الأوبئة... التغييرات الاجتماعية والسياسية تاريخيا

يسلط ماضي البشرية مع الأوبئة القاتلة الضوء على شكل مستقبلنا السياسي والاجتماعي بعد انتهاء أزمة فيروس كورونا المستجد، لكن السعي لمستقبل أفضل يتطلب نضالا أكبر.

الأوبئة... التغييرات الاجتماعية والسياسية تاريخيا

(أ ب)

تحدث مفكرون وباحثون كُثر في الأسابيع القليلة الماضية عن تكهناتهم لعصر ما بعد كورونا، أي بعد أن تتغلب البشرية على فيروس كورونا المستجد، عارضين توقعاتهم لمصير العدالة الاجتماعية، بين من يرى أنها ستنحدر بشدة، وبين من يرى الأزمة محفزا لبناء مجتمعات أكثر عدالة.

ونشر الكاتب ريتشارد باور سيد، مقالا في صحيفة "ذي غارديان" البريطانية تناول فيه الماضي في إشارة إلى الواقع الحالي والمستقبل، إذ كتب فيه عن الآثار الاجتماعية والسياسية لوباء "الموت الأسود" أو الطاعون الذي قتل نحو ثلث الأوربيين، معجلا انهيار التسلسل الهرمي الاجتماعي المتمثل بالإقطاع، ومتسببا بتغيير شكل أوروبا بالكامل في العقود الذي تلت تفشيه، لتتضرر قبضة الكنيسة على المجتمع أيضا، في تغييرات شتى أدخلت القارة في عصر التنوير.

وشرح سيد أن الاحتجاجات والانتفاضات المحلية ضد ملاك الأراضي حدثت قبل انتشار الوباء، لكنها أصبحت بعد "الموت الأسود" أكثر شيوعا، وكانت ثورة الفلاحين في إنجلترا عام 1381 أكبر الاحتجاجات التي حدثت، لكنها أُحبطت في نهاية المطاف، إذ قاومت الطبقة الأرستقراطية الحاكمة مطالب الفلاحين منذ البداية، وفُرضت قوانين جديدة "وحشية" لمنع العمال من المطالبة بتحسين أجورهم، وصل إلى حد تحديد الأقمشة التي يُسمح للطبقات الدنيا ارتدائها.

لكن هذا لما يحبط حركة الفلاحين التي استمرت وازدهرت، ونجحت بدفع بعض أصحاب العقارات إلى خفض إيجارات الفلاحين بأكثر من النصف بين عامي 1350 و1400. وفي الفترة نفسها، ارتفعت أجور العاملين في الزراعة لما يصل للضعف. وبحلول مطلع القرن الذي تلاه، دُفعت جميع الإيجارات تقريبا في إنجلترا نقدا بطريقة تعكس تحرر الفلاحين وثراءهم.

ومع ذلك، لم يستمر هذا النجاح إذ استأثرت فئة قليلة من الفلاحين على الأراضي الزراعية العامة وجعلوها ملكا خاصا لهم، على مدار القرون الخمسة التي تلت تحرر الفلاحين، بحيث أجبرت معظم الطبقات العاملة على العيش في الأحياء الفقيرة وعلى العمل في الوظائف الخطرة.

وفي بداية القرن العشرين، ازدادت حدة الغضب الذي ولّده هذا الوضع، أولا بسبب فشل الطبقات الحاكمة في أوروبا في الحرب العالمية الأولى، ثم بسبب وباء آخر، وهو الإنفلونزا الإسبانية التي تفشت عام 1918، حاصدة أرواح عشرات الملايين.

وأشار الكاتب إلى أن تفشي الوباء الذي راكم بؤس الناس، دفع ناشطين ومحاربين ومصلحين في عدّة بلدان متضررة من المرض، إلى المطالبة بالتغيير، لتبذل الحكومات جهودا في تحسين مجال الصحة العامة. وتمثلت النتيجة النهائية في تحقق المرحلة الأولى من بناء دولة الرفاه الاجتماعي.

ونجم عن هذه الإصلاحات حقوق وخدمات إضافية مُنحت للسكان مثل رعاية الطفل ورفع الأجور، وغيرها من خدمات الضمان الاجتماعي، ومرة أخرى، ساهم التنظيم السياسي الذي تشكل في طور أحداث الجائحة (الإنفلونزا الإسبانية) في إحداث تغيير هائل.

نموذج إسبانيا

حذر الكاتب من الافتراض بأن انتشار الأوبئة القاتلة مثل كورونا، سيتسبب بالضرورة بتحسين العدالة الاجتماعية، مستندا بذلك إلى الأثر الذي خلفته الإنفلونزا الإسبانية على إسبانيا، والذي أثبت أنه ليس هناك ما يدل على أن التغيير سيكون تقدميا بالضرورة، فعندما وصلت الجائحة إلى شبه الجزيرة الإيبيرية، عكست استجابة المؤسسة الحاكمة أهدافها الرجعية، إذ سعى السياسيون والأطباء والصحافيون للسيطرة على الجماهير غير المهتمة بالنظافة الصحية في تلك الفترة، عبر فرض "دكتاتورية صحية"، في محاولة لفرض معايير النظافة بالترهيب.

وساهمت عسكرة المجال العام بحجة "الصحة" بإضعاف الحركات الاشتراكية واللاسلطوية الثورية في البلاد، وأرست الأسس الاجتماعية للدكتاتوريات التي حكمت إسبانيا في ما بعد، حتى منتصف السبعينيات.

ولفت الكاتب إلى أنه في الأسابيع القليلة الماضية، أي منذ أن أصبح فيروس كورونا يمثل أزمة عالمية، تنبأ بعض الأشخاص بأن تفشي جائحة كورونا سيجبر الحكومات على بناء أنظمة اقتصادية أكثر عدالة، إلا أن هذا التغيير ليس آليا، فهو يحتاج نشاط وعمل سياسي لإتمامه، مثل ما حصل مع فلاحي أوروبا في القرن الـ14، كما ويثبت تاريخ إسبانيا أن منتهزي الفرص يمكنهم الاستفادة من الأزمة، ولعل أبرز مثال على ذلك رئيس الوزراء المجري، فيكتور أوربان، الذي يسعى مؤخرا للاستيلاء على السلطة بحكم الأمر الواقع، بذريعة مكافحة الجائحة.

وأشار الكاتب إلى التحديات الاستراتيجية الكبيرة المتوقعة في المستقبل، فالإغلاق يمنح العمال والمستأجرين بعض السلطة، كما أن الحكومات ستحتاج لأن تدفع للأشخاص مقابل بقائهم في المنزل.

وفي حين أن الأوبئة السابقة تسببت في تقليص القوى العاملة، ستساهم هذه الأزمة في تزايد معدل البطالة وسيستغل الرؤساء يأس العمال حتى يتمكنوا من إبقاء الأجور منخفضة وتشغيلهم تحت ظروف سيئة، بحسب ما قاله الكاتب، مشددا على أن تغيير الأوضاع الاجتماعي والسياسية اليوم، يتطلع عملا جادا لبناء مؤسسات وهيئات لتنسيق النضال الجماعي.

التعليقات