05/04/2020 - 23:52

كيف تستفيد شركات التكنولوجيا من أزمة كورونا؟

رغم أن الأزمات العالمية تكون أرضا خصبة لاستحواذات الشركات والتجاوزات الاستبدادية، فإنها تستطيع أن تتحول أيضا إلى لحظات تغيير عميق لإعادة هيكلة مؤسساتنا العامة من جذورها، بطريقة تُلبّي احتياجات الشرائح الفقيرة والطبقة العاملة.

كيف تستفيد شركات التكنولوجيا من أزمة كورونا؟

مواطنة أميركية، تتصفح هاتفها المحمول في نيويورك (أ ب)

في ما يلي ترجمة بتصرف، خاصة بـ"عرب 48"، لمقالِ بنيامين تشين - يي، الطبيب الذي يعمل في جامعة تورنتو، وطالب الدكتوراه في العلوم السياسية بجامعة يورك، وامسلي ديلون.


تحوّلت جائحة فيروس كورونا المستجد "كوفيد-19" المستمرة، إلى أزمة شاملة للصحة العامة على المستوى العالميّ، متفشيةً كانتشار مرض السرطان في الجسد، ليتزامنَ معها انهيار اقتصادي وشيك الحدوث؛ قد يُولّد مستويات من البطالة لم نشهدها منذ الكساد الكبير. وشهدت الأسابيع القليلة الماضية استخدام الحكومات تدابير طارئة لتبرير تشريعات لم يكن التفكير بها واردا قبل بضعة أسابيع فقط، واستغلت الشركات ظروف الأزمة للضغط نحو عمليات إنقاذ حكومية غير مسبوقة وقليلة الشروط، أو للسعي وراء مشاريع مربحة أكثر.

أما في ما يخصّ قطاع الرعاية الصحية الأميركية، فقد كشفت أزمة كورونا عن عدم منطقية أنظمة التأمينات الربحية، والتي تُفقِد ملايين الأشخاص التأمينات الصحية، وتجعلهم غير قادرين على الحصول على علاج بأسعار معقولة، بالإضافة إلى أنها فضحت نقاط الضعف في المؤسسات العامة التي تعاني على مدار عقود من الاقتطاعات الحكومية. وفي هذا السياق، تضغط البنوك الاستثمارية في الولايات المتحدة على شركات الأدوية والعقاقير الطبية لرفع أسعار العلاجات المحتملة، بهدف جني الأرباح من الأزمة الحالية.

ويوفر كتاب المؤلفة والناشطة الكندية، ناعومي كلاين، "عقيدة الصدمة - صعود رأسمالية الكوارث"، عدسة مفيدة لفهم اللحظة الراهنة. وكما أوضحت كلاين في مقطع فيديو تحدثت فيه عبر منصة موقع "إنترسيبت" مؤخرا: "خلال لحظات التغيير الكارثي، يتحول ما لم يكن من الممكن التفكير به سابقا، إلى حقيقة".

ولطالما جنت كُبرى شركات الأدوية، وشركات التأمينات الصحية، أرباحا طائلة على حساب ضعف غير المؤمنين صحيا والذين تنقصهم الموارد الكافية للحصول على الخدمات الصحية، إلا أنّ شركات التكنولوجيا تظهر هي الآن كلاعبةٍ رئيسية تسعى إلى الاستفادة من أزمة "كوفيد-19"، كما تعسى إلى توسيع نطاق تدخلها في الصحة العالمية بشكل جذري.

وظهرت العديد من الشركات الرقمية المعنية بمجال الصحة في الأسابيع القليلة الماضية، مروجة لنفسها على أنها توفر حلولا عالية التقنية للتحديات المميزة الناجمة عن جائحة "كوفيد-19"، مُحققة عقودا حكومية مربحة ووسيلةَ تواصلٍ فريدة مع المسؤولين الحكوميين.

وقبل بضعة أيام فقط، أعلن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أن البيت الأبيض يتعاون مع شركات التكنولوجيا الكبرى ، مثل "آي بي إم"، و"أمازون"، و"جوجل"، ومايكروسوفت"، من أجل ما وصفه بـ"إطلاق العنان لقوة الحوسبة الأميركية الفائقة" ضد "كوفيد-19".

وبالإضافة إلى التعاون مع عمالقة التكنولوجيا الراسخة، ظهر لاعبون جدد أيضا، فقد مَوْضَعَت شركات الصحة الرقمية نفسها بمكان قيادة الرعاية الصحية عن بعد لمكافحة "كوفيد-19"، مستفيدة من التغييرات التنظيمية والاستهلاكية للرعاية الصحية في الولايات المتحدة، وأهمها شركة "آر أو"، مستبدلة المهام التي اختصت بها مراكز مكافحة الأمراض والوقاية "سي دي سي"، أو إدارات الصحة في كل ولاية، في السابق. وتدعي "آر أو" أنها انضمت إلى فرقة عمل تقنية خاصة أنشأتها إدارة ترامب لمواجهة "كوفيد-19".

أرباح طائلة على حساب ضعف غير المؤمنين صحيا؛ مواطنون أميركيون (أ ب)

الإطار العالمي

لا يقتصر هذا التفاؤل التقني (وهو مصطلح يعبر عن اعتقاد البعض بأن تحسين حياة الناس يكمن بالتكنولوجيا وتطوُّرها) على الولايات المتحدة، ففي بريطانيا، فتحت استجابة إدارة رئيس الحكومة، بوريس جونسون، المضطربة والمنتكسة، للفيروس، والمصحوبة بمحاولات هيئة الخدمات الصحية الوطنية التي تعاني من نقص تمويل حاد للتعامل مع الأعداد المتزايدة من المرضى المصابين؛ مساحة للشركات الخاصة لتقديم خدماتها في مكافحة الأزمة.

وأثبتت شركة "بابليون هليث"، أنها اللاعب الأكبر في هذا المضمار حتى الآن، فهي مزودة خدمة معروفة بشراكتها المثيرة للجدل بين القطاعين العام والخاص مع هيئة الخدمات الصحية الوطنية، بالإضافة إلى تاريخها المليء بتضخيم قدرات تقنياتها مع التقليل من المخاوف المتعلقة بالشرعية والسلامة.

وأطلقت الشركة مؤخرا برنامج "مساعد الرعاية بكوفيد-19"، وهو عبارة عن خدمة رقمية صُممت لفحص أعراض المرض، ومراقبة المصابين به، وتقديم استشارات على المساحة الافتراضية. ووفقا لما قاله المدير التنفيذي للشركة، علي بارسا: "يُعد كوفيد-19 تهديدَ الصحةِ العامة الأكبر لمجتمعاتنا منذ نحو قرن، ويقع على بابليون واجب المساعدة".

وبالطبع، يتضمن هذا "الالتزام" بوضوح، فرصةً تجاريةً غير مسبوقة للشركة التي حصلت على عقود حكومية إضافية في الولايات المتحدة، بالإضافة إلى توسيع نطاق عملها في بريطانيا، حتى مع بعض التساؤلات والجدل حول مزاعمِ تضاربِ المصالح مع أعضاء في إدارة جونسون.

والواقع أن شركات التكنولوجيا حول العالم لم تفوِّت فرصة الاستفادة من الفرص التي يتيحها هذا الوباء، فحتى في كندا، وهي دولة غالبا ما يُشاد بنظام الرعاية الصحية الشامل الخاص بها؛ غمرت شركات الصحة الرقمية السوق في أعقاب الإعلانات عن نماذج تعويض جديدة للأطباء لتقديم الاستشارات الصحية عن بعد. وفي مقاطعة ألبرتا، أعلنت الحكومة المحلية مؤخرًا، أنها ستُشارك مع شركة "بابليون هيلث" في تقديم استشارات الصحة عن بعد، ما لقيَ استنكارًا واسعا للأطباء حول قضايا تجزئة الرعاية.

وقد ظهرت اتجاهات مماثلة في مقاطعات كندية أخرى، مثل أونتاريو، حيث دفعت إتاحةُ التشاور الإلكتروني مع طبيب، موجةً من الشركات التي تسعى إلى الاستفادة من هذه الفرصة. وفي الوقت نفسه، لا تزال منصة الرعاية الافتراضية غير الربحية والمدارة بشكل عام في أونتاريو تعاني من الاقتطاعات الأخيرة من قِبَل حكومة المقاطعة المحافظة، وتكافح خدمة الرعاية الصحية عن بعد فيما تعاني من نقص التمويل للتعامل مع حالة الطوارئ الصحية العامة هذه.

وظهرت العديد من المشاكل بالفعل في مجال الصحة الرقمية الخاصة، بدءًا من إصدارها معلومات خاطئة، ووصولا إلى مجموعات فحص "كوفيد-19" غير مصرح بها، أو احتيالية، والتي تسوقها شركات عديدة، كما تم التغاضي عن مخاوف الخصوصية المحيطة باستخراج البيانات الصحية للمرضى واستخدامها والنشر المحتمل لها، وهي مشاكل تترسخ في قطاع الصحة الرقمية، وذلك نتيجة استغلال الشركات للأزمة لطلب الموافقة المبكرة على طلباتهم من الحكومات.

وهذا لا يعني استبعاد أي فائدة محتملة من الحلول التكنولوجية لأزمة "كوفيد-19"، إذ إن تطبيقات فحص أعراض المرض، وخدمات الصحة عن بعد، تملك القدرة على الوصول لأعداد هائلة من السكان، وقد تساعد في تخفيف العبء عن العيادات والمستشفيات المُثقَلة بالأعباء، ويمكن استخدام بعض هذه التقنيات لنشر التوجيهات على المستوى الوطني، وتقديم مصادر حقيقية للمعلومات الصحية وتوفير الخبرات الطبية.

مع ذلك، فإن صدور هذه الأدوات عن القطاع الخاص، واعتمادنا عليها خلال أزمة صحية عالمية، قد سرّع من دخول الشركات الربحية في مجال الصحة العامة مع مراعاة قليلة للعواقب الاجتماعية التي قد تنجم عن ذلك. وفي الواقع، إن ما يبدو وكأنه توسع مفاجئ لشركات الصحة الرقمية هذه التي تبشّر بحلولٍ تكنولوجية قصيرة المدى؛ هو إثبات لنقص موارد الصحة العامة لمواجهة أزمة "كوفيد-19".

وفي حين أن الوباء العالمي يدعو إلى اتباع نهج "تكافُل الجميع" للحدّ من انتشار الفيروس، وبالتالي إنقاذ الأرواح، فإن الدعوات قصيرة النظر لإيجاد حلول مرقعة في أوقات الطوارئ، والتي يتم تأطيرها في كثير من الأحيان في سوق "التفاؤل التقني"، لا تُعالِج الظروف الكامنة التي فاقمت وتفاقم الأزمة.

منصات وشركات عديدة استفادت من الأزمة (أ ب)

"هل يمكنك تسجيل براءة اختراع على الشمس؟"

بدأت شركات التكنولوجيا توسعها في قطاع الصحة العامة قبل هذه الأزمة الحالية، ساعية لمِلء الفراغ الذي سببته السياسات التقشفية في أنظمة الصحة العامة التي فشلت في توفير بنية تحتية صحية رقمية.

وتُعد مراقبة المرض وظيفة أساسية لمؤسسات الصحة العامة وستلعب دورا في غاية الأهمية في تخفيف انتشار الفيروس واحتوائه. ومع ذلك، يجب أن تكون الزيادة في مراقبة الناس، مدفوعة بوسائل ديمقراطية، وأن تقوم بها هيئات عامة مسؤولة عن سكان مطلعين. وهي مهمة لا يجب الاستعانة لتنفيذها بمصادر خارجية من أمثال "جوجل" و"مايكروسفت" و"فيسبوك".

يصرف التركيز غير المتناسب على حلول القطاع الخاص، الانتباه، عن موارد الصحة العامة التي تشتدّ الحاجة إليها اليوم. وكانت السيطرة على الأوبئة السابقة، دائما، نتيجة للجهود المتواصلة التي بذلها العاملون في القطاع العام، بدءًا من الأطباء وممرضي الصحة العامة المسؤولين عن تتبع المصابين والحجر الصحي، وصولا إلى علماء الأوبئة والباحثين المنخرطين في عمليات نَمذَجَة الأمراض وتطوير اللقاحات.

وعلى سبيل المثال، اكتُشِف لقاح "سالك" المضاد لشلل الأطفال، بعدما تمّ تطويره على مدار عقود من البحث المُمَوَّل حكوميا داخل المؤسسات العامة. ورفض العالم، جوناس سالك، الحصول على براءة اختراع لقاء ما اعتبره إنجازا عموميا، قائلا جملته المشهورة: "هل يمكنك تسجيل براءة اختراع على الشمس؟". تتناقض هذه الروح العامة التي امتلكها سالك بشكل صارخ مع تصريحات إدارة ترامب، التي استهزأت من فكرة تحديد أسعار لقاح مستقبلي للوباء. وقال وزير الصحة والخدمات الإنسانية في إدارة ترامب، أليكس عازار، والذي نشط في السابق في جماعة ضغطٍ لصالح كبرى شركات الأدوية: "نحن بحاجة إلى القطاع الخاص للاستثمار، والتحكم بالأسعار لن يصل بنا إلى هناك".

ولا يقتصر الأمر فقط على أن مبادرات القطاع الخاص غير قادرة على تقديم استجابة منسقة، بل في أنها تُنذر أيضا بتعميق التفاوتات القائمة في الصحة. وواجهت حلول الصحة الرقمية منذ فترة طويلة انتقادات بأنها تستهدف بشكل غير متناسب قطاعات غنية ومتعلمة أو متطلعة من الناحية التكنولوجية، من السكان، إذ تستبعد هذه الحلول دائما، الشرائح الأكثر ضعفا والأكثر تضررا من أزمة "كوفيد-19"، مثل السجناء والمشردين، والذين ليس بوسعهم الاستفادة من تقنيات القطاع الخاص هذه.

ولا توفر نصائح تطبيقات الخدمات الصحية عن بعد، بضرورة البقاء في المنزل، سوى مواساة واهنة للعديد من العمال ذوي الأجور المنخفضة الذين يضطرون للعودة إلى العمل في الخدمات الأساسية، دون الاستفادة من إجازة مرضية مدفوعة الأجر أو تدابير سلامة كافية. وسيكون تأثير مثل هذه التطبيقات في دول الجنوب العالمي، والتي من المتوقع أن يخلف "كوفيد-19" آثارا مدمرة فيها، أكثر محدودية.

في أميركا؛ "هل يمكنك تسجيل براءة اختراع على الشمس؟" (أرشيفية -أ ب)

نزع سَلْعَنَة الصحة

بينما دأبت إدارة ترامب على تقويض خبراء الصحة العامة، وتضليل الجمهور، وفشلت في تعبئة موارد الدولة لمعالجة الأزمة، فشل أفراد الجزء المؤيد للشركات (النيوليبراليون) من الحزب الديمقراطي، في تنظيم استجابة جرئية بما يكفي لمواجهة الطبيعة غير المسبوقة للأزمة، مضيعين وقتهم بدلا من ذلك في إسقاط مقترحات أساسية لتوفير الدخل للسكان.

ورغم أن ردود الدولة المهيمنة على الأزمة حتى الآن، تبدو وكأنها ترسي أسس خطة إنقاذ أخرى للشركات وزيادة زعزعة استقرار البنية التحتية للصحة العامة، إلا أن بدائل ذلك موجودة.

تُشير المقترحات التي قدّمها كل من السيناتور، بيرني ساندرز، والنواب؛ ألكساندريا أوكاسيو كورتيز، وإلهان عمر، ورشيدة طليب، إلى طرق منطقية للمضي قدما، إذ إن مقترحات سياساتهم والتي تتراوح ما بين إلغاء ديون الطلاب، والديون الطبية، ووقف دفع الإيجارات، وتأميم المستشفيات الخاصة، والأهم من ذلك، الدعوة إلى رعاية صحية أحادية الدفع؛ كلّها تُقدّم نقطة بدايةٍ لتنشيط القدرة الصحية لأنظمة الرعاية، بينما تلبي كذلك احتياجات الأشخاص الأكثر تضررا من الأزمة.

وعلى هذه الجهود أن توفر أيضا، أجندة للاستثمار في نزع سَلعَنَة البنية التحتية للصحة الرقمية في سبيل تحقيق الغايات المرغوب فيها اجتماعيًا. ويجب أن تعطي هذه الأجندة الأولوية لمبادئ ديمقراطية جذرية، مثل المشاركة الاجتماعية التصاعدية من أدنى الطبقات الاجتماعية، والتخطيط المنسق لاحتياجات الصحة العامة، والأمن والتحكم في بيانات الأشخاص، كجزء من وسيلة أوسع لجعل الحيّز الرقمي أكثر اشتراكية وديمقراطية. ويبدأ ذلك بكشف التهديد الذي تشكله الشركات الخاصة التي تسعى إلى الاستيلاء على البنية التحتية للصحة العامة خلف ستار التخفيف من حدة الأزمات.

في متجرٍ لآبل في بكين (أ ب)

ورغم أن الأزمات العالمية تكون أرضا خصبة لاستحواذات الشركات والتجاوزات الاستبدادية، فإنها تستطيع أن تتحول أيضا إلى لحظات تغيير عميق لإعادة هيكلة مؤسساتنا العامة من جذورها، بطريقة تُلبّي احتياجات الشرائح الفقيرة والطبقة العاملة. ولا يجب أن تلغي صدمة وباء كورونا، وما تلاها من حجر صحي وتباعد اجتماعي؛ التضامنَ الاجتماعيَّ والتعبئة السياسية، ويجب أن يتضمن جزء من المجهود التضامني والسياسي؛ تصوُّرُ بنيةٍ تحتية ديمقراطية للصحة الرقمية تُعيد بناء قدرتنا على تنفيذ استجابات منظمة وعادلة لأزمات الصحة العامة الحالية والمستقبلية.

التعليقات