إيال وايزمان... عن الصهيونيّة وأهالي النقب (2/2)

كان الغرَض من إعادة توطين بدو النقب، هو نزع صفة البداوة عنهم، والتي تمثّلت فيهم قبْل النكبة، بالرعي والترحال الدائميْن، إضافة إلى "تأديبهم" عبر مشروعات زراعيّة - صناعيّة حديثة. فضلا عن تجنيدهم في الجيش

إيال وايزمان... عن الصهيونيّة وأهالي النقب (2/2)

عناصر الأمن الإسرائيليّ في النقب ("أ ب")

هذه المقالة هي الجزء الثاني من مقالتين حول النقب، تركّز على إعادة توطين بدو النقب، لغرَض نزع صفة البداوة عنهم. كما توضح أنّ سياسات اشتغال إسرائيل في النقب، لم تقِف عند الاستيطان اليهوديّ - الصهيونيّ، وإعادة توطين من تبقّى من بدو النقب. إنّما عملت على استغلاله كحيِّز للاستيطان الحربيّ، فيما أوردت المقالة الأولى والتي جاءت تحت عنوان: "إيال وايزمان: الصهيونيّة والتدخُّل البيئيّ في النقب... سياسات ’التحريج والإنبات’"، تفاصيل حول سياسة التدخُّل الصهيونيّ المُدمّرة لطبيعة النقب الجغرافيّة - البيئيّة، والتي تشمل التحريج؛ أحد أهمّ أدوات ممارسة فِعْل السلْب لأراضي النقب، وطرْد من تبقّى من أهلها.


بعيون الصهاينة

لم يرَ صهاينة نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، الذين حطّوا في فلسطين ببدو النقب، أعداءً مُسلّحين، أو منافسين مُتعصّبين، ولا حتّى غرباءَ في أرضهم. إنما وفق تصوّر صهيونيّ - استشراقيّ، كان بدو النقب في موطنهم "التوراتيّ" بمثابة تجسيد حيّ، يدلّ على إرث الأجداء اليهود في "أرض إسرائيل"، يقول إيال وايزمان نقلا عن ميرون بنفيستي في كتابه: "قصر الأواني المهشّمة".

هذه النظرة الاستعماريّة - الاستشراقيّة لتقاليد البدو العرب في صحراء النقب، قد شاعت منذ مطلع القرن العشرين من حيث النّظر لعادات وقوانين البدو الاجتماعيّة والثقافيّة على أنها امتداد للتراث التوراتيّ - العبرانيّ، فقد كتب الباحث الأميركيّ كلنتون بيلي، الذي أمضى قرابة خمسة عقود في دراسة حياة بدو النقب وسيناء، كتابه: "ثقافة البدو في الكتاب المقدَّس"، محاوِلا من خلاله إثبات علاقة تقاليد بدو النقب بالتوراة، كما لو أنهم سليلو العبرانيين القدماء في "أرض إسرائيل".

أطفال في النقب يطالعون حطام مسكنهم الذي يُهَدم باستمرار (تصوير: وليد العبرة)

مع ذلك، لم تشفَع هذه النظرة لبدو النقب، لتجنّبهم فِعْل الطرد والتهجير، فبين سنوات 1948-1953 طرَدَ الصهاينة بحسب وايزمان في كتابه "حدّ الصحراء، خطّ المواجهة" ما يقارب من 90% من عرب النقب إلى الضفّتين الشرقيّة والغربيّة، وبعضهم إلى غزّة وصحراء سيناء، في أعمال وحشيّة مارسها الصهاينة في تلك السنوات، تضمّنت قتلا واقتلاعا، وحرقا لبيوت الشعر، وهدما لبيوت الحجر، وردما لآبار الماء، وصلت إلى حدِّ قصفهم بالطائرات الحربيّة، التي لم ينجُ منها غير ما يقارب 12 ألفا و500 عربيّ من بدو النقب، والذين ظلّوا فيه بعد عزلهم في مناطق جافّة، وإخضاعهم للحكم العسكريّ مثل باقي فلسطينيي الداخل المتبقّين بعد النكبة في البلاد.

الجدير ذكره بحسب وايزمان، أنّ نمَط التِّرحال والتنقُّل الذي اعتاد عرب النقب عيشه في صحرائهم، منذ مئات السنين، والذي ميّزهم عن باقي أهالي فلسطين، قد بدا مريحا للمستوطنين الصهاينة قبْل النكبة في جنوب فلسطين، إذ ساعد ترحال البدو الدائم، الصهاينة، على إمكانيّة استيطان الصحراء، إذ اعتبروا ترحال البدو الدائم في حركة رعويّة - موسميّة، دليلا على عدم أهليّة البدو في الأرض، وقلّة ارتباطهم بها.

عناصر الأمن يقتحمون أراضي أهالي النقب ("أ ب")

بينما بعد النكبة، ومع بقاء بضعة آلاف من أهالي النقب فيه، بعد طرد معظم سكّانه، سيُصبح ترحال البدو أزمة بالنسبة للدولة العبريّة، التي أرادت إعادة توطينهم قسرا في مجمّعات سكانيّة خصّصتها لذلك الغرَض.

الاستيطان والتوطين

منذ مطلع الخمسينيّات، بدأت إسرائيل في عمليّة طمس ممنهَج، لكلّ مظاهر ومعالم الوجود العربيّ - البدويّ في النقب، وتحديدا في مناطق الشمال منه. كما أوكلت إلى زلمان ليفشيس، رئيس لجنة إعادة تسمية النقب، التي شكّلها بن غوريون سنة 1950؛ مهمّة عَبْرَنَة أسماء وخرائط مناطق صحراء النقب.

بعد مهمّة عَبْرَنَة الأسماء والمواقع، حوّلت الدولة العبريّة خلال خمسينيّات القرن الماضي، مناطق شمال النقب التي اقتُلع أهلها منها، إلى مستوطنات يهوديّة زراعيّة، ومعسكرات للجيش. وفي الستينيّات، بدأت إسرائيل ببناء ما عُرف بـ"بلدات التطوير"، من بينها بلدات مثل: عَراد، ديمونة، يروحم ومتسبيه ريمون.

كان معظم المستوطنين في هذه البلدات، هم يهود مهاجرون من شمال إفريقيا، وفق تصوُّر لدى النُّخبة الصهيونيّة - الأشكنازيّة، تتمثّل بأنّ اليهود القادمين من المغرب وتونس وليببا، يمكنهم التأقلُم مع البيئة الصحراويّة في النقب، بشكل أسرع من باقي المهاجرين اليهود القادمين من أوروبا.

أثناء ذلك، كان بدو النقب الذين ظلّوا فيه، يخضعون للعزل القسريّ تحت الحكم العسكريّ الذي امتدَّ ما بين 1948 - 1966. بعد رفع الحكم العسكريّ عن جميع السكّان العرب في البلاد، شكّل بدو النقب، وضعا استثنائيًّا بالنسبة لقيادة الدولة العبريّة. وبالتالي، تمّ التفكير بإعادة توطينهم، وذلك عبر مشروع "بلدات التوطين"، والذي أطلَق عليه وايزمان في كتابه: سياسة "السَّلب والتوطين - بالعبريّة لفظًا: ’نيشول فريكوز’"، في إشارة إلى طبيعة السياسة الصهيونيّة تجاه بدو النقب الباقين فيه، طوال النصف الثاني من القرن الماضي. وقد أقامت إسرائيل من أجل تنفيذ هذا المشروع ما بين عامَي 1969 - 1989، سبع بلدات لتوطين بدو النقب فيها، منها بلدة رهط، التي أقامها الإسرائيليون مطلع السبيعينيّات، لتغدو أكبر مدينة عربيّة في النقب اليوم.

كان الغرَض من إعادة توطين بدو النقب، هو نزع صفة البداوة عنهم، والتي تمثّلت فيهم قبْل النكبة، بالرعي والترحال الدائميْن، إضافة إلى "تأديبهم" عبر مشروعات زراعيّة - صناعيّة حديثة. فضلا عن تجنيدهم في الجيش، وبخاصة في وحدة "قصّاصي الأَثَر"، أو في مهمّات عسكريّة داخل أراضي الضفة الغربيّة بعد احتلالها عام 1967.

يُشير وايزمان لسياسات "إعادة توطين بدو النقب" إلى ما قبْل إسرائيل والصهاينة. إذ تعود هذه السياسة إلى زمن الدولة العثمانيّة في أواخر القرن التاسع عشر، ومطلع القرن العشرين، ضمن سياسة ضبط حركة البدو في بوادي بلاد الشام عموما، بمن فيهم بدو النقب، حيث أعاد الأتراك سنة 1900 بناء بئر السبع كمركز إداري، ومجمع لتوطين بعض القبائل العربيّة، ونقطة خَفر ومراقبة لبدو النقب، والتي صارت لاحقا أكبر مدينة عربيّة قبْل النكبة فيه.

النقب كساحة خلفيّة

لم تقِف سياسات اشتغال إسرائيل في النقب، عند الاستيطان اليهوديّ - الصهيونيّ، وإعادة توطين من تبقّى من بدو النقب. إنّما عملت على استغلاله كحيِّز للاستيطان الحربيّ، فقد أقامت فيه مجموعة من ثكنات الجيش، ومهابط الطائرات الحربيّة، ومعسكرات التدريب والمناورات الحربيّة، فضلًا عن مخازن الأسلحة، خصوصا بعد انسحاب إسرائيل من شبه جزيرة سيناء مطلع الثمانينيّات، ونَقْلِ ثكناتها العسكريّة ومعدّاتها الحربيّة منها إلى النقب، مما برَّر للدولة العبريّة الاستمرار والتمادي في سياسة طرد عرب النقب من مواقع إقامتهم.

كما حوّلت إسرائيل، النقب، إلى أكبر مخزن وأخطر مختبر لصناعتها العسكريّة - الكيميائيّة. أهمّها كان مفاعل ديمونة، الذي أُقيم في مطلع الستينيّات، وبقي وجوده طَيّ الكتمان حتى الثمانينيّات، إذ أُقيم المفاعل على أراض تعود ملكيّتها لعشيرة "التياهة" البدويّة، الذين جرى إبعادهم عن أراضيهم وقتها.

إضافة إلى ذلك، استخدمت إسرائيل النقب، لدثْر القمامة والنفايات، حيث أقامت فيه أكبر مكب للنفايات في البلاد، دون أي اكتراث لخطورة هذه النفايات على صحة أبناء بدو النقب، وتبعاتها في تلويث البيئة والمناخ فيه. وكان أخطرها، هو مكَبّ النفايات السامّة الذي أقامته الدولة سنة 1979 في جنوب مدينة بئر السبع، معتبرة إيّاها منطقة غير مأهولة، في إشارة إلى خلوّها من اليهود، لا العرب؛ حتّى صار النقب مدفنا للمواد المُشِعَّة، فضلًا عن خَزن المواد القابلة للاشتعال فيه.

في هذا السياق، أشار وايزمان إلى واحدة من المنظّمات البيئيّة، المعروفة باسم "الدوريّة الخضراء بالعبريّة لفظًا: ’هسيّريت هايِروكاه’"، والتي اعتبرها الكاتب بمثابة "ميليشيا بيئيّة" للسياسات الصهيونيّة التي استهدفت المكان والسكان معا في النقب، ففضلا عن قصة تحوُّل هذه الدوريّة إلى ميليشيا على مدار سنوات في النقب وطبيعة تشكيل عناصرها من يهود يُجيدون العربيّة، وكذلك من مواطنين عرب ينتمون إلى طوائف دينيّة محدّدة؛ تناوَل وايزمان ممارسات هذه الدوريّة في مراقبة أهالي النقب وملاحقتها لهم، لا بل اتخاذها إجراءات مثل قلْع خيام البدو من مواقعها، وقطع مياه الشُّرب. كما لم يتردّدوا في فتح النار على كلاب البيوت وقتلها.

(خاصّة بـ"عرب 48" - وليد العبرة)

الأسوَء من ذلك، كان في مطلع العقد الأول من القرن الحالي، حين أُعطيت ميليشيا الدورية الخضراء، الضوء الأخضر من قِبل حكومة إسرائيل باستخدام المبيدات السامّة ورشّها من الجوّ، عبر طائرات مخصّصة لذلك. أدت هذه المبيدات التي كانت على درجة تركيز عالٍ، إلى إبادة مئات الدونمات الزراعيّة التي تعود ملكيّتها لأهالي "عبدة" القرية غير المُعترَف بها.

كما لم تتوانَ الدولة العبريّة عن إقامة أعتى سجونها الأمنيّة للمعتقَلين السياسيين في النقب، ويُطلق عليه اسم سجن "كتسيعوت" أو سجن النقب الصحرواي، الذي يُعدّ أكبر مركز احتجاز في البلاد. ولاحقا، مع مطلع القرن الحالي جرى توسيع فكرة النقب كمعزل، بعد أن صار مجمّعا كبيرا، لحجز المهاجرين غير الشرعيين والمتسلّلين الأفارقة القادمين من دول مثل السودان وإيرتريا، إثر الحروب والمجاعات فيها.

عن النقب الميت

إذا كانت نكبة النقب التاريخيّة متمثلة بتهجير وطرد معظَم أهله وآهِليه العرب سنة 1948، فإنّ نكبة الباقين فيه، لم تكُن في نقلهم وعزلهم ثم إخضاعهم للحكم العسكريّ فقط. إنّما في إعادة توطينهم أيضا كانت وما تزال نكبتهم. إنّ مسألة إعادة التوطين وممارسات استغلال النقب وتحويله إلى ساحة خلفيّة للدولة العبريّة، قد ولّدت سؤال "القرى غير المُعترف بها"، وهي قضية قائمة إلى يوم الناس هذا هناك.

اقرأ/ي أيضًا | خُبز الغزال... من ذاكرة بَرّ مدينة صفد (4/1)

اقرأ/ي أيضًا | صفد... سقوط المدينة (4/4)

يتتبّع وايزمان في كتابه، مظاهر سياسة "السّلْب والتوطين" من خلال قضيّة "العراقيب"، القرية البدويّة التي جرى هدمها عشرات المرّات في العقديْن الأخيريْن، في محاولة أراد فيها الكاتب توضيح مظاهر صراع أهالي النقب ونضالهم ضدّ سياسات السلب والاقتلاع، التي تكثّفت في حكاية العراقيب. وتحديدا على المستوى القانونيّ، إذ يحاول وايزمان تتبُّع منطق اشتغال سياسة دولة إسرائيل بأفقها الصهيونيّ، والقضاء فيها كأداة لصالح سياسات الدولة.

استند القانون الإسرائيليّ في دحض أحقيّة أهالي النقب على أراضيهم تاريخيًّا، إلى منطق "أراضٍ مستصلَحة وأراض غير مستصلَحة"، بما يعنيه الاستصلاح كاستخدام زراعيّ للأرض. وبالتالي يُعيد هذا المنطق، وبأثَر رجعيّ؛ تعريف بدو النقب اجتماعيًّا وثقافيًّا كعرب رُحَّل، لا ارتباط دائمًا لهم بأرض محدّدة. في مقابل تعريف الأراضي التي كانوا يرتحلون فيها وعليها، وفق قانون الأراضي العثمانيّ لسنة 1858 كـ"أرض موات" أي تلك الأرض غير المستصلَحة، ولا تعود ملكيّتها لأحد.

(خاصّة بـ"عرب 48" - وليد العبرة)

بينما التقاليد المتعارَف عليها تاريخيًّا، لعلاقة البدو بأرضهم في النقب، والتي قامت على الرعي والتنقُّل بحثا عن الماء، والكلأ للمواشي، لا تُبطِل أهليّة وأحقّيّة المرتحلين في الأرض. فضلا عن أنّ الرعي والارتحال الدائميْن على الأرض، لا ينفيان الاستقرار فيها، لناحية دفن البدو لموتاهم في مقابر ظلّت قائمة وثابتة طوال تاريخهم الحديث. وقد استند أهالي قرية العراقيب غير المعترف بها، إلى صور طوبوغرافيّة لمقبرتهم، منذ ما قبْل قيام الدولة التي تؤكد أهليّتهم في الأرض.

إضافة إلى ذلك، استغلّ القضاء الإسرائيليّ قضيّة عدم وجود سندات تَمَلُّك (كواشين طابو) لدى أهالي العراقيب في أرضهم، وذلك منذ مرحلة الحكم العثمانيّ، مرورا بمرحلة الانتداب البريطانيّ على البلاد، وصولا إلى قيام الدولة العبريّة التي أصبح أهالي العراقيب مواطنين فيها. ولم يشفَع لأهالي العراقيب، التفسير التاريخيّ لغياب سنَدات تملُّك الأراضي، الذي تهرّب منه فلّاحو وبدو فلسطين في تسجيل أراضيهم، تفاديا لدفع الضرائب أو الخدمة العسكريّة منذ أيام العثمانيين، ما اعتبره القضاء الإسرائيليّ بأثَر رجعيّ، بمثابة دليلِ بُطلان للأحقيّة في الأرض، وبالتالي عدم الاعتراف بقرية العراقيب وغيرها من القرى البدويّة في النقب.

لم يترُك القضاء الإسرائيليّ طريقا، إلا وذهب به، من أجل نزع صفة علاقة بدو النقب بأرضهم، خصوصا لدى أهالي القرى غير المعترَف بها. منها صور طوبوغرافيّة، تعود إلى الحرب العالميّة الأولى، والتي التقطت في أوقات لم يساعد فيها الجوّ والمناخ على إيضاح معالم وجود السكان البدو فيها. كما يتطرق صاحب كتاب "حدّ الصحراء، خطّ المواجهة"، إلى شكْل الادعاءات والحُجَج التي دارت داخل أروقة المحاكم الإسرائيليّة في السنوات الأخيرة، للحدّ الذي ذهبت فيه المحكمة إلى اعتماد نصوص كتابات الرّحّالة والمستشرقين الذين زاروا أو مرّوا بصحراء النقب في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وتحديدا، أولئك المستشرقين الذين نَظَروا إلى بدو النقب نظرةً استعلائيّة، معتبرين إيّاهم "متوحشين" لا ثباتَ لهم في الأرض، في محاولة أرادت بها الصهيونيّة عبر قضائها، نزْعَ الصّفة الأهليّة لبدو النقب على أراضيهم التي عرفتهم وعرفوها منذ مئات السنين.

التعليقات