السودان: شهر على الحرب ولا مخرج في الأفق

كان السودان غارقا قبل الحرب في فوضى سياسية واقتصادية. وبعد شهر من المعارك بين قوات الجنرالين المتصارعين على السلطة، بات البلد مهددا بالانهيار. فيما تراوح محادثات التهدئة مكانها في ظل اقتناع الجنرالين "بأنه يستطيع حسم الأمر عسكريا".

السودان: شهر على الحرب ولا مخرج في الأفق

(Getty Images)

في 15 نيسان/ أبريل الماضي، بدأت الاشتباكات بين الجيش السوداني وقوات "الدعم السريع"، اندلعت في العاصمة الخرطوم وعدة مدن شمالي وغربي البلاد، وذلك بعد تبادل الطرفين الاتهامات ببدء أحدهما مهاجمة مقار تابعة للطرف الآخر، ووصف الجيش السوداني قوات الدعم السريع بـ"المتمردة".

ومع مواصلة الطرفين القتال بأمل الانتصار في معركة الحسم على مراكز السلطة في البلاد، تتضاعف حصيلة الاشتباكات في شتى المجالات. ومن بين ذلك أعداد القتلى والمصابين، مرورا بالخسائر المادية التي طاولت المواقع الحيوية في العاصمة، مع تفاقم أعداد الفارين من القتال بالنزوح داخليا أو خارج البلاد.

وأوقعت الحرب بين قائد الجيش، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات الدعم السريع، الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي)، أكثر من 750 قتيلا وآلاف الجرحى، إضافة الى قرابة مليون نازح ولاجئ؛ فيما يبدو أن الجنرالين يفضلان خوض نزاع طويل الأمد، على تقديم تنازلات حول طاولة المفاوضات من أجل التوصل إلى تسوية.

خريطة السيطرة

انحصرت المعارك بين الجيش والدعم السريع في الأسبوع الأول في مدن الخرطوم (وسط) ومروي (شمال) والجنينة (غرب)، ثم تركزت بعدها في مدن العاصمة الثلاث: الخرطوم، وبحري، وأم درمان، وأحيانا في مدينتي نيالا والجنينة.

وخلال الشهر الأول، سعى كلا الطرفين لإحكام السيطرة على المواقع الإستراتيجية والحيوية في البلاد مثل المطارات والجسور ومقرات الجيش والقصر الرئاسي للوصول إلى حسم سريع للمعارك.

لكن ذلك ما لم يتحقق على أرض الواقع، فانتهى الحال بتقاسم المواقع الحيوية بين الجانبين.

وفي الخرطوم، ما زالت قوات الدعم السريع تنتشر بمواقع كثيرة عبر مجاميع عرباتها العسكرية وجنودها المدججين بأسلحة خفيفة وثقيلة، منها مضادات للطيران.

أهم المواقع

وأهم المواقع التي تنتشر فيها الدعم السريع الجهات المحيطة بالقصر الرئاسي والقيادة العامة للجيش ومطار الخرطوم الدولي، ومصفاة الجيلي للبترول ومحطة المياه الرئيسية بمدينة بحري ومبنى الإذاعة والتلفزيون الرسمي بأم درمان.

واستطاع أفراد الدعم السريع احتلال عدة مبان حكومية وسط الخرطوم، كما انتشر قناصة منهم على أسطح المقرات العامة ومنازل المواطنين بعد طردهم منها، في مناطق شمالي وجنوبي العاصمة، وفق شهود عيان.

وبات منسوبو الدعم السريع ينصبون "نقاط ارتكاز" (نقاط تفتيش) بعدد من شوارع الخرطوم، يقومون فيها بتفتيش السيارات والمارة.

الجسور

ولمحاولة السيطرة على الجسور الحيوية العشرة في العاصمة تفرض قوات الدعم السريع قوتها على 4 جسور منها على نهر النيل الأزرق، وواحد على نهر النيل.

فيما يسيطر الجيش على 6 جسور؛ 3 منها على نهر النيل الأزرق، وعلى جسرا نهر النيل الأبيض، وعلى جسر على نهر النيل.

دارفور

وغربي البلاد، ظل الجيش السوداني يسيطر على معظم ولايات دارفور الخمس، بينما تنتشر قوات الدعم السريع في عدة مواقع بمدينة نيالا عاصمة جنوب دارفور المتاخمة لحدود دولة جنوب السودان.

ورغم سيطرة الجيش على ولايات شرق ووسط وغرب دارفور، فإن الآثار السلبية للاشتباكات المتقطعة لم تسلم منها هذه الولايات.

وتقول منظمة أطباء بلا حدود إن نازحي دارفور في المخيمات "باتوا يأكلون وجبة واحدة يوميا بدلا من ثلاث وجبات".

نيالا

وفي نيالا التي تعد ثاني أكبر المدن كثافة سكانية في السودان، يسيطر الجيش على الجزء الغربي من المدينة الذي يضم مرافق الحكومة والقيادة العسكرية، بينما تسيطر قوات الدعم السريع على جزئها الشرقي الذي يقع فيه المطار ومقرات الشرطة وجهاز المخابرات.

القتلى والجرحى

في 9 أيار/ مايو الجاري، كشفت منظمة الصحة العالمية، عن مقتل 604 أشخاص على الأقل منذ بداية الاشتباكات المسلحة، فيما تشير حصيلة نشرتها وكالة فرانس برس إن عدد القتلى تجاوز الـ750 قتيلا مع سقوط آلاف الجرحى.

وقال متحدث المنظمة الأممية، طارق ياساريفيتش، في مؤتمر صحافي، إن "604 أشخاص لقوا حتفهم، وأصيب 5127 آخرين منذ بدء الاشتباكات في السودان".

وفي الثاني من أيار/ مايو الجاري، ذكرت وزارة الصحة السودانية أن حصيلة الاشتباكات منذ اندلاعها حتى مطلع مايو الجاري بلغت 550 حالة وفاة و4926 حالة إصابة بولايات السودان المختلفة.

بينما قالت نقابة أطباء السودان في آخر تقرير نشرته في 12 أيار/ مايو الجاري، إن "المجموع الكلي للقتلى بلغ 530، فيما وصل المجموع الكلي للإصابات 2948".

وهذه الإحصائيات تشمل فقط الضحايا المدنيين، بينما لم يصدر حصر رسمي للقتلى العسكريين من الطرفين.

غير أن عضو مجلس السيادة السوداني، ياسر العطا، قال في 24 نيسان/ أبريل الماضي، إن خسائر قوات الدعم السريع بلغت "آلاف القتلى وقرابة 10 ألف من الجرحى، لكن لم يتم الحصر الدقيق حتى الآن".

وبين الضحايا المدنيين قتلى أجانب، منهم 15 سوريا وفق القائم بالأعمال في سفارة النظام السوري لدى الخرطوم، بشر الشعار، وأميركيين اثنين، وفق المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي، جون كيربي، ودبلوماسي مصري، وفق بيان للخارجية المصرية.

الخسائر الاقتصادية

ورغم مرور شهر على الاشتباكات، لم تعلن الحكومة السودانية عن أي حصيلة أولية للخسائر المادية من جراء الدمار الكبير الذي طاول العاصمة الخرطوم ومدن أخرى، غير أن تقديرات غير رسمية تشير إلى مليارات الدولارات، في أزمة جديدة تضاف لأزمات اقتصاد يعاني من معدلات قياسية في التضخم وسعر الصرف ونسب الفقر.

وأدى الانفلات الأمني إلى تدمير ونهب العشرات من الأسواق ومصانع الأغذية والأدوية في العاصمة الخرطوم وخروج المئات منها عن الخدمة مما يفاقم مشاكل الإمداد الغذائي في البلاد، بجانب فقدان آلاف الأسر لمصادر رزقها التي كانت تأتي من العمل في تلك المنشآت.

كما لحقت بالقطاع المصرفي أضرار كبيرة تمثلت في إحراق عدة مصارف بينها حريق جزئي ببنك السودان المركزي، وتعطل الخدمات لأسابيع عدة، بجانب أعمال النهب الواسعة التي طالت عدة فروع.

وأصبحت السيولة نادرة؛ فالبنوك، التي تعرض بعضها للنهب، لم تفتح أبوابها منذ الخامس عشر من نيسان/ أبريل، فيما سجلت الأسعار ارتفاعا حادا وصل إلى أربعة أضعاف بالنسبة للمواد الغذائية و20 ضعفا بالنسبة للوقود.

ويتوقع أن تكلف عمليات إعادة الإعمار مليارات الدولارات، نظرا للضرر الكبير الذي أصاب أغلب المنشآت الحيوية، من مطارات ومستشفيات ومقرات وزارية وعسكرية، وشبكات مياه وكهرباء ونفط وغيرها.

وخلال شهر من الاشتباكات، توقفت بالكامل العديد من مصادر التجارة الخارجية للبلاد مثل عائدات الخدمات الجوية والتجارية التي كان يقدمها مطار الخرطوم الدولي الذي خرج من الخدمة منذ اليوم الأول من القتال.

هذا إلى جانب توقف حركة الصادرات والواردات مما يؤثر على مخزون سلاسل الإمداد ويفقد البلاد موارد مهمة من عائدات الذهب والصمغ العربي والحبوب والماشية.

ووفق وكالة "موديز" للتصنيف الائتماني في تقرير لها بعد أحداث السودان، فإن تحول الصراع إلى حرب أهلية طويلة الأمد في البلاد "سيؤدي لتدمير البنية التحتية الاجتماعية والمادية وسيكون له عواقب اقتصادية دائمة".

وأوضحت الوكالة أن ذلك "يؤثر على جودة أصول البنوك الإقليمية التي تمول السودان، إلى جانب ارتفاع نسبة القروض المتعثرة، وتأثر معدلات السيولة في بنوك البلاد".

الرعايا الأجانب

قامت أكثر من 50 دولة بإجلاء رعاياها من السودان، إما برا عبر مصر وإثيوبيا، أو بحرا عبر ميناء بورتسودان، أو جوا مستفيدة من هدنات متقطعة لأغراض إنسانية.

وأعلنت السعودية أنها قامت بأضخم عملية نقل لرعايا أجانب من أحد البلدان في تاريخها، بتسهيل مرور مواطني أكثر من 50 دولة، يمثلون دول في الشرق الأوسط، وإفريقيا، وأوروبا وآسيا، وأميركا الشمالية والوسطى.

ووفق وكالة الأنباء السعودية الرسمية "وصل إجمالي من تم إجلاؤهم من السودان منذ بدء عمليات الإجلاء نحو 4879 شخصا (139 مواطنا سعوديا، ونحو 4738 شخصا ينتمون لـ96 جنسية)".

بينما قالت الإمارات، إنها ساهمت في نقل رعايا نحو 19 دولة من السودان، قالت إنها استقبلتهم على أراضيها قبل نقلهم إلى بلدانهم.

لاجئون ونازحون

ومنذ اندلاع الاشتباكات، رصدت الأمم المتحدة "نزوح أكثر من 700 ألف شخص داخليا في السودان، على خلفية الاشتباكات"، وفق متحدث المنظمة الأممية، طارق ياساريفيتش.

وكل يوم، يدخل آلاف اللاجئين إلى مصر وتشاد واثيوبيا وجنوب السودان وهي الدول الحدودية مع السودان، ما يثير قلق القاهرة التي تعيش أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخها، فيما تخشى الدول الأخرى أن تنتقل عدوى الحرب الى حركات التمرد فيها.

وكان آخر عدد للنازحين داخليا في السودان والمعلن من قبل الأمم المتحدة هو 340 ألف شخص، علما بأنه حتى قبل وقوع الاشتباكات، كان هناك 3.7 ملايين نازح داخليا في السودان.

وفي 12 أيار/ مايو الجاري، أعلنت مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين "فرار حوالي 200 ألف لاجئ من السودان منذ بداية الاشتباكات، إلى جانب نزوح مئات الآلاف داخليا".

وسبق للمفوضية الأممية أن أعلنت في 8 أيار/ مايو الحالي، "ارتفاع عدد الفارين من السودان إلى تشاد إلى أكثر من 26 ألف لاجئ.

وأشارت المفوضية إلى أن "إجمالي الفارين من السودان إلى الدول المجاورة، بينها مصر وتشاد وإثيوبيا، وصل أكثر من 107 آلاف لاجئ".

وفي ذات التاريخ، ذكر بيان لوزارة الخارجية المصرية أن "مصر فتحت ذراعيها لاستقبال الفارين من جحيم المواجهات العسكرية من الأشقاء السودانيين بأعداد تزيد عن 60 ألف شخص".

مبادرات التهدئة

وسارعت عدة دول، لإعلان استعدادها استضافة محادثات بين الطرفين المتقاتلين في السودان، بجانب مقترحات وساطات من منظمات إقليمية.

وسعت منظمة "إيغاد" الإفريقية إلى التوسط بين الطرفين المتنازعين بهدف تمديد هدنة لمدة أسبوع وإجراء محادثات سلام بين الجانبين في جوبا عاصمة دولة جنوب السودان، إلا أن المبادرة لم يكتب لها النجاح.

وفي 6 أيار/ مايو الجاري، انطلقت بمدينة جدة السعودية مباحثات بين ممثلي الجيش السوداني والدعم السريع، بهدف التوصل لاتفاق وقف إطلاق نار بينهما لقرابة 10 أيام بمراقبة أميركية سعودية دولية، ثم مشاورات أخرى لوقف دائم.

وبعد 5 أيام توصلت المباحثات في السعودية إلى التوقيع على "اتفاق جدة" المشتمل على التزامات إنسانية واتفاق على جدولة محادثات مباشرة جديدة.

ويجري الطرفان، في جدة، محادثات حول وقف إطلاق نار "إنساني" للسماح للمدنيين بالخروج وإتاحة المجال لدخول المساعدات. ولكنهما لم يتفقا حتى الآن سوى على قواعد إنسانية بشأن إجلاء المدنيين من مناطق القتال وتوفير ممرات آمنة لنقل المساعدات.

مساعدات دولية

وخلفت الاشتباكات المستمرة أوضاعا إنسانية وصحية متردية، ما دفع العديد من الدول والمنظمات إلى تقديم يد المساعدة، مع تحذير برنامج الأغذية العالمي من أن 40% من سكان السودان سيعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد حال استمرار العنف في البلاد.

في جميع أنحاء السودان، أحد أفقر بلدان العالم، يعيش 45 مليون مواطن في الخوف ويعانون من أزمات غذائية تصل الى حد الجوع.

وثلث سكان البلاد الذين كانوا قبل الحرب يعتمدون على المساعدة الغذائية الدولية، أصبحوا اليوم محرومين منها، فمخازن المنظمات الإنسانية تم نهبها كما علقت العديد من هذه المنظمات عملها بعد مقتل 18 من موظفيها.

وفي سياق المساعدات الإنسانية أعلنت السعودية، تقديم مساعدات إلى السودان بقيمة 100 مليون دولار، وتنظيم حملة شعبية عبر منصة رسمية لجمع التبرعات لصالح متضرري الاشتباكات.

كما أعلنت قطر تسيير جسر جوي من 6 طائرات محملة بعشرات الأطنان من المساعدات الإنسانية للسودان تشمل "مساعدات تنموية وغذائية وطبية ومستشفى ميدانيا".

من جانبها، أعلنت الإمارات تسيير جسر جوي من 6 طائرات محملة بمئات الأطنان من المساعدات الغذائية والطبية، كما تعهدت بتقديم 50 مليون دولار كمساعدات إنسانية طارئة للسودان، وفق وكالة الأنباء الإماراتية الرسمية.

بدورها، أعلنت الكويت تسيير جسر جوي من 6 طائرات تحمل عشرات الأطنان من المواد الطبية والإغاثية، كما أعلنت جمعية الهلال الأحمر الكويتي أنها "قامت بتوزيع مواد غذائية وطبية على الأسر في العاصمة السودانية الخرطوم".

كما أعلنت بريطانيا تقديمها مساعدات إنسانية بقيمة 5 ملايين جنيه إسترليني لتلبية الاحتياجات العاجلة للفارين من العنف في السودان، على أن تقدم للواصلين من السودان إلى جنوب السودان وتشاد.

التعليقات