سينيشيا مالشيفيتش.. في سوسيولوجيا الحرب والعنف

يخلص مالشيفتش في الأخير، إلى أن عصرنا، بتنظيمه الاجتماعي المُركّب وأيديولوجياته المُشرعنة، وبخلاف كل ما سبقه، يحتقر نظريا، أي استخدام للعنف، إلا أنه قد شهد دمارا وقتلا أكبر من الذي شهدته كل الحقب التاريخية السابقة مجتمعة

سينيشيا مالشيفيتش.. في سوسيولوجيا الحرب والعنف

جندي أوكرانيّ قرب موقع تعرّض لقصف روسيّ (توضيحية - "أ ب")

"إن اجتماعيتنا وليست فرديتنا، هي التي تجعلنا إيثاريين رحماء وقتلة متوحشين في الوقت عينه" يقول سينيشيا مالشيفيتش، في مطلع كتابه؛ "سوسيولوجيا الحرب والعنف" المُترجَم والصادر مؤخرا عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر. يمايز مالشيفيتش بين العنف والحرب، باعتباره أن الحرب ظاهرة أحدث من العنف ولاحقة عنه، ارتبطت بنشأة الحضارة وتحضّر الإنسان. كما يمايز أيضا بين الحرب التقليدية والحرب الحديثة الشاملة، إذ يرى هذه الأخيرة قد وُلدت مع الحداثة الأوروبية ومنها، مما جعلها أكثر عنفا وتوحشا لناحية حجم الفتك والتدمير فيها.

نتفق جميعا مع قول مالشيفيتش عن مفارقتنا نحن البشر في التاريخ المعاصر في ما يتعلق بفعل العنف، فمن ناحية نجد لدى كل منّا رفضا صارما لفعل العنف، مدعوما بتحريمات معيارية مُستمدة من الدين والقانون والأعراف، بما يعنيه العنف كإلحاق أذى جسدي بالآخرين. بينما من الناحية الأخرى، يجد مالشيفيتش أن الثقافات الشعبية والروايات وكتب التاريخ ووسائل الإعلام والفن والسينما والألعاب؛ مشبعة كلها بصور العنف وأدواته، إذ تجذبنا الأفلام والألعاب والصور المتضمنة للفعل العنيف، بطريقة لا لبس فيها، إلا أن مَرَدّ ذلك ليس لِعنف يريده كل فرد منّا، بل على العكس يقول مالشيفيتش، "إن العنف يجذب انتباهنا تحديدا لأننا لسنا بارعين فيه، ولأننا لا نواجهه على نحو يومي"، ففي ملاحظة لعالِم النفس الفرنسي سيرج موسكوفيتشي يقول فيها إنّ "صورة الشيطان ناجعة ومؤثرة للغاية تحديدا لأننا لا نلتقيه في الشارع"، يقتبس مالشيفيتش.

صورة لغلاف الكتاب

من هنا، إن فرضية صاحب الكتاب الأساسية لتحليل علاقة سوسيولوجيا الحرب بالعنف، هي في قوله: "على الرغم من أننا، وكأفراد، لسنا مُستعدين تماما لاستعمال العنف ولا مقتدرين جدا على فعل ذلك، يمكن للتنظيمات الاجتماعية ولعملية الأدلجة أن تساعدا -وغالبا ما تفعلان ذلك- على تحويلنا إلى آلات قتل فتّاكة وضارية"، مما يعني بالنسبة لمالشيفيتش أن أي عنف جماعي طويل الأجل، وبخاصة الصراعات واسعة النطاق كالحروب، يقتضي حدوثها وجود هذين المكوّنين الجوهريين: قُدرة تنظيمية بنيوية معقدة أولا، وأيديولوجيا مُشرعِنة قوية وفعّالة ثانيا.

قبل تناول مكوّنَي "التنظيم الاجتماعي والأيديولوجيا" في تشكيل الحرب الحديثة، فإن لصاحب الكتاب ملاحظة عن مقولته في مفارقة البشر حديثا تجاه الحرب، بين استنكارنا لها كأفراد، وتبريرنا لها إلى حد الاصطفاف خلفها كجماعات، إذ يرى مالشيفيتش أن لحقل السوسيولوجيا (علم الاجتماع) كبير أثر في هذه المفارقة، وذلك بعد أن جرى تطهير السوسيولوجيا من دراسات الحرب. وهذا ما يمكن لنا أن نسمّيه مع الكاتب بـ"سلمية السوسيولوجيا الحديثة".

سلميّة السوسيولوجيا

يرى مالشيفيتش أن الفكر الاجتماعي الغربي الحديث، قد تقصّد تجاهل الحرب كظاهرة مستقلة بذاتها، بل وتحييده معها الفكر الاجتماعي التقليدي - الحربي.

وبكلماته: "فإن الفكر الاجتماعي الكلاسيكي، لم يكن في العموم، متجاهلا للحرب والعنف، وإنما هيمنة النظرية الاجتماعية -ضد العسكرية- في النصف الثاني من القرن العشرين، هي التي طهّرت السوسيولوجيا من دراسات الحرب. وذلك عن طريق تجاهلها للتقليد السوسيولوجي "الحربي" الثري، وإعادة تأويل الأعمال الكلاسيكية وفق معايير "سلمية" على نحو صارم، في الوقت عينة".

هذا التجاهل للحرب والعنف في الفكر الاجتماعي الحديث، هو تسييس له، جرى في سياق أزمة سياسية متعلقة بالعالم الغربي، فخطاب نبذ العنف، ورفض الحرب، جرى تعميمه على العالم تربويا واجتماعيا وثقافيا، بعد أن تعبت منه أوروبا واكتوت بنار الحرب، خصوصا الحرب العالمية الثانية. وبالتالي وُظِّف الفكر الاجتماعي وعلم الاجتماع في الأكاديميا الغربية عموما، في خدمة تعميم خطاب نبذ العنف واعتبار الحرب ظاهرة عرضية - مرضية على هامش الحداثة، وذلك عمل ليس فقط على إسقاط التراث الاجتماعي الحربي الكلاسيكي من الفكر الاجتماعي الغربي الحديث، إنما على اختزال الفكر الاجتماعي الغربي بـ"الثالوث المقدس" إيميل دوركهايم، وكارل ماركس وماكس فيبر. الذين اعتُبروا بعد الحرب العالمية، وبأثر رجعي، بمثابة الآباء المؤسسين لعلم الاجتماع.

لم يُفرَض كل من دوركهايم وماركس وفيبر على أهل السوسيولوجيا بموجب مرسوم ما، هذا صحيح يقول مالشيفيتش. إذ لنظرياتهم خصوبة معرفية، ودقة تحليلية، وسِعة خيالية. لكن ذلك جزء من القصة. حيث لبروز الثالوث المقدس إرث سوسيو-سياسي، وهو إرث الحربين العالميتين. ولا يعني هذا الاختزال، بأن هذا الثالوث لم يتناول فعل العنف والحرب في نظرياتهم، إنما تناولوها على هامش انشغالهم السوسيولوجي بموضوعات من قبيل؛ التقسيم الطبقي، وانعدام المساواة بين الجنسين، والرفاهية، والعقلنة، والعلمنة، والتمدّن والنُّظُم المعيارية. مما جعلها سوسيولوجية سلمية، يجري العنف على هامش موضوعاتها أو من خلالها. وليس بوصف فعل العنف الحربي ظاهرة سوسيولوجية قائمة بذاتها كما يرى صاحب الكتاب.

يتمرد سينيشيا مالشيفيتش على الفكر الاجتماعي المختزَل بثالوثه المقدس، ليذهب عائدا وماسحا الغبار عن زجاج نافذة الفكر الاجتماعي الكلاسيكي - الحربي، إلى الأطُر التفسيرية للعنف والحرب في القرن التاسع عشر. منها مدرسة "الدولانية الحربية الألمانية"، ونموذج "صراع الجماعات النمساوي - الأميركي".

ثم "الليبرتارية السوسيولوجية الألمانية"، مرورا بكل من "نظرية النخبة الإيطالية"، و"النظرية التطورية الإنجليزية - الأميركية"، وصولا إلى "ميتافيزيقا العنف الفرنسية".

لاجئون أوكرانيون فارون من الحرب (توضيحية - "أ ب")

إن هذه الأطر التفسيرية - النظرية على اختلاف تفسيراتها للعنف والحرب التي تناولها مالشيفيتش على ألسنة روادها، قد انبثقت عن سياق سياسي متّصل بالدولة القومية الحديثة، وتحديدا في تلك الدول التي دفعت بأوروبا والعالم إلى أكبر حربين كونيتين في النصف الأول من القرن العشرين، كان عنفهما الحربي وحشيا وفتّاكا، أدّى وأودى على نحو غير مسبوق بحياة عشرات الملايين القتلى من البشر.

على الرغم من أهمية اهتمام الفكر الاجتماعي الكلاسيكي - الحربي في تفسير فعل الحرب. إلا أن صاحب كتاب سوسيولوجيا العنف والحرب، وجدها معيوبة، فعمل على محاججتها كمقدمة لتبيين عيوبها، وبالتالي توضيح مقولته عن الحرب كظاهرة اجتماعية تقف على عكازين: التنظيم الاجتماعي المتمثل في "برقرطة القسر"، والأيديولوجيا كمشرّع لفعل القسر والعنف.

التنظيم الاجتماعيّ للعنف أو بَرَقْرَطة القَسر

يرى مالشيفيتش أن التنظيم الاجتماعي للدول القومية الحديثة، هو تنظيم بذاته ناتج عن الحرب، وليس العكس. إلى حد اعتباره أن بعض الدول القومية في القرن التاسع عشر، مثل روسيا: "لم تكن دولة تملك جيشا، بقدر ما كانت جيشا يملك دولة". لذا، فإن كل أشكال التنظّم الهرمي والتراتب البيروقراطي لمؤسسات الدولة الحديثة، مستمدة أساسا من البيروقراطية العسكرية فيها، من حيث أن الجيش الحديث هو التجسيد النموذجي للبيروقراطية الفيبرية (نسبة لماكس فيبر).

على سبيل المثال، إن فكرة الزي الموحد في أوضاع مختلفة في مؤسسات الدولة المدنية الحديثة، مثل المدارس والمستشفيات والسجون والشرطة، منبثق عن الزي الموحد للجيش كتنظيم اجتماعي - عسكري.

بالنسبة إلى مالشيفيتش، فإن الحرب، هي ظاهرة حديثة، ما كان لها أن تكون، لولا التنظيم الاجتماعي وبرقرطة القسر فيها، مما جعلها تختلف عما سبقها قبل التاريخ الحديث، من احتراب وغزوات، لناحية طول أمد الحرب الحديثة ووحشيتها الأشد فتكا بالبشر، ففي الحرب، التنظيم الاجتماعي، وليس الأجساد والعتاد المادي، هو هدف المناورات القتالية. والجيوش تحارب، لا كي تقتل الجنود وتعطّل الأسلحة وتكسب الأرض فقط، وإنما كي تقوّض قدرة الخصم على المقاومة. وذلك، لكون الجيوش ماكينات بيروقراطية في المقام الأول، تسعى لتعطيل تنظيم وبيروقراطية خصمها للانتصار عليه. إن التنظيم هو سلاح الحرب وهدفها في الوقت نفسه بالنسبة لصاحب كتاب سوسيولوجيا الحرب والعنف.

إن التنظيم الاجتماعي للحرب في ظل حداثة الدول الأوروبية الحديثة، قد جعل العنف ممارسة خارجية، في ظل تنظيم المجتمعات على أسس قومية، وهذا ما كانت محصلته حروب النصف الأول من القرن العشرين العالمية. كما عمل التنظيم الاجتماعي وبرقرطة القسر، في ظل الحداثة على عَقْلَنة العنف، مما جعله أكثر فتكا وتدميرا، خصوصا مع التقدم التقني الحربي.

وعن ذلك يقول مالشيفيتش، إن "رسمية الجيش الحديث ولاشخصانيته (بُعده عن الشخصنة)، تسمح بقدر أقصى من القسوة، فالتكليف بالمهام وتوزيع المسؤوليات، والبنية التنظيمية التراتبية والمُقسمة لبيروقراطية الجيش، والانفصال الشخصي عن الضحايا، كلها أشياء تخلق وضعا مثاليا لممارسة القسوة المجردة من العواطف. وهذا ما جعل الهولوكست، بحسب زيجمونت باومان في كتابه "الحداثة والهولوكست" ممكنة، والذي أطلقت عليه حنا آرنت تعبيرا صار عنوانا لكتابها بـ"تفاهة الشر"، على إثر أقوال واعترافات المسؤول الألماني النازي أدولف آيخمان، أثناء محاكمته سنة 1961 في القدس.

مع ذلك، ورغم الدور الذي يؤديه التنظيم الاجتماعي وبرقرطة القسر في الحرب، وفي شكلها المتوحش الذي صارت عليه حديثا مع الحداثة، فإن ذلك وحده، لا يجيب بالنسبة لمالشيفيتش عن سؤال الحرب وعنفها، إلا بالتوازي مع أدلجتها، وذلك عبر الأيديولوجيا المُشرعنة لممارستها.

الأدْلَجة والعزف على أوتار الكبرياء

يظّل سينيشيا مالشيفيتش على موقفه، بأن البشر غير ميّالين فطريًّا إلى الحرب والعنف. وبالتالي، وإضافة لدور التنظيم الاجتماعي وبرقرطة القسر في فعل العنف الجماعي، فإن ذلك غير كافٍ لممارسته. إذ يشترط كل من فعل العنف الجماعي والحرب، شرطين لفعلهما: التحفيز أولا، والتبرير ثانيا. ويتطلب ذلك بالنسبة لمالشيفيتش، أيديولوجيا، بما ترفده الأدلجة من "تحفيز" على الحماسة القتالية عن طريق العزف على أوتار الكبرياء، والخوف والوفاء، والتنبيه من الإذلال والازدراء وغيرها من العواطف.

ومن جانب آخر، تشتغل الأدلجة على "تبرير" فعل العنف والقتل عبر مقدمات متصلة بالمُثل والمبادئ الأخلاقية المتوفرة في الأغلبية من النظم الاجتماعية، والتي تدفع لفعل القتل والاحتراب لأغراض نبيلة تقتضيها تلك المُثل والمبادئ.

جندي أوكرانيّ ينظر إلى جثة آخر في ضواحي خاركيف (توضيحية - "أ ب")

إذا كان العالم، ما قبل الحديث، قد استند في حروبه، على أيديولوجيات تقليدية منها الأساطير والأديان والمُثل الملكية في الغرب الأوروبي، فإن الحداثة قد أنتجت وسائل تبرير اجتماعي أكثر قوة وفاعلية، وهي الأيديولوجيات العلمانية والمعلمِنة. ويقصِد مالشيفيتش بالأيديولوجيا الحديثة، تلك السيرورة الاجتماعية العمومية، التي يعبر من خلالها الأفراد والفاعلون الاجتماعيون عن معتقداتهم وقيمهم وأفكارهم وأفعالهم.

هذا مع العلم، بأن الملوك والحكام في دول ما قبل الحداثة، (الدول السُلالية)، لم يكونوا يحتاجون لأيديولوجيا مُشرعنة لحروبهم، بالقدر الذي باتت تحتاج إليه سلطات الدول القومية مع الحداثة، حيث تتطابق فيها الدولة مع المجتمع تطابقا تامًّا. كما لأن الدولة القومية - الأمة، باتت تجسيدا لروح الشعب ومُثله والنزوع نحو تقرير مصيره في إطارها، مما يتطلّب أدلجة للحرب من أجل شرعنتها وتحشيد الجماهير لها.

يحاجج مالشيفيتش في دور الأدلجة لشرعنة الحروب والعنف الجماعي في التاريخ الحديث، من خلال تناوله، لظاهرة حروب "الإبادة الجماعية"، والتي يعتبرها ظاهرة مستجدة في التاريخ متصلة بالدولة القومية الحديثة. إذ ما كان لحرب الإبادة أن تحدث، لولا الأدلجة المحمولة بخطاب شرعنة القتل الجماعي، من أجل أغراض وغايات جماعية نبيلة. وينطبق هذا على كثير من المذابح وحروب الإبادة التي حدثت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والقرن العشرين.

إن مذبحة الأرمن في سنة 1915، وهي واحدة من أولى الإبادات العرقية في القرن العشرين، لم تُنظَّم وتُنفَّذ من قِبل الإمبراطورية العثمانية - السُلالية، وإنما على يد حركة تركيا الفتاة الحداثية والعلمانية والمتغربنة، والعازمة على بناء دولة حديثة متجانسة ثقافيا بأفق وطني - أيديولوجي، حيث جرى تصوير الفلاحين الأرمن، وفق تصوّر أيديولوجي، على أنهم طابور خامس "خائن"، يهدد وجود الدولة التركية الحديثة نفسه.

وهذا ينطبق على كثير من فعل الإبادة الجماعية في الحرب العالمية الثانية، خصوصا في ظل الأيديولوجيا النازية - الألمانية، التي اقتضت التدمير الممنهج لجماعات بأكملها من الناس: اليهود والعبيد والغجر والمثليين جنسيا وغيرهم. إن القتل الجماعي الممنهج يتطلب بالنسبة إلى مالشيفيتش وجود كل من التنظيم الاجتماعي الحديث، والأيديولوجيا الحديثة.

في الأخير، يذهب صاحب كتاب سوسيولوجيا الحرب والعنف، من أجل إثبات فرضيته بمكوّنيها "التنظيم الاجتماعي والأيديولوجيا"، في ممارسة فعل العنف الحربي الحديث، إلى حقول مختلفة مثل: أنثروبولوجيا الحرب، والجغرافيات الاجتماعية للحرب، والحداثة والحرب، والتقسيمات الاجتماعية فيها مثل النوع والجندر. وذلك من أجل فحص فرضيته وإثباتها.

ليخلص مالشيفتش في الأخير، إلى أن عصرنا، بتنظيمه الاجتماعي المُركّب وأيديولوجياته المُشرعنة، وبخلاف كل ما سبقه، يحتقر نظريا، أي استخدام للعنف، إلا أنه قد شهد دمارا وقتلا أكبر من الذي شهدته كل الحقب التاريخية السابقة مجتمعة، دون أن يعني هذا البتة، أن البشر الحداثيين هم أشدّ عنفا من أسلافهم ما قبل الحداثيين.

التعليقات