستراتيجية في وسط القاهرة. وعلى بعد صفين من العمارات الى الشمال، تعج الحياة بالنشاط والحركة. ولكن الجدران خنقت الشوارع الاخرى القريبة منها والتي كانت طافحة بالحيوية في وقت من الاوقات.

جدران أقامها الجيش وأبقاها مرسي قتلت الحياة في شوارع كانت تنبض بها وسط القاهرة


نشرت صحيفة "ذي غارديان" اليوم الجمعة تقريراً من مراسلها في القاهرة باتريك كينغزلي يقول فيه ان السكان واصحاب المحلات التجارية يقولون ان الجدران التي اقامها الجيش المصري بارتفاع 12 قدماً (4 امتار) غيرت طبيعة شوارع في وسط القاهرة كانت نابضة بالحياة والحركة في وقت من الاوقات وحولتها ازقة صامتة.

"في احد الايام في اواخر 2011 وصلت مدربة اليوغا سليمة بركات الى الاستديو الذي تملكه في وسط القاهرة لتجد جدارا يسد المدخل. وكان الجنود قد بنوا سلسلة من الحواجز الكونكريتية بارتفاع اربعة امتار على عرض شارعها، مقسمين الطريق – وبنايتها – الى قسمين. في جانب كان مرآب سيارتها، وفي الجانب الآخر بابها الامامي.


قالت بركات: "عمتي البالغة من العمر 80 سنة تعيش في العمارة. لو كان اي شيء قد حدث لعمتي، كيف كانت ستخرج؟".

هذا الجدار هو واحد من حوالي عشرة جدران ما زالت تسد عدداً مماثلاً من الطرق في المناطق السكنية المركزية والاستراتيجية في وسط القاهرة. وعلى بعد صفين من العمارات الى الشمال، تعج الحياة بالنشاط والحركة. ولكن الجدران خنقت الشوارع الاخرى القريبة منها والتي كانت طافحة بالحيوية في وقت من الاوقات.

قال الموظف الحكومي عبد المقصود الذي تفصل بين بيته ومكتبه مسافة 100 متر ولكنهما صارا مفصولين الآن بجدار على بعد ثلاثة شوارع من شارع بركات: "لم يعد الناس يعرفون كيف يعيشون هنا. كأننا بلغنا مرحلة التعفن. لم تعد هنا حركة للسيارات او الناس".

اقام هذه الجدران، على ما يفترض كاجراء موقت، النظام الدكتاتوري العسكري الذي حكم البلاد بعد سقوط حسني مبارك. وفي تشرين الثاني (نوفمبر) 2011 حاول الثوار المحتجون على حكم الجيش شق طريقهم عنوة من ميدان التحرير نحو الوزارات الحكومية القريبة. وبعد ايام من القتال القاتل بنى الجيش الجدران لمنعهم من ذلك. وهي ما زالت هناك.

قال جرجس حنا، وهو مالك محل تنظيف ملابس كان دكانه مطلاً في وقت من الاوقات على شارع يعج بالحركة ولكنه الآن في اسفل شارع مغلق بسبب الجدار القائم في شارع فهمي: "انه يؤثر علينا جميعاً – على الناس الذين يعملون هنا والناس الذين يعيشون هنا". وقال حنا ان العمل قل بصورة ملحوظة بعد اقامته (الجدار) بالنظر الى ان حالات ازدحام السير الناجمة عن ذلك جعلت الوصول الى محله صعباً. واضاف: "بعض الزبائن كانوا يأتون الي منذ زمن طويل، ولكنهم الآن يذهبون الى اماكن اقرب الى بيوتهم. كان هناك الكثير من المارة. اما الآن فلن يمر احد في هذا الشارع لانه لا توجد دكاكين".

بالنسبة الى بعض الناس تشكل الجدران اكثر من مجرد اعاقة: انها ايضاً تذكير بصري بكيف ان الحكومة التي يقودها الاسلاميون غير مهتمة بمشاغل الناس المصريين العاديين، مثلها مثل الانظمة الدكتاتورية التي سبقتها. والواقع ان الحكومة الجديدة التي يرأسها اول رئيس لمصر منتخب في انتخابات حرة، محمد مرسي المنتمي الى الاخوان المسلمين، لم تحافظ على الجدران فحسب ولكنها اقامت ايضاً جدراناً جديدة.

قال محمد الشاهد رئيس تحرير "كايرواوبزيرفر" وهو موقع اخباري عن المساحة الحضرية في القاهرة: "الجدران هي احدث تكرار للفجوة بين الحكام والمحكومين. الاخوان (المسلمون) ليسوا سوى غطاء مدني للعقلية نفسها التي تحكم مصر منذ اكثر من 40 سنة".

قال زفت، وهو واحد من فناني خربشات كثيرين رسموا جداريات كعمل تحد: "انه اضطهاد تستطيع ان تراه بام عينيك. لقد استعمرنا العسكريون والآن يستعمرنا الدين".

بالنسبة الى زفت، وهو طالب هندسة شارك في احتجاجات تشرين الثاني (نوفمبر) 2011 توجد للجدران اهمية عاطفية. وقال: "ارى شارعاً معيناً واستطيع ان اتذكر ان احداً ما مات هناك، او ان احداً فقد بصره قرب ذلك الحائط". واشار الى نتوء في عامود كهرباء قرب جدار في شارع منصور وقال: "المس هذه. انها رصاصة. لقد دخلت هنا، واستقرت هنا".

كانت الرسومات في البداية تبشر بالتفاؤل. اذ قام احد الفنانين برسم بداية طريق واسع يبدو انه خلف الحائط، للتذكير بما كانت الشوارع تبدو عليه في الماضي. وقام زفت برسم قوس قزح على سطح آخر والاطفال يلهون تحته. وفي وقت لاحق اصبحت اعمال زفت تدل على انه قد نفد صبره. اذ قام قبل وقت قصير بمساعدة صديق في رسم صورة زيتية مرعبة لمهاجمة سيدة في ميدان التحرير، للتذكير بموجة ظهرت اخيرا للاعتداء الجنسي على الفتيات المشاركات في الاحتجاجات.

وقالت سارة يوسف، وهي مديرة منظمة غير حكومية، وتملك شقة في شارع يوسف الجندي: "كانت منطقة بديعة في الماضي – وكان ابناء الشعب يضحكون ويروون الفكاهات طوال الوقت. لكن بعد تلك الجدران، ساد الهدوء المكان، واصبح خاملا الى حد كبير وفي بعض الاحيان يسبب الشعور بالخوف. اذ انه اصبح مكانا تجري فيه كل الامور الشنيعة: من سلب ونهب. ميدان التحرير مكان بديع، ولكني اتوجه الى منزلي وهو على بعد مسافة قصيرة لاجد المكان في ظلام تملأه النفايات".

اضطرت السيدة يوسف وزوجها الى الانتقال من شقتهما، وكانت الجدران احد الاسباب، وسبب آخر هو الغازات المسيلة للدموع التي تطلق باستمرار على المتظاهرين القريبين من الشقة، ما زاد من حدة مرض الربو الذي تعاني منه. وقالت: "بقيت رائحة هذا الغاز تنبعث من اثاث منزلي لثمانية شهور. حتى ان الدم بدأ يخرج مع سعال احد الجيران".

يقوم بعض السكان، ممن وهبهم الله قوة الجسد وممن يرتدون ملابس اعتيادية، باختصار الزمن بتسلق الجدران. لكنه عمل مرهق، وخطر في بعض الاحيان. فقد قال احمد تقي وهو يتسلق الجدار، يحمل كيسا به (قوارير) عصير الى مطعمه على الجانب الاخر من الجدار "حاول شقيقي تسلق الجدار، وتسبب ذلك في اصابة ساقه بكسور". وعمد الكثير من المدارس الى اجبار الطلبة على سلوك طريق طويل حول الحائط. ولفترة من الوقت كانت الطريق الوحيدة الى احدى المدارس تمر عبر منزل سليمة بركات.

وقال منصور، وهو موظف حكومي عاش في المنطقة طيلة حياته: "كنت اصل الى مكان عملي خلال ثانيتين في الماضي. اما الان فان علي ان اسير حول المكان باكمله. وهذا أمر مؤسف. بل ان على بعض زملائي ان يقوموا من فراشهم في الخامسة صباحا لان المرور يعاني من زحام شديد".

يعمل سمير ابو عيسى في مساعدة كبار المدراء التنفيذيين الذين لا وقت لديهم في ايجاد مكان لسياراتهم، ويتولى هو المهمة عنهم. غير ان اعماله تدهورت بسبب الجدران والاحتجاجات.

وقال: "هناك اناس فقدوا اعمالهم في هذه المناطق ولذلك فانهم لا يجيئون الى هنا. كما ان هناك شعورا عاما ان الوضع خطر للغاية، ولذا فانه لم تعد لدى اصحاب السيارات ثقة بترك المفاتيح معي. وبسبب الجدران، فان الناس يشعرون بمزيد من القنوط في موضوع ايجاد مكان لايقاف سياراتهم، وعليه فانهم يوقفونها في اي مكان، ولا يطلبون مني مساعدتهم. ولم يبق لدي من الزبائن الا اولئك الذين كانوا هنا لعدة سنوات. ولم اجد زبائن جددا في الفترة الاخيرة".

ثم ان سائقي سيارات الاجرة يشعرون بالضيق ايضا. فالجدران جعلت قيادة السيارة اكثر صعوبة في انحاء القاهرة. وقال السائق مهدي السيد في طريق مغلق اصبح مكانا لوقوف السيارات "كانت الحركة تعج في هذا الشارع. وكنت اعبر المكان في الماضي في اقل من خمس دقائق. واحتاج الان الى نصف ساعة اكثر من ذلك. اذ لا بد من سلوك طريق طويل، حيث هناك عدد اقل من المارة".

لم يتسبب اقفال الطرقات بنتائج ايجابية تستحق الذكر. فالجدران تسببت في ازدياد الحركة في بعض الطرقات. اما بالنسبة الى طريق القصر العيني، الذي عرف بحركة مرور صعبة في العادة ويمر على مقربة من مبنى البرلمان، فان الجدران ازالت السيارات من المنطقة. قال الشاهد، الذي يعيش على مقربة من المكان: "انه طريق تحول الى ما يشبه الضاحية. كان مشهدا غريبا ما اظن انه كان مقصودا ان يكون كذلك. كانت منطقة القصر العيني تجربة قاسية تطلق فيها السيارات ابواقها كل الوقت. اما الان فانها مكان اكثر هدوءا، الى حد ما".اما السيدة يوسف التي ذهبت لتعيش مع والديها، فان ذلك لا يعوضها عن بيتها. وقالت: "انني اشتاق الى منزلي".

التعليقات