25/11/2022 - 16:36

العرب والمونديال

بعد عقد عربيّ دامٍ، استردّ العرب الكثير من الثقة بالنفس، مهما كانت نتائج المنتخبات العربيّة. استردّ العرب الثقة بأنهم قادرون، وأنهم موحّدون بالوجدان، والخلافات بين الأنظمة والدول لا تفرّق بينهم، وأنّ حملات التشويه والتحريض الغربيّة لا تزيدهم إلّا وحدة

العرب والمونديال

("الأناضول")

يعزّ على بعض الأوروبيين أن تنظَّم بطولة كأس العالم خارج قارتهم، ويحزّ في نفوسهم أكثر أن تنظَّم في دولة عربية صغيرة، لتختلط الدوافع السياسية والاقتصادية في إطلاق حملة تحريض على استضافة دولة عربيّة لهذا الحدث العالميّ. أما في إسرائيل، يتباكى صحافيّ موفد إلى الدوحة من أن سائق سيارة أجرة أنزله حينما عرف إنه إسرائيليّ، لكن مواساته كانت في أنّ السائق تنازل عن حقّه (أُجرة السّفر).

ما يهمّنا نحن العرب أنّه بعد عقد انطلق من تونس، سُمّي "الربيع العربيّ" وحوّله الغرب إلى عقد دامٍ، بتواطئه مع الأنظمة التي استفردت بشعوبها وقتلتهم وهجّرتهم، لأنها طالبت بالكرامة والحريّة والعدالة؛ فإن بطولة كأس العالم في بلد عربيّ، وبمشاركة منتخبات عربيّة، قد أعادت الوحدة لوجدان المواطنين العرب، بعد عشر سنوات توحَّد فيها الوجدان العربيّ، آملا بالتغيير نحو مستقبَل أفضل. ليست هذه الوحدة بالوجدان والفرح المشترَك لكلّ فوز أو تعادل لمنتخب عربيّ أمرًا عابرًا، بعد عقد تمزّقت فيها أوطاننا العربيّة، وسالت فيها الدماء، وتشرّد فيها البشر.

إن الفرح العربيّ العامّ بفوز المنتخب السعوديّ على منتخب الأرجنتين، ليس سلوكًا عاطفيًّا عابرًا أو سطحيًّا، إنه شعور وجدانيّ بالوحدة وبالانتماء العربيّ المشترَك، يتجاوز السياسة وموضوع الأنظمة، وينفي ما ترسَّخ في نفوسنا خلال العقد الأخير الدامي، بأن العرب ليسوا أمّةً، بل تحوّلوا إلى طوائف ومذاهب ومشارقة ومغاربة؛ وكلّ شعب غارق في همّه فحسب. هذه اللحظات الصغيرة المشترَكة من الفرح لفوز منتخب عربيّ، هي استعادة أو استرداد لحقيقة أن العرب مثل كلّ الأمم، هم بشر لهم مصير مشترَك، ووجدانهم مشترَك، وقادرون على استضافة أهمّ حدث رياضيّ عالميّ، وبتفوّق. والوجدان المشترَك هو أساس الهويّة والانتماء الجماعييْن. فالانتماء ليس معطى عقلانيًّا جاهزًا أو آليًّا، أو سؤالا تنظيميًّا أو مفاهيميًّا، هو أوّلا وجدان مشترَك وجماعيّ، وكذلك تتشكّل الهويّة الجماعيّة؛ بالوجدان المشترَك، وفي أبسط اللحظات وأعظمها، بالفرح والخيبة المشتركيْن.

يسخر البعض من هذه الأحداث الرياضيّة العالميّة، ويعتبرون هذه المسابقات إلهاءً وترويجا للأوهام؛ لكنّ الأمر يتجاوز الترفيه والمتعة من الحدث؛ فمثل هذه الأحداث الضخمة، هي في الحقيقة امتحان للأمم وقدرتها على التخطيط والتنظيم والبناء والإدارة والاستضافة، وحتّى قدرتها على الإنفاق والاستثمار، وتجاوُز الخلافات السياسيّة. من ينظر إلى الحدث كمجرّد ترفيه وإلهاء وركض خلف كرة مطاطيّة، فإنه يتجاهل أو تغيب عنه حقيقة الامتحان؛ امتحان القُدرة.

بعد عقد عربيّ دامٍ، استردّ العرب الكثير من الثّقة بالنفس، مهما كانت نتائج المنتخبات العربيّة. استردّ العرب الثقة بأنهم قادرون، وأنهم موحّدون بالوجدان، والخلافات بين الأنظمة والدول لا تفرّق بينهم، وأنّ حملات التشويه والتحريض الغربيّة لا تزيدهم إلّا وحدة، فتهتف جماهير المنتخب المغربيّ من المدرجات لفلسطين، ويتجمّع كل المشجعين العرب في المدرّجات لمناصرة أيّ منتخب عربيّ في البطولة، إذ لا فرق بين شاميّ وخليجيّ أو مغاربيّ.

قبل عقد انتشى العرب بقدرتهم على السيطرة على مصائرهم ومصير أوطانهم، واستعادوا الثقة بأنفسهم وبأنهم قادرون على التغيير، لكن الأنظمة حطّمت وجدانهم ببطشها، وتهجيرهم إلى خارج أوطانهم. عقد آخر ينطلق بحدث عالميّ على أرض عربيّة، تأكَّد فيه للعرب مرة أخرى أنهم قادرون وأن وجدانهم مشترَك، وعلى الأقلّ أن لاعبيهم مهَرة، وعلى ميسي ينتصرون.

التعليقات