يوميّات المونديال: من الصحراء العربيّة نحدّثكم

منحت قطر مساحات واسعة لثقافات عديدة ومختلفة كانت حاضرة في كل مكان تزوره. هنا، في الصحراء العربيّة وفي هذا الحدث الكونيّ، يشعر العربيّ بأنه حقًا من أهل البلاد وفي الوقت ذاته بأنه جزء من حضارة كونيّة فيها مكانة متساوية للجميع.

يوميّات المونديال: من الصحراء العربيّة نحدّثكم

لوسيل (الصور: gettyimages)

حطّت طائرة الخطوط الجوية القطرية في الدوحة قادمة من عمّان عند منتصف ليل الإثنين – الثلاثاء. سارت إلى محطتها الأخيرة بقدر أكثر من المعتاد قليلًا، فأرض المطار مكتظّة بالطائرات حتى في ساعات الليل المتأخرة. كان ذلك باعثا على القلق في ظلّ التعب من السفر. لا بد أن يكون في انتظارنا داخل المطار طابور طويل من الناس القادمين من أنحاء العالم إلى المونديال، لتطول بذلك الإجراءات من ختْم الجواز، واستلام حقائب السفر. سرعان ما تبدَّد ذلك، فإجراءات الدخول كانت كلها إلكترونيّة وسريعة، أو كما قال زائر إنه منذ لحظة الدخول للمطار وحتى طلب سيارة أجرة "أوبر"، بالكاد مرّت عشرون دقيقة. إجراءات سهلة ومتطوّرة لا تعيق حركة القادمين في المطار، فيما يقول آخر: تخيل لو كانت هذه الأعداد الكبيرة من القادمين قد حطّت في مطار "بن غوريون"، كم من الوقت كان سيستغرق هذا الإجراء في ظلّ التشديدات الأمنيّة الإسرائيليّة؟

قبل أن تتجاوز بوابة الخروج من المطار، تنتظرك أكشاك لتوزيع شرائح مجانيّة للهواتف الخليويّة، تشمل 2 "جيجا" للإنترنت، و2022 مكالمة داخليّة. وينضاف إليها التنقُّل مجانًا بالحافلات وشبكة قطار الميترو طيلة أيام المونديال، وحتى إن اضطررنا إلى استخدام سيارة أجرة عادية أو "أوبر"، فإن معدّل التكلفة يصل إلى عشرين ريالا فحسب، أي أقلّ من عشرين شيكلا بقليل.

مطار الدوحة

في الدوحة

كل من زار هذه المدينة اعتبرها ورشة إعمار على مدار الساعة، حيث تعمل الرافعات والجرّافات ليلا ونهارًا، بهدف إنهاء المشاريع المختلفة قبل انطلاق المونديال. وهذه المشاريع لا تقتصر على إنشاء ملاعب كرة القدم الضخمة والحديثة، بل شبكة طرقات ومواصلات غيّرت من شكل المدينة، وجعلتها تبدو مدينة أخرى، وصار يربطها بالمدن المجاورة شبكة طرقات سريعة يصل فيها عدد المسارات في كل اتجاه إلى ستة مسارات، أي بمساحة مهبط طائرة ركاب ضخمة.

رغم العدد الهائل من الزوّار، لم تشهد الدوحة ازدحامات مرورية في الطرق الرئيسية أو حتى الداخلية، وكان التنقل سهلا، فمساحة المدينة الصغيرة نسبيًا لمثل هذا الحدث العالميّ، أثارت القلق لدى شريحة واسعة من سكانها بأن تختنق المدينة بالسيارات خلال المونديال، لكن ذلك تبدَّد، ومن غادَر قطر خشية من الأزمات خلال فترة المونديال، خسر الحدث العالميّ والأجواء الاستثنائيّة، يقول شاب يقيم في العاصمة القطرية، غادرت أسرته الدولة هربًا من الأزمات والازدحامات.

رغم العدد الهائل من الزوّار، لم تشهد الدوحة ازدحامات مرورية في الطرق الرئيسية أو حتى الداخلية

خلافًا لشبكات التواصل الاجتماعي، فإن وجود الصحافيين الإسرائيليين، أو الإسرائيليين عمومًا، غير ملحوظ في المدينة، إطلاقًا، ليس لأن أعدادهم محدودة في ظل العدد الكبير من الزوّار فقط، بل لأنّ الحدث أيضًا أهمّ من استفزازاتهم للمشجعين العرب. غير ملحوظين في حدث عربي بامتياز، فحيثما حللتَ تلتقي بمشجعين عربًا من مختلف الدول، حتى أن الخلاف بين المغرب والجزائر بات هامشيًّا، فلا فرق بين مغربيّ أو جزائريّ أو سعوديّ أو قطريّ. آلاف السعوديين يتجولون في الدوحة كأنها عاصمتهم. يلتقي المشجعون في الميترو بالطريق لمباراة السعودية أمام المكسيك في استاد "لوسيل"، ليتحمّس السعوديّ لتقدُّم المنتخب التونسيّ على الفرنسيّ خلال متابعته لأحداث المباراة عبر "السمارتفون". حتى الأرجنتينيون وغيرهم باتوا يردّدون بعض الكلمات العربيّة مع المشجعين العرب في الميترو.

هنا "لوسيل"

هذه المدينة الجديدة الملاصقة للدوحة، تضمّ أحدث وأجمل ملاعب المونديال. مدينة قيد الإنشاء، وتحمل ملامح عصريّة وحديثة جدًا. في الخروج من الميترو في محطة لوسيل، يهتف مشجّعو المنتخب السعوديّ وكذلك المكسيكيّ برفقة بعضهم؛ لا توتّر ولا مشاحنات، بالعكس طغت الأجواء الوديّة. يتدفّق آلاف المشجعين السعوديين خروجًا من المحطة بسلاسة. أعداد كبيرة من المشجعين تتجه نحو استاد لوسيل بانتظام لافت. لا حاجة لتدخّل رجال الأمن أو النظام. ما عليهم إلا توجيه الناس إلى المكان الصحيح. لاستاد لوسيل "استمِر إلى الأمام"، لدرب لوسيل "اتجه إلى اليسار"؛ انضباط تامّ وسلاسة غير متوقّعة. كما ظلّت الشوارع والأمكنة في غاية النظافة، رغم الحشود الكبيرة المتواجدة. تتنازل عن التدخين حتى لا تضطر إلى تشويه المنظر. لا عواقب سجائر ولا مخلفات مأكولات في المكان. انتظام ونظافة... وأخلاق. كأنه مشهد تمثيليّ لفيلم وليس واقعًا.

درب لوسيل

في درب لوسيل -وهي جادّة واسعة تمتدّ على عدة كيلومترات تصلح لتنظيم ماراثون- يسير الناس وسط محالّ تجاريّة ومطاعم. لا تلحظ وجود رجال أمن أو شرطة في المكان، إلا في مداخل هذه المنطقة، لتنظيم حركة المشاة والسير، لكن الشعور بالأمن الفردي حاضر بقوّة. لا سرقات ولا "نشّالين" رغم الحشود الكبيرة. تسير نساء خليجيات مع أطفالهنّ في درب لوسيل، وإلى جوارهن مشجعون من المكسيك، ومجموعة من المشجعين الألمان، وفي الأثناء، تتجمّع حشود من السعوديين لحضور مباراة منتخبهم الوطنيّ. وإذا دخلتَ في دكان "الركن الرياضي" لشراء قميص منتخبك، فلا تسأل عن تونس والمغرب، فكلّها بيعت، وبقيت بعض المقاسات؛ إما الواسعة جدًا أو الصغيرة جدًا. هناك وفرة بقمصان منتخبات مثل أستراليا وكندا. البرازيل مثل المغرب وتونس، عملة نادرة. ألمانيا غير متوفّرة حاليا إلا بعض القمصان ذات التصاميم المختلفة، ولكنها ليست الزيّ الرسميّ.

التجوّل في لوسيل يكشف عن وجهة قطر المقبلة. هنا مدينة حديثة جدًا وأصيلة جدًا، فيها مزيج من عدة عواصم شرقية وغربية، في بعض مطاعهما تشعر مرّة كأنك في بيروت، ومرّة في عمّان. لا تحضر هنا جدلية الصراع المصطنَع بين التراث والحداثة، أو الأصالة والمعاصَرة، هنا يجتمعان بتصالح وتماهٍ، لتتساءل: لماذا يصرّ الإعلام الغربيّ والإسرائيليّ على تجاهُل هذه المشاريع العصريّة والتحديثيّة؟

ليس كل شيء استهلاكيًّا هنا. تستطيع مثلا في الدوحة أن تزور متحف "بن جلمود" لتخليد ذكرى ضحايا العبوديّة في زمن تجارة اللؤلؤ المزدهرة قبل اكتشاف النفط. تمرّ في هذا المتحف بمسارات تشرح قصة هؤلاء الضحايا، ترى وجوههم وبشرتهم السوداء. ومن هنا يمكنك الانتقال إلى المتحف العربيّ للفن الحديث، والذي يحوي لوحات وأعمال لفنانين عرب معاصرين. ومنه تنتقل لمتحف الفن الإسلاميّ. كما وفّرت قطر مساحات واسعة للمشجعين في مناطق مختلفة، متعدّدة الثقافات، تُعرض فيها المباريات على شاشات ضخمة، يتجمّع فيها كل مساء مشجعون شبان من أرجاء العالم، وأُسَر عربيّة لمتابعة المباريات.

في سوق "واقف"
في سوق "واقف"

في سوق "واقف" الشعبيّ في الدوحة، يسير آلاف الزائرين بين الزقاق والدكاكين الصغيرة، التي تبيع من بين أمور أخرى، أعلام الدول المشاركة في المونديال، واللافت هو علم فلسطين المنتشر بوضوح عند مداخل الدكاكين، إلى جانب أعلام دول مثل البرازيل والأرجنتين والمغرب وتونس وغيرها؛ فعلم فلسطين صار في هذا المونديال من بين الأعلام الأكثر حضورًا، تجده في الملاعب والشوارع والأزقّة، وهذا ما يغيظ الإعلاميين الإسرائيليين. هنا تدرك لماذا يغضبون، فهم يدّعون بأن هذا "مونديال عربيّ" وليس في دول عربيّة، فعنصريّتهم لا تسمح باستيعاب بأن بمقدور العرب تنظيم حدث عالميّ بهذا المستوى والنظام والنظافة والأمان. هذا يتناقض مع ذهنيّتهم عن أنفسهم وعن العرب، فهم يدعون أنهم دولة الحضارة والتقدُّم في صحراء من الديكتاتوريات والتخلُّف والتطرُّف. ما العمل وقد التمَّ الناس من أنحاء العالم في هذه البقعة من الصحراء العربيّة، وانبهروا بما صنع العرب؟ لا يحسدون هؤلاء على موقفهم، فالعنصريّة تعمي الأبصار والقلوب، يصرّون على تنغيص وتشويه فرح الناس هنا بهذا الحدث، لكنهم فشلوا، فإن وجدوا هنا فهم غير حاضرين بالمرّة. هنا فعلا الرياضة أقوى من العنصريّة والفوقيّة، فالحطّة أو الكوفيّة التي سعى الإعلام الإسرائيليّ إلى تحويلها إلى رمز للتخلّف والإرهاب، صار يلبسها مشجعون من البرازيل والأرجنتين وألمانيا والبرتغال وغيرها، وقد صُبغت بألوان منتخباتهم.

في سوق "واقف"

في الوكرة، حيث أُنشِئت مئات الشقق لاستضافة المشجعين على بُعد أقل من نصف ساعة من الدوحة، تنتظم كل خمس دقائق حافلات تصل إلى أقرب محطة للميترو، لتسهل على الزائرين التنقل مجانا، وتوفر الوقت وأزمات السير. هنا مبان بيضاء من أربعة طوابق تمتدّ إلى نهاية الأفق، وفي كل شقة ثلاث غرف لشخصين وحمام بالإضافة إلى مطبخ مشترك. تفصل المباني ممرات واسعة، وعلى الرغم من العدد الكبير من المباني التي علّق سكانها على شرفاتها أعلام بلادهم، يلتزم الجميع بالهدوء والنظام، ليلا ونهارا.

في الميترو

منذ الهبوط في مطار الدوحة تشعر وتلمس أن قطر اجتهدت بتقديم أفضل ضيافة للقادمين من الشرق والغرب، بتسريع وتسهيل الإجراءات، وتوفير الإنترنت، والتنقل بالمواصلات العامة مجانًا، وتجنُّب الازدحامات المروريّة من خلال شبكة طرقات ضخمة، وتوفير الأمن الشخصي؛ والأهمّ أنها منحت مساحات واسعة لثقافات عديدة ومختلفة كانت حاضرة في كل مكان تزوره. هنا، في الصحراء العربيّة وفي هذا الحدث الكونيّ، يشعر العربيّ بأنه حقًا من أهل البلاد وفي الوقت ذاته بأنه جزء من حضارة كونيّة فيها مكانة متساوية للجميع.

اقرأ/ي أيضًا | العرب والمونديال

التعليقات