15/11/2021 - 19:17

خُبز الغزال... من ذاكرة بَرّ مدينة صفد (4/1)

حين هُجر أهالي صفد، من مدينتهم في ليل العاشر من أيار/ مايو، من عام النكبة، وبينما كان يفرّ الصفديون عبر جبال ووديان مدينتهم ليلا، لم يعلق في ذاكرتهم غير رائحة البارود، وخبز الغزال... آخر رائحة من مدينتهم.

خُبز الغزال... من ذاكرة بَرّ مدينة صفد (4/1)

منظر عام لمدينة صفد في عام 1938

هذه المقالة هي الجزء الأول من أربع مقالات حول مدينة صفد، ستُنشَر تباعًا


المَأوى والمَهوى

صفد "المأوى والمَهوى"، مدينة انبثقت عن قلعتها التاريخية التي آواها الصليبيون بعد أن صَفوا حِجارها، ثم المماليك، الذين هزوها، فكان كل مِدماك من حِجارتها المركومة كفيلا ببناءِ بيتٍ فيها، إلى أن صارت صفد. وهذا، قبل أن تكون المدينة على موعدٍ مع أكبر زلزالين ضرباها في تاريخها الحديث، الأول عام 1759، والذي أطاح بنصف بيوتها، إلى أن قام ظاهر العمر الزيداني وبإشراف ولده علي، بإعادة ترميمها(1). ثم الثاني، الذي كان مركزه قرية الجش عام 1837، والذي هَزّ كل بيوت صفد مبعثرا إياها، كُلها عن بِكرة أبيها، وعلى رؤوس أهلها(2).

كانت بيوت صفد، منذ نشأة المدينة في العصر المملوكي وحتى نهاية العصر التركي مطلع القرن الماضي، تكسو سفوح جبليها، كنعان وبيريا، مثلما يكسو اللحم العظم، فقد احترف عمّارو صفد، بناء البيت مسنودا إلى سفح الجبل، بطريقة يكتمل فيها تربيع البيت بثلاثة جدران لا أربعة، إذ كان جدار البيت الرابع، هو سفح الجبل ذاته(3)، فهذا ما كان عليه حال بيوت حارة الأكراد، الحيّ التاريخي البِكر في صفد. وكذلك حارة الصواوين، على طرف الجبل ذاته، والتي سُمِّيت كذلك، نسبة لصوان حِجارها البيضاء، المقلوعة من جبال المدينة، والمربوعة بناءً عليها.

آثار ما تزال موجودة في صفد

أما المَهوى، فذلك لعلوّها على سفح جبل كنعان العالي منها شرقا، الذي ظلّ مجرى الريح إليه، يَصفر هُبوبهُ قادما من جبل الجرمق غربا(4). ومما صاغهُ شُعّار العتابا لها، بيتٌ يقولُ مطلعه:

صفد يا عالية والجرمق عِليكِ

وأبطال الفدى شو غاروا عَليكِ(5)

ثم جبل بيريا منها شمالا، مصفودة به المدينة، فَسُمِّيت صفد لأنها مُصفّدة بالجبال(6). كما قيل عنها مدينة "بين الجبلين". كان هواها مصيفا للمعلول، ووصفةً للمسلول (المُصاب بمرض السل)، فتعارف أهل البلاد على طبرية مشتى، وصفد مصيفا، وظلَّت صفد مقصد مَرضى السِل، للاستشفاء بها منه، حتى أُقيم قبل النكبة فيها، مستوصَف أُطلق عليه "مَشفى السل".

وديان المدينة

ينحر وادي الطواحين صفد ما بينها وبين الجرمق، وهو من أشهر وديان المدينة من غربها. وادٍ، كان مجرد نزول الرعيان إلى بَطنه والصعود منه، كافيا لخضّ كل دَم الراعي بكامل لَحمهِ، وذلك لشدّة انحداره. ولأن لماء وادي الطواحين حَملات، يمكنها لقوة تدفقها شتاءً، سحب الجمل في طريقها، أنشأ فيها الصفديون أكثر من ثلاثين طاحونة قمح، كانت تُدار حجارها بواسطة ضغط مائهِ، فسُمي وادي الطواحين.

يضبط الطحّان إيقاع حَركة طاحونته وسرعتها، بحركة ضغط الماء، عبر دولاب على باب المطحنة، كلما اتسعت فتحة الباب، ازدادت حركة الدولاب، بفعل سرعة الماء، بينما يُضيّق الطحّان فتحة بابها، لإبطاء ضغط الماء عليها، من أجل طحن القمح برغلا. وهكذا، كلما كان ضغط الماء أعلى وأسرع، صار دوران حَجر الطاحون أقوى وأثقل.

لم يَبقَ، من طواحين قمح الواد، حتى نهاية الحكم التركي، إلا سبع، بعد أن صار القمح يُطحن بطرق أحدث في ظلّ الانتداب البريطاني على البلاد. وما زالت آثارها باقية في الواد، إلى يوم الناس هذا.

أما واد الليمون، فهو امتداد لوادي الطواحين، يُحيط صفد من غربها حتى النواحي القِبلية منها. وسُمي كذلك، لكثرة "ليمونه الحلو"، الذي اعتاد الصفديون قطفه وبيعه في طبرية، كما زرع الصفديون فيه أشهر أنواع خَسِّهم، الذي كان ينبت ويكبر، ليصل وزن الخَسة، إلى الحد الذي يصعب على الصبي فيه حَملها، على ذمة أهل المدينة(7). ثم يمتدّ وادي الليمون ليلتقي بوادي الحمرا الذي سُمّي بضلك نسبة لتربته الحمراء جنوبي المدينة، وفيه عين الحمرا، المعروفة بمائها الصافي، الذي يمكن للمارّ بجانبه، رمي قِطع العملة وتمييزها داخله.

من وادي الحمرا جنوبا، باتجاه قرية عَكبرة الباقية إلى يومنا، يقع وادي الريحان. عُرف الريحان بهذا الاسم، نسبة لريحانه الذي يَعني به الصفديون وعموم أهل الجليل الحَبق. كما كان ينبت فيه ورد "الآس" حيث تعودت الصفديات على شكل فَتْل أكاليل زيارة أضرحة موتاهن به(8). ومن هنا جاء قول المرأة الصفدية المأثور: "تُشكل آسي"، كلما أرادت مغازلة زوجها، تعبيرا عن موتها بحبه، أسوة بنسوة الشام.

جانب من المدينة في القرن التاسع عشر

كانت فلّاحات قُرى صفد وريفها، يقصدن الوادي لقطف ريحانه (الحبق)، في رحلة موسمية سنويا. ويُذكَر عن إمرأة عُرفت بـ"أم الشيخ" من قرية البعنة، أنها كانت تأتي الوادي سيرا على قدميها، من أجل قطف ريحانه، ثم حَملهِ عروقا مضمومة، وبيعه للنساء الحوامل أو اللواتي وَلَدن حديثا في قريتي البعنه ودير الأسد(9). بعد قَطْم ورق الريحان عن عروقه، كانت النساء الوالدات يفرشنه على مساطب أو فوق سطوح بيوتهن حتى ينشف، ثم تأتي مرحلة دقّه وطحنه ناعما، لاستخدامه مسحوقا، يوضع بين فخذيّ المولود، منعا للجفاف.

بعيون صفد

يا مَيّة عين العافية... الله يعافيكِ

إن صَحْ الصبي بالعافية... نذرٍ لحنّيكِ...

هذه ما غنّته نساء صفد وقضائها، تنذّرا لعين العافية وتشفعا بها، كلما ألمّت حُمى أو وعكة بطفلٍ من أطفالهن. على مدخل صفد الوحيد للمدينة من شمالها الشرقي، كانت تنبع عين العافية، التي ظلت أكفّ أيدي الصفديات، موشومة على الصخور المُحيطة بها، حمراء بالحناء، إلى ما بعد النكبة، إذ كان لماء العافية قُدسية، وكانت تُملأ منهُ "طاسات الرعبة" ويُغلى به البخور، وكذلك الطيوب والأعشاب لشفاء المرضى. وإذا ما صَحّ المريض، حَملت النساء الحِنّاء إليها، وبعد عَجنهِ بماء العين، كُن يغمسن أكفهنّ به، ثم وَشمهِ على الجدران والحجار الصخرية المحيطة بالعين، والباقي منه، يَصبغنَ به شَعرهنّ في طقسٍ كانت تختلط فيه ابتهالات العِفة بأهازيج التعافي، فظلّ اسم العين متّصلا به.

أما عين الحمرا، فكان موقعها جنوبي المدينة، في وادي الحمرا. كان ماؤها مضرب مَثل للصفديين، فقالوا عنها: "ميّتها صافية، أصفا من عين الديك". كانت مشّربا، ومنبتا للثروة النباتية - البرية حول المدينة، منها "ذنب الغزال" و "ذان الفيل" و "خس العروس" وغيرها من التي ظلّت تملأ قاموس النبات البري - الصفدي.

في وادي الزرقة إلى الناحية الجنوبية من جبل بيريا، عيون وينابيع فوّارة، كانت أكثرها تَدمعُ شتاءً، وتُقطعُ صيّفا. سمّاها الصفديون، ومنها: عين الزرقا، وعين الزير، وعين الحاصل، والبانية، وأم طحينة، وعين السايس أشهرها.

في حارة "الوطاة" كانت تنبع، عين "ستي زينب"، لم يشرب منها الصفديون، لملوحة مائها، واكتفوا ببركتها مغطسا للدواب. كما كانت العين المعروفة بحارة السوق تُسمى "عين النايب"، وعُرفت في زمن الأتراك بـ"عين التجّار"، والذي بنا أحواضها المعماري التركي سنان باشا(10).

تظلّ "عين الوحوش" جنوبي حارة "الوطاة" من أكثر عيون المدينة وقضاءها سطوة على ذاكرة الصفديين ومخيالهم، إذ كانت وحوش صفد البرية مصدر تهديد دائم لسكانها، وذلك بحكم وُعورة جِبالها، ووهورة وديانها التي ظلت مأوى للذئاب والضباع. حتى أن إبراهيم باشا، بعد حملته العسكرية، واحتلاله فلسطين وبرّ الشام سنة 1831، ثم إخماد ثورة عرب فلسطين عليه سنة 1834. قام بجمع سلاح كل قُرى ومُدن فلسطين، إلا صفد وبعض قراها، فقد ترك سلاحها بأيدي أهلها، وذلك بسبب وحوشها الضارية(11).

خبز الغزال

مغسولةً ظلّت صفد جبالها وتلالها بماء المطر شتاءً، بينما صيفا بقيت مشطوفةً بقطر الندى، فظل زعترها مبلولا بأنواعه المختلفه، أشهره، الزعتر "الرومي" الذي كان ينبت على سفوح جبل كنعان، وتكبر الشتلة منه، إلى حدٍّ يمكن ربط رسن البغل به، دون أن يقوى على خَلعهِ. ومن زعتر جبال صفد: العثماني، والفارسي، والحاروني، وزعتر البلاط أو دُقة العدس.

هذا، غير العكوب والعِلت والرشاد ولسان الثور، وكل الخميلة النباتية الشوكية، التي ظلت تفترش ربوع وتلال صفد. كما ظلت رائحة الشومر الذي كان يصل طول عِرقه إلى كتف الراعي، تفوح عبقا، يمكن شمّه من عند جسر البنات.

فيما "خبز الغزال" أو "خبز وغزال"، كما أطلق عليه بعض الصفديون، يظلّ أكثر نبات بَرّ صفد، ترميزا لصفديّتهم، وتذكيرا بآخر ليلة لهم في مدينتهم. ذلك النبات الذي لم يكن يميّزه عن الشومر إلا صَفديّ، اعتاد رعيان المدينة وقُراها، على قَطفهِ وحَملهِ في خِراج دوابهم.

وأوراقه خضراء فاتحة، فيها خطوط بيضاء اللون، له رائحة الشومر، "بتتاكل عالماشي وبلا غسيل" على حد تعبير الحاج عبد الرحمن تقي الدين كما ظلّ يتذكر(12).

حين هُجر أهالي صفد، من مدينتهم في ليل العاشر من أيار/ مايو، من عام النكبة، وقد كانت ليلة ماطرة على غير العادة. وبينما كان يفرّ الصفديون عبر جبال ووديان مدينتهم ليلا، لم يعلق في ذاكرتهم ليلتها، غير صفير الريح، ورائحة دخان البارود، وخبز الغزال... آخر رائحة من مدينتهم.


الهوامش :

1. العسكري، محمد أمين صبحي، مدينتي صفد - الشمس تشرق من هناك، دار فلستينا/ الشجرة للنشر والتوزيع، دمشق، 2017، ص 48.

2.العابدي، محمود، صفد في التاريخ، جمعية عمال المطابع التعاونية، عمان، 1977، ص 105.

3. مقابلة شفوية مع المعماري، عبد السلام خرمة، من صفد، أجرى معه الكاتب المقابلة عبر رابط "زووم"، في تاريخ 16/8/2021.

4. وأطلق أهالي صفد على جبل الجرمق، اسم جبل "ميرون".

5. العابدي، المرجع السابق، ص 217.

6. ليس هناك إجماع على معنى تسمية صفد، فبعضهم يرجع التسمية إلى اللغة الآرامية وتعني "المرتفع أو الربوة". وبحسب مؤرخ صلاح الدين الأيوبي العماد الأصفهاني، هي صفد من الأصفاد وذلك نظرا لموقعها الجغرافي. ومنهم من يعتبر معنى كلمة صفد، أي الصخرة الصلد.

7. بستوني، محمود يوسف، صفد، مقابلة شفوية، على موقع فلسطين في الذاكرة، ضمن مشروع تدوين التاريخ الشفوي لنكبة فلسطين، تاريخ 16/10/2011.

8. السيد، فاطمة محمد، قرية بيريا، مقابلة شفوية، على موقع فلسطين في الذاكرة، ضمن مشروع تدوين التاريخ الشفوي لنكبة فلسطين، تاريخ 8/7/2008.

9. الأسدي، سعود، أديب وشاعر، مقابلة شفوية أجراها معه الكاتب، في تاريخ 17/8/2021.

10. العابدي، المصدر السابق، ص 221.

11. صافي، خالد محمد، الحكم المصري في فلسطين 1831 - 1840، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، 2010، ص 131.

12. تقي الدين، عبد الرحمن (أبو أمجد) لاجئ صفدي في مخيم دمشق، مقابلة شفوية، أجراها الكاتب عبر تطبيق "زووم"، في تاريخ 10/11/2021.

التعليقات