وفي المكان أشلاء أطفال مبعثرة وأقلام رصاص ودفاتر يغطيها السواد

في ذكرى مجزرة صندلة التي وقعت في السابع عشر من أيلول/ سبتمبر في العام 1957، مخلفة 15 طفلاً شهيدًا وثلاثة جرحى

وفي المكان أشلاء أطفال مبعثرة وأقلام رصاص ودفاتر يغطيها السواد
رشاد عمري

إلى ذكرى الشهداء :

- آمنة عبد الحليم عمري -10 سنوات؛

2- طالب عبد الحليم عمري-13سنة؛

3- غالب عبد الحليم عمري-8سنوات؛

4- محمد عبداللـه عبد العزيز عمري-13سنة؛

5- اعتدال عبد القادر عمري-9 سنوات؛

6- رهيجة عبد اللطيف عمري- 8 سنوات؛

7- سهام زكريا عمري- 8 سنوات؛

8- صفية محمود عمري- 8 سنوات؛

9- عبد الرؤوف عبد الرحمن عمري- 8 سنوات؛

10- فاطمة احمد يوسف عمري –10 سنوات؛

11- فهيمة مصطفى أحمد عبد الرحمن عمري 8 سنوات؛

12- محيي الدين سعد عمري- 9 سنوات؛

13- يوسف احمد محمد عمري-8 سنوات؛

14- يحيى احمد حسن عمري –9 سنوات؛

15- فؤاد عبدالله محمد عبد العزيز عمري-8 سنوات.


في السابع عشر من أيلول قبل 60 عاما يوم قامت القيامة في قرية صندلة

كانت الساعة الثانية من بعد ظهر يوم الثلاثاء الموافق 17 أيلول من عام 1957 دقّ جرس مدرسة صندلة- مقيبلة المشتركة معلنا انتهاء الدوام الدراسي والأخير، واللعبة الأخيرة والشقاوة الأخيرة والمشاكسة الأخيرة، لا بل دقّة القلب الأخيرة لـ15 طفلا.

كانت الساعة الثانية تبعتها ثانية، كسرت ظهر أهل قرية لم يتعدّ سكانها الثلاثمائة، وتمزّقت المشاعر، واختلطت فيها أشلاء الموت برائحة بارود القنابل.

تعوّد الأهالي لمّ غلالهم فهو أيلول الحصاد الذي ينتظرونه ليبنوا مستقبلا لأطفالهم، لم يعرفوا أن الحصاد سيكون لأرواح أطفالهم، وأن الغلّة ستكون حمراء بالدم وقطع من لحم الاطفال في أكفان رقصوا بها رقصة الموت الأخيرة.

قبلة الوداع الأخيرة

كالعادة عاد الأطفال من المدرسة إلى بيوتهم في طريق ترابي، مرّوا منها مرّات ومرّات، حتى تحوّل الطريق، في أيلول، إلى جحيم واختلط تراب فلسطين مع دماء أطفال صندلة ليزيد التراب من قدسيته قدسيّة. ففي أيلول قُتِلنا في كفر قاسم، وفي أيلول فجعنا في صندلة، فأيلول أصبح أسود بعد المجازر في الأردن قبل أن يسوَدّ حلكة في صبرا وشاتيلا، في أيلول ما زلنا نبحث عن القاتل وهو يتمدّد قتلا وفتكا وأسرا وتعذيبا ونفيا وترحيلا، هناك في القدس وهنا في عُمق رؤوس تُعوّل على أمل من مستعمر.

اعتقدوها دمية فاجتمعوا وتجمّعوا يلعبون في الوقت المتبقّي لهم من الموت القادم، الى أن انفجرت الكرة الحديدية، وسقط الأطفال في هدوء الموت وعلى صرخات الأهالي الذين سمعوا صوت الموت القادم عن بُعد في سحابة من الغبار وأنفاس الأطفال الأخيرة، أو كما وصف المنظر، معلّم الطلاب في المدرسة: "لقد كان في المكان أشلاء أطفال مبعثرة وأقلام رصاص ودفاتر يغطيها السواد".

الأطفال في ساحة المدرسة

وصل الأهالي إلى كومة من الأطفال وأشلاء، هول المصيبة أفقدهم القدرة على البكاء، حملوا أشلاء أبنائهم ورقصوا بها في رقصة الموت، رقصوا رقصة الموت، فطيور الجنّة أصبحت تتراخى عيونها وتذبل أجفانها وترتعش أطرافها، في قبلة الوداع الأخيرة. رقصة الموت هذه وقبلة الوداع الأخيرة، سلبتهم القدرة عن التعبير عن مصابهم لعشرات السنين، فكلّما سألت جدي الذي فقد طفلته وأربعة عشر طفلا من أطفال عائلته، عن الواقعة، كانت تعابير وجهه تخترق القلب بسيف يفجّر حزنا فوق تحمّل البشر، فكيف له أن يشرح لنا واقد انشطر صدره ألما، فلم تعد له القدرة على تجميع الذاكرة، وغصّت قدرته على العودة إلى يوم قُتِلَ به الحاضر والطفولة والمستقبل؟ . "يا سيدي كان ذلك اليوم يوم القيامة، في ذلك اليوم انتهت الحياة فينا، فلا تذكّرني، حتى لا تلقي بي في جحيم يوم قيامة جديد، فرغم إصراري عليه ليقصّ عن يوم القيامة، لكن لا حياة لم فقد الإحساس بطعم الحياة، غير الطعم المر منها، فكان المرّ، حسرة دائمة بصدره".

وبقيت هذه القرية مطوّقة بمجزرتها

نعم هول الكارثة والحسرة بقيت في صدور أهالي الأطفال الضحايا، فكان إحياء الذكرى في حياة أهالي الأطفال، ليس إحياء للجرح، فهو ليس جرحا، بل قتلا للنفس، نفس الأب الذي رقص بأشلاء ابنته، وقتلا للأم التي عفرت تراب الموت فوق جدايل شعرها. مات الصغار ورقص الكبار رقصة الموت، وبقيت هذه القرية مطوّقة بمجزرتها، حتى إلى ما بعد التخلّص من الحكم العسكري وحكم العميل المديني، إلى أن توفي آخر الثاكلين/الثاكلات من الآباء والأمهات.

اكتفى المسؤولون، آنذك بإصدار بيان، تتّهم به القضاء والقدر، ووصفوا القنبلة التي قتلت الأطفال، بالجسم الغريب، فإذا صحّ وصفهم، وهو صحيح، فالقنبلة جسم غريب اخترق قلب الطفولة، فهذه القنبلة جسم غريب، كغرابة الكائنات الانشطارية من بن غوريون الى شمعون بيرس إلى قنبلتهم الجنسية، بنينا رزونبلوم، عن وطننا.

"أنا من قرية الخمسة عشر طفلا التي تسلّلت إلى مسارات أطفالها التعليمية، قنبلة"، قلت للشاعر محمود درويش، الذي تفاجأ من روايتي ومن قصيدة "الغلة الحمراء" للشاعر راشد حسين. لكن شاء القدر أن يكرّمهم في أبيات من قصيدته الأخيرة "لاعب النّرد"، والتي جاء فيها:

لو أَن خمسة عشر شهيدا
أَعادوا بناء المتاريسِ
لو أَن ذاك المكان الزراعيَّ لم ينكسرْ
رُبَّما صرتُ زيتونةً
أو مُعَلِّم جغرافيا
أو خبيرا بمملكة النمل
أو حارسا للصدى !

ذكرت ذلك لأنّ القصيدة، في حالة مجزرة صندلة، كانت الشاهد الباقي على الحدث، فالقصيدة التي كتبها الشاعر راشد حسين، عن المجزرة كانت، الشعلة التي بقيت منارة، حتى في وقت ذبلت فيه قلوب الثّكالى، حيث أبدع في وصف ضحايا صندلة في قصيدته "الغلة الحمراء" التي يقول فيها:

مرج ابن عامر هل لديك سنابل أم فيك من زرع الحروب قنابل؟
أم حينما عز النبات صنعت من لحم الطفولة غلة تتمايل
فإذا الصغار الأبرياء سنابل وإذا القنابل للحصاد مناجل
يا مرج قل لي هل ترابك سامع؟ أم أنت عن صوت الملامة ذاهل؟

وتابع الشاعر في وصف هول الحدث فيقول:

واليوم أبكيت القلوب فما عصى دمع ولكن القلوب تسائل:
هل بعد أن كنا نلم غمورنا وعلى الشفاه تبسم وتفاؤل
نأتي نلملم عن ثراك لحومنا وكأننا كنا عليك نقاتل؟
أبناؤنا من طين صدرك لحمهم فالوجه مثلك أسمر متفائل
أبناؤنا طيات أرضك أمهم هل تقتل الأبناء أم عاقل؟
أبناؤنا بالأمس أنت غذوتهم أتراك جعت فهم إليك مآكل؟

وفي نهاية القصيدة تتجلّى إنسانية راشد حسين فيقول:

قالوا القنابل عبقري صاغها صدقوا........ولكن عبقري سافل
آمنت بالإنسان يبني مصنعا للحب .......لا لمدافع تتقاول
آمنت بالإنسان هب محاولا لأخوة........لا للخصام يجادل
آمنت.......لكن لكل يوم دافع للكفر بالإنسان حين يقاتل
يا اخوتي حضن الأمومة بيتكم واليوم أحضان التراب منازل
يا غلة حمراء كنت براعما خضراء.....فيها للشباب دلائل
يا قصة ما أكملت فكأنما مات المؤلف قبلما تتكامل
أيجيد هذا الشعر حق رثائكم أم أن قول الشعر وهم باطل؟

 

التعليقات