مجزرة أطفال صندلة.. لماذا وقعت من ذاكرتنا؟

في ربيع سنة 2009، وفيما هَمَ عربيان من إحدى القرى العربية في الداخل، إلى جبال فقوعة التي صارت من قضاء بيسان، من أجل بقل العَكوب، انفجر لغمٌ كان مزروعا في الأرض بأحدهما.

مجزرة أطفال صندلة.. لماذا وقعت من ذاكرتنا؟

في ربيع سنة 2009، وفيما هَمَ عربيان من إحدى القرى العربية في الداخل، إلى جبال فقوعة التي صارت من قضاء بيسان، من أجل بقل العَكوب، انفجر لغمٌ كان مزروعا في الأرض بأحدهما. لم يقتل الانفجار المُصاب، لكن صديقه الذي لم يستطع الوصول إليه لإنقاذه خوفا من حقل الألغام، اتصل بالشرطة من أجل إنقاذه. وصلت قوات الأمن ومعها سيارة إسعاف، غير أن الشرطة لم تجرؤ أيضا على الدخول لإنقاذه، مما اضطرها إلى استدعاء طائرة مروحية لذلك.

كان المُصاب حين وصلت المروحية حيا. ربط طاقم الإنقاذ المُصاب بحزامٍ لإخراجه من حقل الألغام وإسعافه، وبينما حلّقت المروحية به على ارتفاع بضعة أمتار، وعلى ما يبدو لم يجرِ ربطه بالحزام بشكلٍ جيد، سقط المُصاب على الأرض، وفارق الحياة! كان المرحوم هو علاء إغبارية ابن قرية المشيرفة.

لماذا يخاطر شخصان بالغان بحياتهما، بدخولهما منطقة ملغومة، محظورٌ الدخول إليها، ولافتة التحذير من الألغام كانت واضحة لهما؟! سألت الشرطة صديق المُتوفى أثناء التحقيق... نعم، رأينا لافتة التحذير أجاب صديق المتوفى، ثم أردف: لكن وجود قطيع من البقر داخل الشريط في تلك المنطقة، جعلنا نظن بأن التحذير غير جاد ويُقصد به تخويف الناس لئلا يقتربوا من المناطق الحدودية بحجة الألغام. وإلا كيف يترك مسؤولو "الكيبوتس" أبقارهم ترتع في تلك المنطقة وهي ملغومة؟

موّه وجود الأبقار العربيين، فظنّا المنطقة غير ملغومة، لكنها كانت ملغومة فعلا، رغم وجود الأبقار فيها. وتبين أن إسرائيل وبسبب الكلفة الباهظة لعملية نزع الألغام في المناطق الحدودية، قد لجأت إلى استخدام البقر المُسن (المهرّش، بالعامية الفلسطينية)، الذي لم تعد فائدة تُرجى منه، من أجل نزع تلك الألغام، من خلال دعس البقر عليها لينفجر اللغم بها. ولم ينتبه أحد لتلك التقنية في نزع الألغام قبل هذه الحادثة.

قامت الدنيا ولم تقعد في حينه، وأصبح موت ابن قرية المشيرفة تفصيلا على هامش نقاشات جمعيات الرفق بالحيوان الإسرائيلية، التي أصرت على فتح ملف تحقيق، ودفعت بأمن الدولة إلى الكف عن ذلك الاستخدام المتوحش للأبقار في تفجير الألغام. كان هذا، بعد مضي ما يقارب 52 عاما على انفجار قنبلة صندلة. فماذا عن ملف أشلاء أطفال ذلك اليوم؟!

صندلة

هي ابنة المرج، مرج ابن عامر، الذي تقع صندلة عند خاصرته الشرقية - الجنوبية، وتعتبر القرية تاريخيا من قضاء جنين، المدينة التي تبعد جنوبا عن صندلة بما لا يزيد عن مسافة طلقة مدفع (7 كم)، بحسب ما قاله جنود مدفعية الجيش العراقي لأهل القرية، أثناء وجودهم عندها في حرب النكبة.

كانت صندلة مُزَنَّرة بقرى القضاء، منها من اقتلعها الصهاينة في عام النكبة، مثل قرية المزار شرقا، ونورس إلى الشرق الشمالي، تفصلهما عن صندلة أراضي تخم المزار، ووادي الشيخ الذي كان ينحر السهل، ليهدر منه ماؤه، ممتدا حتى الوادي الكبير جنوبا عند قرية عربونة، ثم ليلتف الوادي حتى الجهة الغربية من صندلة عند منطقة اسمها المصّايات. إلى الجنوب مباشرة تقع قرية الجلمة، بينما المقيبلة القرية التوأم لصندلة إلى ناحية جنوب - غرب، والباقية معها ضمن حدود أراضي الـ48 إلى يومنا هذا.

عدد سكان صندلة في عام النكبة، لم يكن يزيد عن 250 نفرا، قرية صغيرة يعرف أهلها بعضهم بعضا، إلى حد يعرفون فيه الطفل الذي في اللفاع هو ابن مَن. اليوم لا يتجاوز تعداد سكان صندلة 1800 نسمة، بعد أن قطعت قنبلة في الطريق، الطريق على حياة جيلٍ كامل من أولاد وبنات القرية. كان ذلك في أيلول/ سبتمر من العام 1957.

القنبلة

في السابع عشر من أيلول سنة 1957، وتحديدا عند الساعة الثانية بعد الظهر، وفيما أهالي صندلة كانوا بيادرية (يعملون على البيدر) يذرون غلالهم على بيادر القرية، دوى في مسامعهم دوي انفجار، هز كل بيوت صندلة الطينية، التي تساقط منها التراب عن التبن فيها، على حد تعبير الحاج مصطفى العمري "أبو ناظم". وظلت سحابة دخان الانفجار معقودة حينا من الوقت، قبل أن يقوى الفضاء على امتصاصها.

كان ذلك الدوّي، صوت انفجار قنبلة خلّفت أكبر مجزرة أطفال في تاريخ فلسطين الحديث، 15 شهيدا وشهيدة وثلاثة جرحى من أولاد وبنات مدرسة القرية، لم يتجاوز أكبرهم الثالثة عشرة، بينما معظمهم كان بين سنيّ الثامنة والتاسعة.

لم يكن يعرف أطفال صندلة شيئا عن القنابل، ففي أثناء عودتهم من مدرستهم "التتر"، التي كانت تقع على طريق صندلة - المقيبلة، مشيا على الأقدام. استوقف بعضهم، جسمٌ حديدي مُستدير، مُلقى على جانب الطريق، اقتربوا منه جميعا، وحاولوا تقاذفه، فتقاذفتهم القنبلة أشلاء على تراب السهل. نجمة العُمري، وهي أخت لثلاثة من الأطفال الشهداء، طالب وغالب وآمنة، كانت من أوائل الذين وصلوا إلى موقع الانفجار. مشهدٌ تقشعّر له الأبدان، جيل كامل من أبناء القرية، كان قد ترذذ دما، وتبعثر لحما على تراب مرج ابن عامر، وأمهات صراخهن كان مسموعا من جبال فقوعة، يرقصن بأشلاء أبنائهن من هول الفاجعة، بينما راحات أكفهن ظلت موشومة على خدودهن وصدورهن بدم أطفالهن لأيام.

قضاء وقدر

في ذلك الحين، من سنوات الخمسينيات، كانت صندلة مثل سائر بلدات الداخل، ترزح تحت وطأة الحكم العسكري الذي استمر ما بين عامي 1948 - 1966. إضافة إلى ذلك، اعتبرت القرية منطقة عسكرية مغلقة، لا يخرج الأهالي منها ولا يدخلون إليها إلا بتصريح عسكري، نظرا لوقوع صندلة على الحدود مع مناطق الضفة الغربية التي خضعت في حينه لحكم النظام الأردني.

لم تكترث الدولة العبرية، لموت 15 طفلا وطفلة، من أبناء صندلة في ذلك اليوم، واستمر عمل نظام نقطة الأمن على مدخل القرية، كما لو أن شيئا لم يحدث، بل منعت كل من حاول الوصول للقرية. بعض الأطفال الشهداء، جُمعت أشلاؤهم على عجل في أكياس من موقع الانفجار، ودُفنت بنفس اليوم، والتي كانت تعود لثمانية أطفال. بينما دُفن باقي الأطفال الشهداء، الذين بقيت جثثهم أقل تشوّها، في اليوم التالي والذي يليه.

لم تنظم مراسيم جنازة رسمية أو جماعية للشهداء الأطفال، كانت كل أسرة تحمل جثمان طفلها أو طفلتها أو ما تبقى منه/ا، إما بكيس أو بحضن والده أو والدها، وتدفنه على حدة، بعضهم دفن ابنه أو ابنته في الليل. كما لم يُفتح أي تحقيق في الحادث، سوى مُعاينة عابرة قامت بها قوات الجيش لموقع الانفجار، وقد أُغلق الملف على "حيفتس حشود - بسبب جسم غريب"، حتى القُنبلة لم تُسم باسمها، وكل ما قيل لأهالي الأطفال في حينه كان "قضاء وقدر".

حتى ميسر محمود العمري، الناجية من بين ثلاثة أطفال نجوا من الانفجار، نُقلت وقتها إلى مستشفى العفولة، ومن هناك نُقلت إلى مستشفى حمزة (رمبام) في حيفا. بُترت ساقها من الغليظ على حد تعبير الحاج "أبو ناظم"، ولما جاء والدها لإخراجها من المستشفى إلى البيت، لم تأذن له إدارة المستشفى بذلك، قبل أن يدفع كامل تكاليف العلاج، التي لم تكن صندلة كلها تقدر على دفعها. عاد أبوها إلى البيت بدونها، إلى أن تدخل بعد أيام محامٍ إسرائيلي من حيفا، استطاع إخراجها للبيت.

رواية يتيمة

لم ينشغل الصندليون بالقنبلة، لطالما أُرغموا عليها كـ"قضاء وقدر" وكما لو أنها سقطت على أبنائهم من السماء. وظلوا في حينه مسكونين بغصتهم الساكتة وحسرتهم الصامتة، على أولادهم وبناتهم، طوال العقود التي تلت وما طوت ألم عام المذبحة.

بعد أكثر من خمسين عاما، تكشفت رواية واحدة ووحيدة عن سبب وجود القنبلة على طريق المدرسة. أبو ناظم الحاج مصطفى العُمري، الذي فقد أخيه يحيى في المجزرة، كان من بين مجموعة من أهل القرية التي استثقلت على دم أبنائها وبناتها تخريجة القضاء والقدر، وأرادت كشف الأيدي التي وقفت خلف موت 15 من براعم صندلة وتشوه ثلاثة آخرين.

الخواجا "سمحا بيليغ" أحد مسؤولي الوكالة اليهودية، التي وضعت يدها على الأرض التي كانت على طريق المدرسة، حيث وُضعت القنبلة، استقبل في عام 2006، أبي ناظم بحفاوة، وقبل أن يسأله هذا الأخير، باشر بيليغ الحديث عن القنبلة بأسف مصطنع. قال إن عامله في الأرض وهو سائق الحصّادة، يهودي أيضا من أصل عراقي - كردي، اسمه "أفراهام أهارون" هو من وجد القنبلة في الأرض خلال عمله، وظنها في حينه، جرنا لمعس الذُرة المبلولة، اشتبه بيليغ بالقنبلة التي كانت موضوعة بين الأكياس على الحصّادة، فصاح بعامله السائق، وأمره برميها على الفور بعيدا. ألقى السائق القنبلة على الطريق الذي يمر منه أطفال مدرسة صندلة في ذلك اليوم.

هنا يرقد شهداء مجزرة صندلة

حين سألنا أبو ناظم، إن كانت هذه الرواية مُقنعة، تنهد، وأجاب مُشككا في صحة تفاصيلها، لكنها الرواية الوحيدة واليتيمة التي تسنى لأهل القرية كشفها، بعد أكثر من خمسة عقود. على أي حال، إن صدق الخواجا أو لم يصدق، فإن السائق والخواجا والوكالة اليهودية وحصّادتهم، قد يكونوا وراء وضع قُنبلة، حَصدت 15 سنبلة، من سنابل مرج صندلة.

عنف على الذاكرة.. الخوف أم الفاجعة

حدثت مجزرة أطفال صندلة، لكن كثيرون من أبناء شعبنا لم يعرفوا عنها إلا متأخرا، فلماذا وقعت المجزرة من ذاكرتنا نحن فلسطينيو الداخل على الأقل؟! مع العلم أن مجزرة كفر قاسم قد حدثت قبلها بعام وفي نفس الشهر، أيلول 1956. ومع ذلك، حفرت مجزرة كفر قاسم إلى حد الترميز، في ذاكرة شعبنا الفلسطيني، عن سياسات القتل والذبح التي مارستها الصهيونية بحق فلسطينيي الداخل.

ربما تفسر ظروف تلك المرحلة، المتصلة بالحكم العسكري على البلاد، الخوف أو الإرباك الذي خيّم على أهالي قرية صندلة بعد المجزرة، فالقرية كانت صغيرة، ومطوقة بأجهزة الأمن لوقوعها ضمن منطقة عسكرية مغلقة. كما أرغمهم الصهاينة على الصمت في حينه، إلى حد ابتزازهم بورقة ترحيلهم من قريتهم، إلى موقع آخر بالقرب من قرية شّعب في الجليل، بحسب عاهد عمري "أبو يوسف". هذا فضلا، عن دور بعض المتعاونين من أهل القرية مع نظام الحكم العسكري، الذين مارسوا بالوكالة سياسة كبت أهالي الأطفال الشهداء، كي يصمتوا ويرضوا بقضاء الحدث وقدره، وذلك من أجل مصالح ضيقة تخص هذه الفئة المتعاونة. إضافة إلى غياب أي حِراك وطني في القرية، والذي لو وُجد، لحمل على كاهله مسؤولية ملاحقة المسؤولين عن وضع القنبلة.

إن كل هذه العوامل، تفسّر لنا، دوافع الخوف من ملاحقة المسؤولين، لكنها غير كافية لتفسير دوافع ممارسة نسيان جماعي لدى الصندليين، فالصمت عن المجزرة قادمٌ من عنفٍ مارسه أهالي القرية على ذاكرتهم، أكثر مما هو خوف من سلطات أمن الحكم العسكري وقتها.

الفاجعة ووقعها هي من يفسر لماذا قمع الصندليون ذاكرتهم؟ فقد أرادوا أن ينسوا لا أن يتذكروا، "بلاها يا سيدي هـ السيرة، دخيلك بلاها" يقول رشاد عمري عن جده، كلما سأله عن المجزرة. وذلك لأنه "الضنا"، فـ"فقد الأطفال" وبهذا الشكل الجماعي من الموت المأساوي، هو ما صعّب على ذاكرة أهالي الأطفال وعموم أهالي صندلة التصالح مع الحدث.

إحياء ذكرى مجزرة صندلة (أرشيف عرب 48)

أرادوا أن ينسوا، فحاولوا كبت أي محاولة لبعث فاجعتهم برؤوسهم، لتبقى في صدورهم تفتك بهم على مدار عقود. تخيل حتى أنهم بحثوا عن كُنية لكل ولد ظل لديهم، وكان سميّا (يحمل اسم) لأحد أطفال المجزرة، كي لا ينادوه باسمه على مسمع أمه الثاكل التي يحمل فقيدها نفس الاسم، مما يقول لنا، لِمَ وقعت المجزرة من ذاكرة أجيال القرية اللاحقة، ثم من ذاكرتنا جميعا نحن فلسطينيو الداخل.

هُناك...

"مرج ابن عامر، هل لديك سنابل أم فيكَ من زرع الحروب قنابل؟..." - هذا ما قاله الشاعر الراحل راشد حسين في مطلع "الغلة الحمراء"، تلك القصيدة التي ظلت معلّقة على حيطان بيوت الصندليين، يحفظها أبناء وبنات القرية من بطن قلب، إلى يومنا. في تخليدٍ ظل خجول أمام ذاكرة بقيت تنزف دما ودمع، ومعها نصب تذكاري حزين في مدرسة القرية الحديثة، فالمدرسة التي عاد آخر مرة منها الأطفال الشهداء، هُدمت وأُقيم مكانها حاجز عسكري في حينه. حتى طريق السهل الذي انتظرت عليه القنبلة الأطفال، حيث التراب المجبول بدمهم المسفوح، ابتلعه إسمنت مُستعمرة "مغين شاؤول" التي أقيمت عليه، بعد نحو عقدين من الزمن على الفاجعة.

كذلك في المقبرة، أضرحة أطفال صندلة مُبعثرة، مثل ذاكرة أهلهم عنهم، ومثلما بعثرتهم قُنبلة أيلول، أشلاء بين أوراق دفاترهم. شُهداء لا شهود على موتهم، ولا شواهد لقبورهم، لكنهم هناك، كلهم هناك، حيث ووروا الثرى في موسم السمسم والذُرة... في صندلة.

التعليقات