17/12/2016 - 11:40

نهاية العولميّة: إلى أي اتجاه تمضي أميركا والصين؟

يحتاج العالم إلى نظام جديد، لا يقوم على الخيارات الأيديولوجيّة الخاطئة للقرن العشرين، ولا يقوم على فكرة أنّ التاريخ سيصل إلى نهايته قريبا، وإنما يقوم على احترام الاختلاف بين الأمم والشعوب، وعلى احترام سيادة الدول وثقافة الشعوب

نهاية العولميّة: إلى أي اتجاه تمضي أميركا والصين؟

"إذا كنا نريد أن يكون القرن الحادي والعشرين قرن سلام وازدهار، فإنّ على الصين أن تعمل مع أمريكا ترامب"

ترجمة: أسامة غاوجي - خاص عرب ٤٨ | المصدر: فورين أفيرز


تحدث الأشياء السيّئة دفعة واحدة. بدءًا من الكساد العظيم، ثم أزمة منطقة اليورو، إلى الصفقات التجاريّة المتوقّفة، وتزايد الصراع بين روسيا والغرب، وصولا إلى الثورات الانتخابيّة ضدّ النخب السياسيّة الأوروبيّة التقليديّة، وأخيراً خروج بريطانيا من عضويّة الاتحاد الأوروبي بعد الانهيار المالي في 2008. كلّ هذا يؤكّد أنّ العولمة بدأت تفقد زخمها. ولكنّ معظمنا لم يتخيّل أن خصوم العولمة سيصلون إلى الجائزة الكبرى – البيت الأبيض- وبهذه السرعة.

تتدافع القوى العالميّة الآن للتفاعل مع التحوّل في البراديغم الناشئ عن انتخاب الرئيس الأميركي الجديد، دونالد ترامب. فبعد أنّ عبّر رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي عن قلقه بشأن احتماليّة نجاح ترامب، وبعد لقائه بهيلاري كلينتون وحدها قبل الانتخابات، ها هو يهرع مسرعا إلى نيويورك للقاء بالرئيس المنتخب وجها لوجه. أما القادة الأوروبيون، فإنّ مواقفهم بدت أكثر التباسا، فقد وضعت المستشارة الألمانيّة أنجيلا ميركل شروطا للعمل مع ترامب. أما الروس، فيبدو أنّهم في حالة من الفرح والابتهاج؛ فقد قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في رسالة التهنئة التي أرسلها، إنّ انتصار ترامب يمكن أن يجلب 'حوارا بنّاء بين موسكو وواشنطن على أسس من المساواة والاحترام المتبدال والمراعاة الحقيقيّة'.

على أنّ موقف القوّة العالميّة العظمى الثانية، الصين، لا يزال غير واضح. فخلال الحملة الانتخابيّة، كانت الصين هدفا رئيسيا لخطابات ترامب الذي عبّر عن عدم رضاه عن الحالة التجاريّة معها. ومن المرجّح أن يستفيد الصينيون من التخلّي المرتقب عن اتفاقيّة الشراكة العابرة للمحيط الهادي (TPP) التجاريّة. كما إنّ السياسة الخارجيّة الرافضة للتدخّل في شؤون الدول الأخرى من قبل ترامب ستلائم الصينيين لأسباب واضحة وجليّة. في هذه اللحظات، هناك إشارات عديدة على أنّ بكين مستمرّة في عمليّة التطوير الهائل في الوقت الذي ترصد فيه ردود الأفعال الأميركية.

في الحقبة الجديدة التي أعلن عنها انتصار ترامب، بات الصينيون أمام مكاسب كبرى أو مخاسر كبرى. وباعتبار أنّ الصين اليوم هي ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وأكبر أمّة تجاريّة، فإنّ ردود فعلها هي ما سيحدد الاتجاه نحو الازدهار أو الجمود، بل ربما نحو الحرب أو السلم، حول العالم.

صعود وانهيار العولميّة

ظهرت العولمة Globalization في سبعينيات القرن الماضي كمفهوم بريء ومحايد؛ فقد أصبح العالم متصلا تجاريا واستثماريا وجغرافيا ومعلوماتيا على نحو أكبر وأكبر. ولكن، وبعد الحرب الباردة، تمّت إضافة عنصر أيديولوجي لهذا المفهوم: العولمية Globalism، إلى أن أصبح التفريق بينها وبين العولمة أمرا في غاية الصعوبة اليوم.

تجد العولمية جذورها في المذهب النيوليبرالي لـ'إجماع واشنطن'، والذي بدأ في فترة حكم الرئيس الأول للولايات المتحدة عقب الحرب الباردة، بيل كلينتون، والذي تمّ تنفيذ خطواته في فترات الحكم المتعاقبة لجورج بوش وباراك أوباما. يُصوّر هذا الإجماع العالمَ وكأنّه يتحرك بشكل معقّد نحو مجموعة من القواعد والمعايير الموحدّة في العلاقات الاقتصادية والسياسية والدولية. ووفق هذا التصوّر، ستفقد الحدود القوميّة قيمتها تدريجيا وربما تختفي بشكل نهائي؛ وستفسح التمايزات الثقافية الطريق للقيم الكونية؛ وستنتشر الديموقراطية الانتخابية ورأسمالية السوق في جميع أرجاء العالم. في نهاية المطاف، ستخضع جميع الدول تقريبا للطريقة ذاتها.

تمّ دعم هذه العملية من قبل القوة الصلبة والناعمة للولايات المتحدة الأميركية. في الحقيقة، وبشكل جزئي وفقا لهذا المنطق، فإنّ النسخ الجديدة من النيوليبرالية؛ المحافظون الجدد والليبراليون المؤيدون للتدخل في سياسات الدول، هم من قادوا أميركا للحرب في أفغانستان والعراق. وهنا تكمن المشكلة، حيث أصبحت العولمية حصان طروادة، والتهمت العولمة، وحولتها إلى قوة لا يمكن إيقافها على ما يبدو إلّا بسحقها تحت وطأة غطرستها.

في الغرب، أصبح أتباع العولمية الرئيسيون هم المستفيد الأول منها. تمركزت الثروة والسلطة في القمة، بين أصحاب رؤوس الأموال وموزعيها، الذين فضّلوا التجارة الحرّة والتعددية الثقافية والمؤسسات متعددة الأطراف Multilateral institutions ، بل وعملوا على تغيير الأنظمة الحاكمة وبناء الدول على أراضٍ أجنبية. ولكنّ هذه الرؤية قد أضرت بالغالبية العظمى التي تمثّلها الطبقة الوسطى. فبعد مرور جيل واحد فقط على الحرب الباردة، شهدت الولايات المتحدة هشاشةً في قاعدتها الاقتصادية، وتراجعا كبيرا في بنيتها التحتية، وتدهورا في النظام التعليمي، وتمزقا في عقدها الاجتماعي.

وبعيدا عن الضرر الاقتصادي، تهدد التغيرات في القيم الاجتماعية التي تروج لها العولمية النسيج الاجتماعي. استطاع العالِم السياسي روبرت بوتنام أن يلتقط هذه العملية ويقدّمها بطريقة ممتازة في كتابه المهم 'لعب البولينج وحيدا'، والذي وصف فيه بالتفصيل المؤلم انهيار الجماعات الاجتماعيّة الأميركية. بعبارة أخرى، فإنّ النخب الأميركيّة قامت ببناء إمبراطوريّة على حساب الدولة، باسم العولمة.

حدث الأمر ذاته في أوروبا. فقد دفع 'تكنوقراط بروكسل' وحلفاؤهم في العواصم الوطنيّة، بمجموعة من المعايير التوسعية لإنشاء الاتحاد الأوروبي الآخذ بالتوسع، الذي وضع مصالح الناس في الدول الأعضاء في نهاية سلّم الأولويات. في بعض الدول الأوروبية، وصلت البطالة إلى 50% في صفوف الشباب، وبقيت كذلك.

الآن، تمّت الإطاحة بنخب العولمة من خلال صناديق الاقتراع ذاتها التي استعملوها للحفاظ على حكمهم.

كيف تبدو الصورة من بكين؟

لقد استفادت الصين، أكثر من أي دولة نامية أخرى، من العولمة. فقد شهدت تحوّلا من اقتصاد زراعيّ فقير إلى قوّة صناعيّة عالميّة، كما إنّها تمكّنت من انتشال أكثر من 600 مليون صينيّ من الفقر. على أنّ الصين قد اختارت الانخراط في العولمة بشروطها الخاصّة، فقد اعتنقت وسائل التواصل الحديث، ورفضت الأيديولوجيا العولميّة. بالمقابل، أمكن للصين أن تقوّي نظامها السياسيّ ذا الحزب الواحد، وأن تفتح أسواقها وفقا لأولويات تطوّرها القوميّ.

ويبدو أنّ ترامب بدأ يشعر بهذا التحوّل، وأخذ يلوم الصين على العديد من مشاكل الولايات المتحدّة. وهذا أمر غير منصف بالطبع. فقد اضطلع القادة الصينيون بمسؤوليّتهم لفعل ما هو أفضل لشعبهم. ولو لم يفعلوا ذلك لكانوا مخطئين قطعا. ومن المفهوم أيضا والمبرر أن يريد ترامب الأفضل للشعب الأميركي؛ بأن يجعل 'أميركا أوّلاً' كما يقول شعاره.

بدلا من التردد والإحباط، على الصين أن تعتبر بأنّ هذه اللحظة لحظة مليئة بالدروس. فصحوة قطاعات واسعة من الشعب الأميركي لا تعني رفضا للصين بالجملة، ولا تعني إنذارا بصدام محتوم. بل ينبغي أن يُنظر إليها باعتبارها درسا في كيفية مشاركة الولايات المتحدة في الحقبة الجديدة.

لقد جاء هذا الدرس في اللحظة المناسبة. فقادة الرأي في الصين يميلون إلى الحصول على معلوماتهم عن الولايات المتحدّة من النخب الأميركيّة. لذا فهم معزولون عن الطبقة الوسطى الأميركيّة، بقدر انعزال أولئك الجالسين في غرف الأخبار ومراكز الأبحاث والتفكير الأميركية. وبهذا، فإنّهم معرّضون للنظر إلى أنصار ترامب على أنّهم مجموعة من 'البائسين'، كما صوّرتهم منافسة ترامب، هيلاري كلينتون، وعلى أنّهم عنصريون غير متعلّمين وكارهون للنساء. وهذه النظرة تنطوي على مغالطات كبيرة، وعلى إساءة في الحكم والتقدير.

سيكون من الأفضل للصين أن تنظر في مرآتها الخاصّة لتفهم الطريقة التي بدأت تتغيّر بها الولايات المتحدة وأوروبا إلى الأبد. لقد كان الصينيون دوما أعلى صوت رافض لسياسة وجود نموذج واحد للعولمة مفروض على الجميع، وقد دعا الصينيون لأن يُسمح لدول العالم بأن تسلك طرقها الخاصّة. وكما قال الرئيس الصيني شي جين بينغ، 'فإنّ المرء لا يمكن أن يعرف إن كان الحذاء جيّدا إلا بعد انتعاله'. ويبدو أنّ ترامب مستعدّ لتجربة زوج من الأحذية الجديدة لأميركا. كما إنّ مقاربة ترامب الرافضة للتدخّل في سياسات الدول الأخرى، حيث أكّد أنّها كانت 'فكرة خطيرة أن نحاول تأسيس ديمقراطيات غربيّة خارج البلدان التي لم تكن لها تجربة وليست لديها اهتمامات بأن تكون ديمقراطيات غربيّة'، ينبغي أن تكون أمرا مشجّعا للصين.

لا شكّ بأنّ هناك الكثير من الصدامات المرتقبة حين يحاول ترامب تحقيق المصالح القوميّة الأميركيّة. ولكنّ أسباب المظلوميّة التي أدّت إلى صعوده تستحقّ اهتمام الصين وإدراكها. فإذا كان ترامب، على سبيل المثال، أقلّ ودّا مع الصين في مسألة التجارة، كما هو متوقّع، فإنّ الصين ستفعل حسنا بممارسة درجة من ضبط النفس. أما إن ردّت بأسلوب العين بالعين، فإنّ مخاطر الصراع الجيوسياسي ستغدو واقعيّة. وفي سيناريو من هذا النوع، ستكون الصين والولايات المتحدة خاسرتين.

مساحة للمناورة

لطالما أثبت القادة الصينيون بأنّهم يتمتّعون بالحكمة، لذا فإنّ عليهم أن يروا الفرص غير المسبوقة للمصالح المشتركة مع أميركا ترامب.

إنّ أفكار الصين متنافسة بشكل جوهري مع رؤية ترامب. فالدول القويّة ذات السيادة فاعل أساسي وضروري للنظام الدولي. لا بدّ من الاعتراف بأهمّية الثقافة في هذا الخصوص، ولا يجب أن تكون الأولويّة لفرض قواعد موحّدة على حساب الاعتبارات القوميّة. كما لا يجب أن يتم استعمال المؤسسات متعددة الأطراف لكبح التفاهمات الثنائيّة عندما تكون الترتيبات المشتركة أكثر فاعليّة. على الرئيسين ترامب وشي أن يتفاهما حول هذه النقاط.

على المستوى العملي، فهناك العديد من السياسات التي يمكن أن تُفيد الولايات المتحدة والصين في آن معا. فأحد المشاريع المهمّة لترامب هو إعادة بناء البنية التحتيّة المتداعية في أميركا. لقد وعد ترامب بتخصيص مليار دولار لهذا المشروع، وهو مبلغ قد لا يكون كافيا. كما إنّ هذا المشروع سينشّط الاقتصاد الأميركي (الذي يحتاج إلى بعض الحيويّة) عبر خلق فرص عمل جديدة وعبر مدّ شبكة الطرق، والمطارات والسدود، وتطوير الموجود منها. ولكنّ التحديات كثيرة ومرهونة بالقيود الاقتصاديّة والقدرة الصناعيّة.

[إن أصبحت النخب العولميّة أكثر تواضعا في أهدافها، فقد تتمكّن حينها من المضي برؤيتها قدما. ولكن يبدو أنّ الأوان قد فات على هذا]

لدى الصين خبرة معقولة في بناء البنية التحتيّة. وترامب يعرف ذلك، كما يبدو من خطاباته الانتخابيّة. في أثناء السباق الانتخابي، اشتكى ترامب من أنّ البنية التحتيّة في أميركا، بالمقارنة مع الصين، شبيهة بدول العالم الثالث. يمكن أن تساهم الصين بقدراتها في الولايات المتحدة. يمكن مثلاً ضم الولايات المتحدة إلى البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتيّة (AIIB) وتزويدها باحتياجاتها الصناعيّة بشروط تفضيليّة وسرعة تنفيذيّة. مثل هذا الإجراء سيُفيد الصين بالتأكيد، والتي تحتاج إلى توزيع قدراتها وأموالها الفائضة عن الحاجة. ولا يوجد مكان أفضل لنشر قدراتها وأموالها فيه من شريكها التجاريّ الأكبر.

على المستوى الجيوسياسي، ثمة مصالح مشتركة مهمّة. فيبدو أنّ كلّا من ترامب والصين مقتنع بأنّ الخطر الأكبر على أمن العالم يأتي من فاعلين لا ينتمون إلى دول. إنّ أحد أسوأ الأضرار التي ألحقتها العولميّة في العالم كانت إضعاف الدول، وهو ما ساهم في نموّ الإرهاب العابر للقوميّات. فعبر إلغاء الحدود القوميّة، وإضعاف قوّة الحكومات الوطنيّة دون إيجاد بديل معقول، خلفت العولميّة عالماً أكثر خطرا. فعبر السنوات، كان دعاة العولمة يُدينون الصين بسبب إصرارها العنيف على حماية سيادتها القوميّة. ولكن يبدو أنّ الصين كانت أوفر حظّاً في حماية أمن شعبها وحماية مصالحه. يمكن للصين وترامب أن يجدا أرضيّة مشتركة حول هذه النقطة.

حتى على المستوى التجاري، فإنّ ثمة إمكانيّة للوصول إلى تفاهمات أساسيّة. فالنخب المؤيّد للعولميّة تضع ثنائيّة تقابل بين التجارة الحرّة وبين سياسات الدول الحامية لمصالحها القوميّة. ويتمّ وصف كلّ من يحاول تجنّب الأخطار المعياريّة الناجمة عن العولمة بأنّه حمائيّ. (في الحقيقة، فإنّ الصين كانت تُتهم باستمرار بأنّها دولة حمائيّة بناء على هذا الأساس). ولكنّ الثنائيّة التي يقدّمها مؤيّدوا العولمة خاطئة من الأساس. فمن الممكن للدول أن تطوّر تجارتها وأن تحمي مصالحها القوميّة المشروعة في الوقت نفسه. على سبيل المثال، مقترح الصين للتوسّع التجاري في الجزء الآسيوي من المحيط الهادي، أو اتفاقيّة الشراكة الاقتصاديّة الإقليميّة الشاملة (RCEP)، والتي تتيح العديد من الاختلافات في التعرفة الجمركيّة والمعايير التصنيعيّة بناء على الظروف السياسيّة والاقتصاديّة المختلفة للدول المشتركة في الاتفاقيّة.

في المقابل، فإنّ اتفاقيّة الشراكة العابر للمحيط الهادي التي قدّمها أوباما كانت مصممة خصيصاً لفرض مجموعة من القواعد الموحّدة، دون مراعاة للاحتياجات الخاصّة للدول التي تمرّ بمراحل تطوّر مختلفة. ومن المثير للمفارقة الساخرة، أنّ الكثير من الأميركيين باتوا ينظرون إلى هذه الاتفاقيّة على أنّها غير ملائمة لاحتياجات بلدهم. نظرا لأنّ الصين قد أعادت تشكيل اقتصادها ليصبح أقلّ اعتمادا على الصادرات وأكثر اعتمادا على الاحتياجات المحلية والصناعات الخدميّة، الأكثر جدوى، ونظرا لأنّ الولايات المتحدة باتت تسعى لإعادة بناء قدرتها الإنتاجيّة، فإنّ البلدين في موقع مناسب للمضي قدما في استكشاف مقاربات جديدة لتوسيع تجارتهما.

أخيرا وليس آخرا، يبدو أنّ ترامب بات يدرك مدى الضرر الذي لحق بالولايات المتحدة نتيجة ما أسماه المؤرّخ بول كينيدي 'التوسّع الإمبراطوري المتجاوز لحدوده'. إنّ رغبة النخب الأميركيّة بتشكيل العالم على صورة بلدهم قد كلّفتهم، كما كلّفت العالم، الكثير. تمتلك الولايات المتحدة أقلّ من 5% من سكان العالم، وحوالي 20% من الناتج المحلّي الإجمالي العام، ولكنّ نفقاتها العسكريّة تصل إلى 40% من مجمل النفقات العسكريّة في العالم ( وتصل المعدّلات أحياناً إلى 50% ). لقد صرّح ترامب بأنّه سيعمل على إيقاف سياسة التدخّل في شؤون الدول، وهو ما اتهمته النخب العولميّة بسببه بالانعزاليّة. ولكنّ هناك مساحة رماديّة وسطى بين أن تصرّ الولايات المتحدة على إخبار الدول الأخرى كيف تحكم نفسها، وبين الانعزال وعدم التدخّل التام. على سبيل المثال، لا بدّ أن تحافظ الولايات المتحدة على درجة من التدخّل في قضايا الشرق الأوسط، ولكن عليها أن تتوقّف عن جهودها في تغيير الأنظمة أو تأسيسها هناك.

من مصلحة الصين أن تشجّع تحوّل ترامب عن الرؤى الأيدولوجيّة السابقة. وباعتبارها تمثّل ثاني أكبر اقتصاد في العالم، فإنّ الصين مسؤولة عن المساعدة في الحفاظ على الاستقرار العالمي. ويمكنها أن تفعل ذلك عبر تعديل تموضعها الجيوسياسي في الجزء الآسيوي من المحيط الهادي، لتشجيع بقاء المنطقة في درجة أعلى من الاستقرار والسلام، كما فعلت مع الفلبين على سبيل المثال. كما يمكن أن تحمل الصين جزءا من العبء في الشرق الأوسط، والتي أصبحت بسرعة أكبر منطقة مصدّرة للنفط ولديها مصالح بعيدة المدى في الاستقرار.

نظام عالمي جديد؟

لم يكن فوز دونالد ترامب مجرد صدفة؛ بل كان تتويجا لتغيّرات بنيوية داخل المجتمع الأميركي، الذي تمّ تجاهله من قبل النخب طويلا. وستستمر هذه القوى في دفع الولايات المتحدة والعالم في طريق جديد مختلف عن الطريق الذي سلكته طيلة ربع القرن الماضي. ومن الأهمّية بمكان أن يدرك القادة الصينيون هذه الحقيقة ويستجيبوا وفقا لها. وفي حال أخطأت الصين، فإنّ ذلك قد يؤدي إلى حروب تجارية، ومواجهات جيوسياسية، أو إلى صراعات عسكرية؛ وسنكون أمام حالة كلاسيكية لـ 'فخ ثيوسيديدز'، الذي تشكّل فيه قوّة صاعدة خطرا على قوّة عظمى، إلى أن يتصاعد التوتر بينهما إلى الحرب. تمتلك الولايات المتحدة الأميركية مبررات كافية لوضع مصالحها كأولوية في تعاملها مع العالم. ويمكن للصين، أكثر من أي دولة أخرى، أن تقدم عرضا لأميركا ترامب لتتمكن من موازنة أولوياتها القوميّة بنجاح.

لا يعني موت العولمية نهاية العولمة، كما تُفهم الفكرة عادة. على العكس من ذلك، وعلى الأرجح سيتزايد هذا الترابط، مدفوعا بالتوجه العالمي نحو التكنولوجيا والاقتصاد. بعبارة أو بأخرى، فإنّ الحوكمة العالمية الفعّالة أصبحت مطلوبة اليوم أكثر من أي وقت مضى؛ ولكنّ هذا لا يمكن أن يقوم بعد الآن على سردية العولمية.

يحتاج العالم إلى نظام جديد، لا يقوم على الخيارات الأيديولوجيّة الخاطئة للقرن العشرين، ولا يقوم على فكرة أنّ التاريخ سيصل إلى نهايته قريبا، وإنما يقوم على احترام الاختلاف بين الأمم والشعوب، وعلى احترام سيادة الدول وثقافة الشعوب. وبدلا من محاولة إدارة العالم وفق مجموعة واحدة من المعايير العالميّة، فإنّ الأمم يمكن أن تتعاون بناء على إراداتها الحرّة بطرق تناسب ظروفها الخاصّة. فلا يمكن سوى للدول ذات السيادة القويّة أن تتعاون بفعاليّة مع بعضها البعض، وحينها فإنّها ستوائم سيادتها، طوعا، مع مصلحة النظام العالمي.

إذا كنا نريد أن يكون القرن الحادي والعشرين قرن سلام وازدهار، فإنّ على الصين أن تعمل مع أميركا ترامب لتطوير هذا المستقبل الجديد. وعلى الرغم من أنّ المنافسة بين القوّتين العظميين حتمية، فإنّ تطلّعاتهم المشتركة للعالم والمصالح المشتركة بينهما لا بدّ أن تنحّي هذه الاختلافات. من الضروريّ أن يستمع القادة الصينيون إلى ما قاله ترامب حول قضايا السياسة الخارجيّة في نيسان/إبريل الماضي: 'إننا نرغب بأن نعيش بسلام وصداقة مع روسيا والصين. لدينا خلافات كبيرة مع هاتين الدولتين، وعلينا أن نبقى واعين بهذا، ولكنّ هذا لا يعني أننا خصوم بالضرورة. علينا أن نبحث عن أرضيّة مشتركة تقوم على المصالح المشتركة لنا جميعا'.

هناك الكثير من التفكير القياماتي، يتنبّأ الكثيرون بكوارث رهيبة عما سيحصل لأميركا وللعالم، ونحن بحاجة إلى مزيد من التفاؤل. إنّ الموانئ الصينيّة ليست مصممة لتكون بديلا للولايات المتحدة كقوّة مهيمنة على العالم. ومن الطبيعي أن تسعى الصين لقيادة جيرانها وتعزيز سلطتها في مجالها الإقليمي. وعلى أميركا أن تركّز على بناء نفسها من جديد. إن تحلّت الدولتان بالحكمة والبراغماتيّة اللازمة للعمل بشكل مشترك لتحقيق هذه الأهداف، وللعيش وترك الآخرين يعيشون، فإنّ بإمكانهما صياغة إجماع جديد حول الحكومة العالميّة، والتي ستقود إلى عالم أكثر استقرارا.

لقد انتحرت العولميّة. وها هو نظام عالميّ جديد آخذ بالولادة. فلنكن جزءا منه.

التعليقات