الشيشان...  ملامح من تاريخ المواجهة المُبكّرة (2/1)

لم يبقَ من سكان شمال القوقاز بعد أحداث تهجير النصف الثاني من القرن التاسع عشر، إلا ثلث السكان فيه، بعد تهجير الثلثين منه، إلى حدٍّ خلَتْ بعض مناطق شمال القوقاز من أهلها تماما، فقام الروس بنقل وتهجير "القوازق" من داخل

الشيشان...  ملامح من تاريخ المواجهة المُبكّرة (2/1)

دمار في غروزني، عام 1995 ("أ ب")

هذه المقالة هي الأولى من أصل مقالتين حَوْل الشيشان، ومقاتليها المتأهبين للقتال إلى جانب الجيش الروسي في أوكرانيا، توضح أن روسيا أحكمت عام 1860 سيطرتها على القوقاز، بعد قضائها على ثورة اندلعت هناك، وقامت بالتواطؤ مع العثمانيين في تهجير شركس القوقاز إلى مناطق مختلفة من تركيا وسورية والأردن وفلسطين.


منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا نهاية الشهر الماضي، وفي أكثر من تقرير إعلامي غربي -متلفز ومكتوب- بما فيه الإعلام الإسرائيلي، جرت الإشارة إلى المقاتلين الشيشانيين، وتأهبهم للقتال إلى جانب الجيش الروسي في أوكرانيا. لم تكن تلك التقارير مهتمّة بموقف الشيشان كجمهورية من جيوب روسيا باتت في جيب الروس، بقدر ما اتّهمت "مسلمين ببنادق ولحى كثة، يستعدون لنهش اللحم في كييف".

عموما، يمكن لأيٍّ منّا أن يقدّر، في حال وإن ارتُكبت مجازر وفظائع في هذه الحرب، فإن التهمة قد تكون مُصممة وجاهزة... الشيشانيون - المسلمون هناك!

هناك مَثل شعبي لدينا يقول: "صار واقف في الصف، والحدّا بعدو مش جاي"... ينطبق هذا المثل على الرئيس الشيشاني رامزان (رمضان) قديروف وحماسته للقتال إلى جانب الجيش الروسي في أوكرانيا، أكثر مما تحمس الروس أنفسهم. رامزان هو ابن أحمد قديروف الذي كان في أحد الأيام مفتيا لثورة استقلال الشيشان عام 1991، قبل أن يقرر نقل بندقيته من كتف مقاومة الروس إلى كتف الولاء لهم، ثم اغتياله في خضم الحرب الشيشانية الثانية عام 2004.

ما كان لقديروف الابن أن يكون من مكانه في الشيشان ومكانته رئيسا لها، لولا أن سوّاها الروس في الأرض على رؤوس أهلها. ليقف الابن اليوم، على أنقاضها، نقيضا لتاريخها، ملوّحا بقميص والده، مواليا ومشكولا على خاصرة الروس. إلا أن هذا التحول، يقف على عبء ذاكرة ثورية تطول حكايتها، عندما حاكها القوقازيون منذ أواسط القرن الثامن عشر.

القوقاز

تمتدّ جغرافيّة القوقاز تاريخيا ما بين البحر الأسود وبحر آزوف من الغرب، وبحر قزوين من الشرق، بينما تصل إلى الشمال حتى حوض ماينتش ونهر القوما. أما جنوبا، فتنداح جغرافيا القوقاز لتصل حتى سفوح جبال أرمينيا. شعوب وإثنيات، بما أنزل الله من سلطان عاشت في تلك البلاد، بلغات وأديان وثقافات مختلفة ومتنوعة، بما فيها بلاد الشيشان الواقعة شمال - شرق القوقاز. والتي تقع جنوب روسيا، بينما تحدّ الشيشان من الجنوب جورجيا، وداغستان من الشمال والشرق، وأنغوشيا من الغرب.

زعيم الشيشان، قديروف ("أ ب")

يشترك الشيشانيون والأنغوش في منبت عرقي واحد يُطلق عليه "الويناخ"، والتي تعني "قومنا نحن". على الرغم من الفوارق اللغوية والدينية والثقافية، بين سكان شمالي القوقاز، إلا أنهم جميعا يعتبرون في أصولهم شركسا. فـ"شركس" ليست اسم لقبيلة أو لعرق بعينه، إنما هو لقب أطلقه الأجانب على أبناء شعوب شمالي القوقاز الأصليين جميعا. وذلك قبل أن يصبح الشراكسة حديثا، جماعة متمايزة عن باقي الشعوب القوقازية الأخرى.

يَجمع الإسلام، بين كل من الشيشان وأنغوشيا وداغستان، مما جعل هذه البلاد ثالوثا ذات خصائص وروابط دينية واجتماعية وثقافية مشتركة، وذاكرة مخضبة بالدم في وجه التمادي الروسي طوال التاريخ الحديث. ثابرت روسيا منذ القرن السادس عشر على بسط نفوذها على القوقاز في مواجهة مفتوحة مع العثمانيين - الأتراك من جهة، والصفويين - الإيرانيين من جهة أخرى، إلى أن أرغمت روسيا القيصرية، إيران، على توقيع معاهدة "تركمانكي" عام 1828م. والتي اعترفت بموجبها إيران بالسيادة الروسية على القوقاز. ثم تلتها معاهدة "أدرنة" عام 1829، حيث اعترف الأتراك - العثمانيون كذلك، بسيادة روسيا القيصرية على شمالي القوقاز.

اقتنع الإيرانيون والأتراك في حينه، مسلِّمين بالسيادة الروسية على القوقاز، غير أن القوقازيين وتحديدا الشيشانيون منهم، لم يقتنعوا ولا سلّموا بالسيادة الروسية على بلادهم. إنما وقفوا خلف إرادتهم على شكل حركات مريدية - صوفية، مُعتبرين الروس مُستعمِرين غُزاة، يستوجب طردهم حتى آخر قطرة دم في لحمهم.

جبال الله

"الشيشان ليست ملكا لروسيا، إنها ملك لله". كانت هذه صرخة القوقازيين الشيشان، التي ظلت تلازم حناجرهم طوال مقاومتهم للغزو الروسي منذ منتصف القرن الثامن عشر، إلى أن صارت شعار دولتهم المستقلة عن الاتحاد السوفييتي بعد تفككه عام 1991.

يعتزّ الشيشانيون بحبهم لحريتهم، التي تمثلت تاريخيا في عشقهم للسلاح والجبال معا، فالسلاح ظلّ يلازم الشيشاني أينما ذهب، سواء كان "الكنزال" (الخنجر) الشيشاني، الذي ظل مشكولا على خواصر الشيشانيين، مُعتبرين إيّاه "محكمة استئنافهم الأخيرة"، أو بنادقهم، التي صارت متاحة لهم منذ مطلع القرن العشرين، والتي ظلّت مردودة إلى أكتافهم لا تفارقها في أيام الحرب ولا في أيام السلم، إلى أن صار سلاحهم "نقطة ضعفهم" كما يقولون.

أما عن جبالهم، فتلك التي كانت ملاذهم، إذا ما دار عليهم الزمن أو الروس أو كلاهما معا. كما أن جبالهم التي يزيد ارتفاع بعضها عن 5000 متر، كانت مبعث الأساطير القوقازية، ومشعل مخيال أبنائها الشيشان على مدار التاريخ. إذ تُرادف الجبال حُرية الشيشاني وتحرره، ولطالما أشار الشيشانيون إلى الحُرية بقولهم، إن "الناس سواء، تحت الله والجبال".

تمثلت حرية الشيشانيين تاريخيا في عشقهم للسلاح والجبال معا (pixabay)

كانت أوّل ثورية مُريدية خاضها أهالي شمال القوقاز ضدّ "الغازقي" بالتعبير الشيشاني، أي "الكفرة الروس"، تلك التي انطلقت من مدينة "الدي" ببلاد الشيشان، عام 1785م، بقيادة الإمام منصور الشيشاني، الذي دعا إلى مواجهة الروس، وتوحيد مسلمي شمال القوقاز على اختلاف مذاهبهم سُنة وشيعة. وقد التحقت به كل من شعوب: داغستان، والقبارطاي، والنوغاي، بالإضافة للشيشان. أُسِر الإمام منصور على إثر إصابته في معركة "أنابا" ضد الروس عام 1791، حيث جرى نقله إلى موسكو، بطلب من الأمبراطورة كاترينا لرؤيته. وظلّ في الأسر في سجن "شليسبرغ" لمدة ثلاث سنوات، إلى أن استشهد مقتولا، بعد قَتله لسجانه في نيسان/ أبريل من عام 1794.

ثم كانت ثورة الإمام "الغازي مولاي محمد"، التي أطلقها من "باراح" جنوب داغستان عام 1824، معبّئا الداغستانيين والشيشانيين على الروس وغزوهم بشعارات لم تكن تخلو من مسوح مُتشددة أصولية، وأشهرها شعاره "الجنة تحت ظلال السيوف"، لتمتدّ ثورته مُشعِلةً الشمال القوقازي عن بكرة أبيه. قُتل الإمام غازي، بعد حملة شرسة شنها الروس في خريف 1832، على "غيمري" للقضاء على الثورة. وكان برفقته يومها، الإمام "شامل"، الذي سيحمل من بعد موت الأمام غازي مشعال ثورة القوقاز الشمالي كله ضد الغزو الروسي، مشكّلا بثورته التي امتدت بقيادته ما بين عامي 1848 - 1859 ملحمة بطولية، ومخيالا قوقازيا، جرى فيهما ترميز أسطورة الذئب القوقازي في مواجهة الدبّ الروسي.

الشيخ شامل

قاد الشيخ شامل، النضال الشيشاني منطلقا من مسقط رأسه داغستان، ثم إلى الشيشان التي وجد ضالته الثورية فيها وفي رجالها الجبليين. استطاع الشيخ رغم تزمته الديني وسطوته الأصولية(*)، بعث روح الحمية في الحركة المُريدية - النقشبندية، وأن يرصّ صفوف الداغستانيين والشيشانيين معا، مُشعِلا في صدورهم على حدّ تعبيره "شُعلة الحبّ والحقد معا"؛ حُب البلاد، والحقد على الروس الغُزاة، إلى أن صار الشيشانيون يرددون قوله: "الشعوب الصغيرة تحتاج إلى خناجر كبيرة".

خاض الشيخ شامل عدة معارك ضد جيوش روسيا القيصرية، كانت أقساها تلك التي اضطر أن يسلّم فيها ابنه جمال الدين الذي لم يكن يتجاوز عمره الثلاثة عشر عاما، رهينة للروس، كشرط اشترطوه عليه، مقابل عدم تدميرهم مدينة "اخولفوا" التي كان يتحصن فيها الشيخ عام 1837. إلا أن "اخولفوا" قد سقطت في الأخير بيد الروس، بينما استطاع شامل الهروب، ليظل متنقلا ومطارَدًا في مدن القوقاز وجبالها، إلى أن تحصن في جبال "غوينب"، حيث حاصره الروس فيها، مما اضطره إلى تسليم نفسه، وذلك في أيلول/ سبتمبر 1959.

لم يقتل القيصر الروسي الشيخ شامل، إنما طلب جلبه أسيرا إلى مدينة بطرسبرغ، ومنها إلى موسكو، وأمر بإكرامه وحسن معاملته في إقامته الجبرية فيها، وذلك لشدة إعجابه به وبثورته. ثم رفع القيصر الإقامة الجبرية عن الشيخ شامل، لا بل وأَذِن له بزيارة مكة المكرمة لأداء فريضة الحج، وبعدها ظلّ شامل الإمام مقيما بين الحجاز والقاهرة وإسطنبول، إلى أن توفي عام 1871، ودُفن في المدينة المنورة.

الاقتلاع

أحكمت روسيا بعد قضائها على ثورة الشيخ شامل عام 1860 سيطرتها على القوقاز. وقامت بالتواطؤ مع العثمانيين في تهجير شركس القوقاز إلى مناطق مختلفة من تركيا وسورية والأردن وفلسطين. وذلك بعد سلسلة مذابح منظمة أشهرها مذبحة "آخشجب" في نهاية عام 1864.

جنود شيشانيون في غرونزي ("أ ب")

أرادت روسيا القيصرية قوقازا بلا سكانه. وفي المقابل استخدمت الدولة العثمانية الشركس المُقتلعين، كأحزمة بشرية لأمنها الحدودي، فوطّنت بعضهم في المناطق المتاخمة للحدود العثمانية - الروسية، كما أسكنوا بعضهم الآخر على الشريط الحدودي الفاصل بين القرى التركية والبلغارية كواجهة في وجه البلغار، وأنزلوا كذلك بعض الشركس حول مدينة إسطنبول كدرع بشري حامٍ لأطراف العاصمة ومداخلها. إضافة إلى توطين جزء من الشركس في المناطق العثمانية ذات الأغلبية المسيحية، لأغراض مختلفة منها إقامة توازن مذهبي - ديني في تلك المناطق، مثل أرمينيا وقبرص ولبنان.

لم يبقَ من سكان شمال القوقاز بعد أحداث تهجير النصف الثاني من القرن التاسع عشر، إلا ثلث السكان فيه، بعد تهجير الثلثين منه، إلى حدٍّ خلَتْ بعض مناطق شمال القوقاز من أهلها تماما، فقام الروس بنقل وتهجير "القوازق" من داخل روسيا إلى القوقاز ومعهم جماعات قومية أخرى، إلى أن صار القوقازيون أقلية في بلادهم. ولم يكن كل هذا يعني وقف مقاومة القوقازيين - الشيشانيين للهيمنة الروسية على بلادهم، بل ظلت تنبعث بين حين وآخر، بدءا بحركة "أومادوييف" الشيشانية، وصولا إلى حركة مقاومة الزعيم الشيشاني "علي بك حاجي" الذي قمع الروس مقاومته وأعدموه في غروزني عام 1878.

مع نهاية القرن التاسع عشر، ومطلع القرن العشرين واندلاع الحرب العالمية الأولى، ثم قيام الثورة البلشفية على الحكم القيصري والإطاحة به في روسيا عام 1917، ستصبح الشيشان على موعد مع طَوْر آخر من الأحداث في ظلّ روسيا السوفييتية.


الهوامش:

(*) عن تزمّت الشيخ شامل ونهجه المتشدِّد، راجع: عبد الرحمن محمود، تاريخ القوقاز - نسور الشيشان في مواجهة الدب الروسي، دار النفائس، ص 64-70.

التعليقات