22/10/2021 - 18:23

قرية شَعَب... بين ذاكرة الحامية وسياسات المَحميّة (3/1)

تختزل قرية شَعَب، حكاية شَعبٍ بأكمله، ضمن سياسة الاقتلاع والقطع والتشويه، التي مارسها الصهاينة منذ عام النكبة. إلا أن حكاية القرية بين تهجير أهلها وحاميتها، وإبقائها ثم إعادة إنتاجها على نمط "المحميات الاستعمارية"، يظل يخصها وحدها من سائر القرى الباقية

قرية شَعَب... بين ذاكرة الحامية وسياسات المَحميّة (3/1)

نسف القوات البريطانية لقرية شعب في سنة 1936 (المصدر: ELTAHER.ORG)

هذه المقالة هي الجزء الأول من ثلاث مقالات ستنشر تباعًا


حين حدّثت صديقا بنيّتي الكتابة عن شَعَب، لم يعرفها! وظنّها قرية مُهجرة، فهي مُهجرة وباقية معًا، وهذا استثناء طال شَعَب وأهلها من سائر قُرى فلسطين في عام النكبة في الجليل.

شَعَب، قرية حاولت الجغرافيا تغييبها وعزلها تاريخيا، فقد كانت من قُرى لواء عكا التي لا يمكن لزائر اللواء قبل النكبة أن يراها دون الذهاب إليها مباشرة، وهذا ما يفسّر قِلة المعلومات عنها بالنسبة لمدوّني تاريخ القرية قبل النكبة، وذلك بحكم موقعها الجغرافي، لأنها أساسًا تقع في شُعَبٍ من الجبال التي التحفتها القرية، ثم حجبتها الجبال، ومن هنا كان اسمها شَعَب (1).

على مجرى وادي الحلزون، تقع شَعَب إلى الجنوب الشرقي من مدينة عكا على بعد 18كم، وتتوسطهما قرية البروة التي كانت تقع إلى الغرب الشمالي عن شَعَب، إذ ظلّ مَشرب أهل البروة قبل تهجيرها من ماء شَعَب، فاقتسمت القريتان الماء والدم معًا في حرب النكبة.

من الغرب الجنوبي من شعب، كانت تقع قرية الدامون المُهجرة. أما أقرب القرى المُهجرة إليها، كانت ميعار الواقعة قِبليّ شَعَب، على بعد يمكن فيه سماع دقة جُرن القهوة في ميعار من شَعَب. بينما من الشمال، تحدّها قرية مجد الكروم وباقي قُرى الشاغور.

لا يتجاوز عدد سكان قرية شَعَب اليوم السبعة آلاف شخص. قرية صامتة صمتًا لا يمكن فهمه إلا من ضجيج أيام الهجيج، والتهجير والقتل والتدمير، وحكاية حَمية أبناء حاميتها في عام النكبة، مما يدفعنا إلى السؤال: ما الذي جرى لتلك القرية؟

في شَعَب

كانت شَعَب قبل النكبة، بحارتيها الغربية والشرقية، قرية مبطوحة عند كعب سفح "جبل تركيب"، ساكنة عليه، ومسكونة فيه بحكايا المكان وسكانه معًا، من "تل يعنين" إلى مقام "بنات العين" وحتى "جامع الأربعين".

ويعنين خِربة، على تلٍ مُشجّر بالزيتون والتين عند مدخل القرية من غربها. وظلت يعنين مَهوى أهالي شَعَب ومغنّى نسائها.

ومقام بنات العين السبع، واللواتي يقال إنهنّ كنّ يخرجن من عند العين ليلا، في رقصٍ وغناء على وجه الماء. حكاية كما لو أنها امتداد لأسطورة "إلهات الإلهام – الميوزات" الإغريقية.

أما جامع الأربعين المُهدم في الحارة الشرقية من القرية، فلم يبق منه غير حِجارة ذاكرة جُرحٍ خيّطه الزمن، عن احترابٍ بين حمولتين من القرية، يُقال إن إحداهما هاجمت الأخرى فيما كانت في الجامع، فَهدمت عليها الجامع، وقُتل من الحمولة الأخيرة أربعون شخصًا (2)، ومن هنا جاء اسم الجامع؛ "الأربعين".

هي قرية الزاوية الشاذلية اليشرطية، زاوية صوفية اعتبرها الشعباويّة بنت أمها الزاوية الشاذلية في عكا. كان صوت مَزاهر شاذلية شَعَب، ورنين كاساتهم يرن مسموعًا حتى عام النكبة من جبل الزكّام شمالًا، وحتى سفوح تلال البازوعية جنوبًا. أما مَشربُ القرية، فكان من بركة ماء "الحنّانة"، وحَني النساء الشعباويات بجرارهن للنشل منها، بعد أن كانت تُدير ناعورة بئر الحنّانة، بغلة حمراء عيناها معصوبتان، ينهرها الصبيان، وكلّما دارت، دارت الناعورة مشكولة عليها دِلاءها، التي كانت تنشل ماء البئر ثم صَبهِ مبروكا في البركة.

شَعَب، هي بلد شاعرها، وضمير القرية ومشاعرها، يوسف حسّون؛ من منّا لا يعرف الـ"يا حلالي يا مالي"... أو "غنّا الحادي وقال بيوت... بيوت الغنّاها الحادي"... وغيرها من قصائد الحوربة والشروقيات. وفي شَعَب ولد "أبو إسعاف" قائد حاميتها الثورية، ومعه الأخوان مصطفى ونجيب الطيّار، والقائمة الثورية فيها تطول.

لكن ما ظل طيّ المجهول والغموض في شَعَب ما قبل النكبة، هو الشيخ محمود! ذلك الرجل الذي لم يعرف أهل القرية له أصلًا. لم يكن شيّخا، لكن للحيته الكثة قالوا عنه ذلك، فقد جاءهم في الأربعينيات وفي قدميه أصفاد حديدية، رفض فَكها. ولمّا كسر أهل شَعَب الأصفاد، رغما عنه، ظل محمود الشيخ يمشي بخطواتٍ كأنه مُصفد، وذلك حتى يومه الأخير (3).

إلا أن حكاية أحمد الحلبي تظل الأغرب، فتلك حكاية من أدب الاختراق، إذ عاش الرجل غريبا وطبيبا بين الشعباويّة، وعشية صدور قرار التقسيم اختفى الرجل، إلى أن شاهده شهود من أهل شَعَب الباقين، في عكا فعرفوه. كان الحلبي ضابطا صهيونيا ويهوديا من أصل سوري (4).

ما الذي لم يمرّ على شَعَب وأهلها، منذ أن نبتت تلك القرية بين شِعاب تلال وجبال شاغور الجليل في القرن الثامن عشر؟ من حكايات وذكريات، صيحات وملمّات، ومع ذلك تبقى حكاية حامية القرية في الدفاع عنها وعن المنطقة، آخر وأبرز حِكاية عرفتها شَعَب حتى عام النكبة.

الذاكرة الثورية

عـ"الموت ياما رمينا"، بهذه الكلمات يختصر الحاج محمود أبو الهيجا المعروف بـ"أبو الشهداء" (5) تجربة شَعَب وأهلها النضالية قبل النكبة منذ الاستعمار البريطاني على البلاد.

التحقت شَعَب قبل تشكيل حاميتها بالثورة الكبرى بين عامي 1936 و1939، مثل باقي سائر أبناء القرى والمدن الفلسطينية.

وكانت شَعَب نظرًا لموقعها الجغرافي بمثابة استحكام عسكري، إذ جرى منها تدبير أكثر من كمين ضد دوريات الإنجليز المارة على طريق عكا - صفد، الذي كان يُعرف منذ زمن الأتراك بـ"الشارع السلطاني"؛ وشارك فيها ثوار شَعَب كتفا إلى كتف مع ثوار قُرى الشاغور.

طُوقت شَعَب أكثر من مرة، منها مرة تحول الطوق إلى حصار امتد لأيام، أقام خلالها الإنجليز في القرية، وقرروا نسف كل بيوت الشعباويّة، وذلك على إثر كمين قام به ثوار القرية على تل البروة، سُمي بكمين "تينة أبو لبن (6).

نسف 120 منزلًا، صحيفة "الصراط"، 27 آب/ أغسطس 1938

بدأ الإنجليز بالنسف والجرف من الحارة الشرقية، وطاولوا معظم بيوتها، لولا معركة "الليّات" التي فتحها ثوار الشاغور وشَعَب على الإنجليز، لقطع عليهم إتمامهم نسف البيوت.

لم تكن معركة الليّات واحدة، بل أولى وثانية وثالثة كُبرى. وجاء اسم الليّات، نسبة إلى موقع جبلي يقع بين البروة ومجد الكروم على طريق عكا – صفد.

كانت معركة الليّات الأولى 8-12-1937، والليّات الثانية في تاريخ 19-7-1938. فيما الواقعة الكُبرى في الليّات، وقعت بعد أسابيع قليلة من الثانية (7).

استهدف ثوار شَعَب والشاغور في الليّات حديد دوريات الإنجليز، وأوقعوا في صفوفهم قتلى وجرحى، وترتب على تلك "الليّات" قصف قرية شَعَب بالطائرات ونسف بيوتها، وسفك دم رجالها ونسائها؛ وهذا غير السجن والمُطاردة والمُطاردين.

حين وقف الشاعر الشعبي نوح إبراهيم في أول صيف بعد انقضاء الثورة على بيادر شَعَب في واحد من أعراسها، كانت مجموعة من صِبية القرية تتجمهر فوق سطح أحد بيوتها المُطلة على البيادر، وكان الصبية يحملون عِصيّهم التي كانوا يستخدمونها في لعبهم كبنادق، وكان مسمار مغروسا في العصيّ، وكان مشبوكا بخيط. نظر نوح الشاعر إلى الصِبية، وقال ردّة مطلعها: "هيّا يا أهل الحمية ... وعاشت البندقية" (8).

لم يكن يعلم نوح إبراهيم في حينه أن أولئك الصِبية هم من سيكونون وقود وجنود حامية القرية بعد عشر سنوات.

الحامية

حامية شعب كانت كتيبة فدائية أكثر منها عسكرية، ممثلة بمجموعة قيادية من أبناء القرية على رأسهم "أبو إسعاف" – إبراهيم الشيخ خليل، ومعه مصطفى ونجيب الطيّار وآخرين من عائلات القرية كافة. تشكلت هذه الحامية لحماية القرية إثر سقوط مدينة عكا في 18-5-1948. كان مقر قيادة الحامية في بيت علي موسى الأسدي على طرف القرية.

كانت الحامية تعبيرًا عن حَميّة أبناء القرية تجاه شَعبِهم، وبلدهم شَعَب؛ حَميّة فاقت قدرات الحامية التنظيمية والعسكرية. ساعدت ظروف القرية الجغرافية على نشأة الحامية وتشكيلها، وكذلك علاقات بعض أبنائها وتجاربهم، مثل "أبو إسعاف" الذي كان قسّاميًا من أتباع الشيخ الشهيد عز الدين، وعضوًا في عُصبة الجهاد المقدس منذ الثورة الكبرى، وممول الحامية والذي مدّها بالسلاح (9). ثم تعليم بعض أفرادها، مثل نجيب الطيّار، الذي كان بمثابة مسؤول إداري - سياسي للحامية.

والأهم من ذلك، اجتماعيًا، أن الحامية بتشكيلها غسلت كل ملامح إرث الاحتراب العائلي - الحمائلي، وجففت آبار الأحقاد والثارات، التي عانت منها قرية شَعَب على مدار قرن قبل النكبة، ودفعت بكامل أبناء عائلات القرية كتلة واحدة للدفاع عن قريتهم (10).

لم يكن مقاتلو الحامية من شَعَب وحدها، وإن كانت الحامية شَعباويّة المنشأ والموقع، إنما التحق بها مقاتلون من سائر القُرى المجاورة لشَعَب، مثل ميعار والدامون وكابول والبروة ومجد الكروم والبعنة ودير الأسد، وحتى سخنين وعرابة البطوف وعموم قُرى الشاغور. كما التحق بالحامية فصيل من جيش الإنقاذ تمرّدَ على أوامر القيادة العُليا، إلى أن وصل عدد مقاتلي الحامية إلى أكثر من 200 مقاتل.

كانت أشهر معارك الحامية دفاعها عن قرية البروة، بعد أن هاجمها الصهاينة في الحادث 11-6-1948، ثم سقوطها بأيديهم. استطاعت الحامية تحرير البروة بعد أن دفعت بكامل سلاحها إليها في 25-6-1948، عندما قتلت الحامية وجرحت العشرات من الصهاينة، واستشهد من مقاتليها الشعباويّة كل من مصطفى الحاج عبد حمزة، وكايد محمد سليم أبو الهيجا (11).

بعد تحرير البروة، وفي آخر ليل ذلك النهار، تسلّم جيش الإنقاذ البروة مُحررة من حامية شَعَب، وبعد أقل من يومين على ذلك، كانت عصابات "الهاغانا" تقصف شَعَب من سفوح البروة، فقد استلم جيش الإنقاذ البروة، ثم سلّمها!

قاتلت الحامية دفاعًا عن شَعَب وقُرى اللواء على مدار ما يقارب الستة شهور ما بين موسمين؛ موسم حصاد القمح منذ أواخر آيار/ مايو وحتى بدء موسم الزيتون الذي ظلّ على الشجر حتى أواخر تشرين الأول/ أكتوبر؛ هبت فيها الحامية لنجدة شكيب وهّاب اللبناني وكتيبته في قريتي هوشة والكساير عند شفاعمرو (12). وللدامون هبت الحامية، ثم لميعار التي سقطت بأيدي الصهاينة في ليل 18-7-1948، وقبلها الدامون بساعات (13).

على إثر سقوط الدامون وميعار انشق ضابط جيش الإنقاذ، "أبو شلاش"، والتحق مع فصيله بالحامية (14). كما أنه على إثر سقوط ميعار، خرج أهالي شَعَب من قريتهم وبقيت القرية منذ أواخر تموز/ يوليو تحميها الحامية وفيها كبار السنّ من شَعَب، الذين سيقوم الصهاينة بأكبر مذبحة عجائز عرفتها النكبة بحقّهم، وذلك في مطلع شهر تشرين الثاني/ نوفمبر من ذلك العام.

ما كان لحامية شَعَب انسحابها من شَعَبها بعد ملحمة بطولية خاضتها لما يقارب نصف عام، في أعتى صمود لم تعرفه أي قرية في كل فلسطين؛ فقد ثبتت الحامية ثباتًا لم تقوَ عليه بعض المدن الفلسطينية وليس القُرى فقط. ما كان، لولا نفاد ذخيرة الحامية وسقوط القُرى المُحيطة بشَعَب كلها، وجيش الإنقاذ، الذي قَلّت أوامره وشُلّت عساكره، فظل محل سؤال إلى يوم الناس هذا! فكلها عوامل نتج عنها انسحاب الحامية من شَعَب، واحتلال الصهاينة للقرية في 1-11-1948.

سياسات المَحميّة

هُجّر أهالي شَعَب من قريتهم، لكن شَعَب ليست قرية مُهجرة مثل أي قرية نعرف أنها مُهجرة! فما الذي حدث هناك؟

بعد أن انسحبت الحامية وصارت شَعَب خالية من أهلها، وعقِب دخول الصهاينة لها في مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر من عام النكبة، كان تعداد سكان القرية الذين وجدوا أنفسهم مشرّدين يساوي ألفي نفر، 700 منهم كانوا نازحين في القرى المجاورة الباقية، فيما صار معظمهم لاجئين في لبنان. كما دُمرت بعض بيوت القرية، بينما ظل جزء كبير منها على حاله.

ظلت شَعَب خالية حتى أواخر عام 1949، وكانت أول خطوة باتجاه إعادة تشكيل القرية وهندستها، أن سمحت الدولة العبرية الناشئة لشخص يُدعى شفيق بقاعي، ومعه ثمانية عائلات من آل البقاعي النازحين من قرية الدامون المُهجرة، بالدخول إلى قرية شَعَب والتوطن فيها (15). وبما أن الدولة اعتبرت كل بيوت وأراضي شَعَب ضمن أملاك الغائبين، قامت بتأجير شفيق بقاعي خمسة آلاف دونم من أراضي زيتون القرية (16).

في عام 1950، أعلنت سُلطات الدولة العبرية عن شَعَب منطقة عسكرية مُغلقة. وبعدها أعلنت وزارة الزراعة الإسرائيلية عن خطة ترميم وإعادة هيكلة للقرية، إذ لم تُعتبر القرية مُهدمة بالنسبة للصهاينة مثل باقي القُرى المُهجرة. وعليه، قررت السلطات إعادة إعمار القرية، مما تطلب، أولا، إعادة توطينها بالسكان.

كانت هذه السياسة الصهيونية في الهندسة الاجتماعية استثناءً تمثل في شَعَب، إذ ارتأت السلطات الإسرائيلية إلى صناعة قرية نموذجية على المسطرة الصهيونية، أشبه بفكرة "المَحميّة". وكانت أولى خطوات تنفيذ ذلك المخطط تتمثّل في ترحيل أهالي قريتي كراد الغنّامة وكراد البقّارة المُهجرتين، جنوبي بحيرة الحولة عند جسر بنات يعقوب، إلى قرية شَعَب، والذين قُدر تعدادهم عند ترحيلهم بـ750 نسمة، وذلك في عام 1951 (17). كما نقل الصهاينة بعض نازحي قرية ميعار التي غدت مُهجرة إلى شعب. كما لوّحت السلطات الإسرائيلية لأهالي قرية صندلة في مرج ابن عامر بترحيلهم إلى شَعَب في تلك الفترة، إلا أنها لم تفعل ذلك في الأخير (18).

ظلت شَعَب خالية، حتى أواخر عام 1949 (أرشيف مجلة حركة "متسبين"، 1974)

أما عن نازحي قرية شَعَب في القُرى المجاورة، الذين كان عددهم يُقدر بـ700 نسمة، تمكن نحو 200 منهم من العودة إلى قريتهم على مدار سنوات الخمسينيات وحتى الستينيات من القرن الماضي. وذلك بعد مسار من الشكاوى تقدموا بها للمحكمة العليا الإسرائيلية منذ بداية نزوحهم، قدموا فيها تخريجات عن أسباب خروجهم من القرية، أقنعت المحكمة في الأخير، وأمرت بإعادتهم (19).

لم يقبل أهالي كراد الغنّامة والبقّارة توطينهم في شَعَب، وأصروا على عودتهم إلى قريتيهم، وقد وصل ملف قضيتهم إلى الأمم المتحدة في حينه، وتمكن نحو 400 شخص، من العودة إلى ديارهم بينما ظل 350 منهم في شَعَب.

وفي المُحصلة كانت التركيبة والتعداد السكانيين لشَعَب عام 1954، على النحو التالي:

220 نسمة سكان قرية شَعَب الأصليين.

350 نسمة سكان كراد الغنّامة والبقّارة.

70 نسمة سكان قرية الدامون.

250 نسمة سكان قرية ميعار.

والمجموع الكلي لسكان القرية في ذلك الوقت، وصل إلى نحو 900 نسمة(20).

قامت سلطات الاحتلال، بتوزيع أراضي وزيتون وبيوت أهالي شَعَب على المجموعات السكانية الجديدة. كان أسوأ ما لم يتخيّله الشعباويّة، المهجرون من قريتهم الذين لم يُسمح لهم بالعودة، وبالأخص النازحون منهم إلى القرى المجاورة، والذين جرى توزيع أملاكهم على مرأى أعينهم لغيرهم من أبناء جلدتهم المحمولين قسرًا من قراهم، لتوطينهم وتمليكهم أملاكًا يعرفون أصحابها ولا يريدونها.

كان ذلك أكثر من مجرد قطعٍ مع إيقاع الذاكرة الزمنية للقرية بتهجير أهلها، بل كان هندسة اجتماعية - استعمارية تضمنت تدجينا وتشويها، تمّ من خلالها تطبيق فكرة "التوطين المَحمي"، والذي سينعكس سياسيا واجتماعيا على هوية هذه القرية إلى يوم أهلها هذا.

لم تقتصر سياسة "المَحميّة" على البشر، إنما طالت الحجر كذلك؛ فقد أعادت سلطات الاحتلال إنتاج الفضاء العمراني للقرية وفق أجندة استعمارية، وذلك عبر تخطيط وبناء الأحياء السكنية، ومن بينها فكرة "حي الشيكونات"، وهو تقليد معماري - استعماري اتُّبع في باقي قرى الداخل الفلسطيني لاحقًا، لكن بدايته كانت في شَعَب. ففي آذار/ مارس عام 1960، باشرت السلطات الإسرائيلية ببناء حي يبدأ بـ20 وحدة سكن، على نمط معمار المهاجرين، أسكنت فيه عائلات من مُهجّري قريتيّ كراد الغنّامة والبقّارة. واستمر البناء لاحقًا ليصل إلى أكثر من 60 وحدة سكن (21).

ليس في التخطيط والمعمار فقط، إنما تمت كذلك إعادة النظر في الفضاء الجغرافي للقرية، ووجهها التاريخي؛ فقد شقت سلطات الاحتلال ضمن مخططها في حينه، وفي فترة بناء "الشيكونات"، شارعًا رئيسيًا جديدًا في القرية يلتقي مع طريق عكا - عرابة، بطول ثلاث ونصف كم (22)، ما ساهم في دثر خريطة وجه القرية ومعالمها قبل النكبة.

تختزل قرية شَعَب حكاية شَعبٍ بأكمله، ضمن سياسة الاقتلاع والقطع والتشويه، التي مارسها الصهاينة منذ عام النكبة. إلا أن حكاية القرية بين تهجير أهلها وحاميتها، وإبقائها ثم إعادة إنتاجها على نمط "المحميات الاستعمارية"، يظل يخصها وحدها من سائر القرى الباقية في الجليل وبلاد الداخل عمومًا، ما يضعنا عند قولٍ مفاده: النكبة واحدة وأشكالها متعددة.


الهوامش:

1. وهناك من رجح أن شَعَب تسمية رومانية، حيث يُعتقد أن شَعَب تقوم على موقع "شاب" "Shab" الرومانية. عن ذلك، راجع: علي،أحمد ياسر، شَعَب وحاميتها – قرية شَعَب الجليلية والدفاع عنها – المنظمة الفلسطينية لحق العودة – سلسلة القرى الفلسطينية -، بيرت، 2007، ص 34 - 35.

2. عزايزة، عاطف محمد، قرية شَعَب آثار ظاهرة وتاريخ مفقود، دار الأركان للإنتاج، بيروت، 2011، ص 45.

3. علي، أحمد ياسر، شَعَب وحاميتها، ص 115.

4. المرجع السابق، ص 117.

5. لُقب بأبو الشهداء، بعد أن استشهد أبناءه الخمسة وزوجته في مذبحة مخيم تل الزعتر في لبنان، التي أرتكبها النظام السوري ومعه ميليشيات لبنانية. ويُذكر أن زوجته قُتلت وتم تقطيعها بالبلطات. راجع: مقابلة شفوية، مع السيد محمود محمد أبو الهيجا، شَعَب، موقع فلسطين في الذاكرة – ضمن التاريخ الشفوي لتدوين النكبة الفلسطينية، تاريخ 1-3-2010.

6. مقابلة شفوية، مع الحاج نمر محمد أيوب، شَعَب، موقع فلسطين في الذاكرة – ضمن التاريخ الشفوي لتدوين النكبة الفلسطينية، تاريخ 16-1-2011.

7. راجع: علي، أحمد ياسر، المرجع السابق، ص 175 - 180.

8. الحاج نمر محمد أيوب، المقابلة السابقة.

9. علي، أحمد ياسر، المرجع السابق، ص 98.

10. كانت شَعَب من أكثر القُرى الفلسطينية في الجليل التي عانت من النزاعات العائلية التي وصلت حد القتل وفوران الدم في أكثر من نزاع وبين أكثر من حمولتين على مدار عقود. كانت آخرها وأكثرها تهديدا لمجتمع القرية تلك التي وقعت في ظل الثورة سنة 1937، حين انتقمت عائلة من أخرى من خلال الاستعانة بالإنجليز. إلا أن الحامية وحَمية أبناء القرية للدفاع عن قريتهم عام النكبة قد ذوّبت وذللت تلك النزاعات وضغائنها.

11. الحاج نمر محمد أيوب، المقابلة السباقة. وراجع أيضا: علي، أحمد ياسر، المرجع السابق.

12. علي، احمد ياسر، المرجع السابق، ص 115. وأيضًا: نمر محمد أيوب، المقابلة السابقة.

13. عزايزة، عاطف محمد، قرية شَعَب، ص 70.

14. علي، أحمد ياسر، المرجع السابق، ص 206. وأيضا: محمود محمد أبو الهيجا، المقابلة السابق.

15. عزايزة، عاطف، محمد، قرية شَعَب، ص 73.

16. المرجع السابق، ص 73.

17. عن قصة ترحيل كراد البقّارة والغنّامة، راجع : يوسف خلف، مقابلة شفوية، كراد البقّارة، شَعَب، موقع فلسطين في الذاكرة – ضمن التاريخ الشفوي لتدوين النكبة الفلسطينية، تاريخ 18- 5 - 2012.

18. راجع، حبيب الله، علي، مجزرة أطفال صندلة... لماذا وقعت من ذاكرتنا؟، مقالة منشورة في موقع عرب 48، تاريخ 17-9-2021.

19. عزايزة، عاطف محمد، قرية شَعَب، ص 75.

20. المرجع السابق، ص 74.

21. المرجع السابق، ص 75.

22. المرجع السابق، ص 75.

التعليقات