29/11/2021 - 17:51

صفد من ذاكرة الناس وحكايا التأسيس... (4/2)

ما من جامع أو كنيسة -على قلّة الكنائس في صفد- أو مقامٍ وزاوية أو حمّام، أو حتى سوقٍ وزقاق فيه، أو حارة وعائلة فيها، إلا ولها أو له، حكاية نشأة، تُحيل سامعها إلى تاريخ مِخيال الصفديّين في مدينتهم، وذاكرتهم عنها.

صفد من ذاكرة الناس وحكايا التأسيس... (4/2)

جانب من مدينة صفد عام 1946

هذه المقالة هي الجزء الثاني من أربع مقالات حول مدينة صفد، تُنشَر تباعًا.


"وفي أول ليلة قضيتها في صفد، نعى المؤذّنون من على مآذن مساجدها، المرحوم فيصل ملك العراق، فخرجتُ مع مُضيفي السيد عبد الله إلياس البشّوتي محزونين هلعين نستطلِع المزيد من الأخبار، ولبِسَت المدينة أثواب الحِداد، وكان في كلّ بيت مأتم". كان ذلك يوم السادس من أيلول/ سبتمبر عام 1933، بحسب محمود العابدي، صاحب كتاب "صفد في التاريخ"(*)، الذي نُقل في تلك السّنة من بيت لحم كمدرّس، إلى مدرسة الزاوية في حارة الصواوين في صفد. كان هذا النّقل في حينه ضمن إجراءات عقابيّة اتخذها المستعمرون الإنجليز، ضدّ أهالي مدينة صفد وموظّفيها تحديدا، على إثر أحداث أواخر آب/ أغسطس سنة 1929، عندما هاجم عرب مدينة صفد حارة اليهود في المدينة وأحرقوها، ضمن ما يُعرف بهبّة البراق في ذلك العام.

"ثورة البُراق" كحدث مؤسِّس

في تلك السنوات من مطلع ثلاثينيات القرن الماضي، كان في كل بيت صفديّ سجين واحد على الأقلّ، يقول العابدي. وذلك على خلفيّة أحداث البراق وحرق حارة اليهود، إذ اعتقل الإنجليز ما يزيد عن 400 صفدي، ومن بينهم فؤاد حجازي الذي استشهد بعد الحكم عليه بالإعدام شنقًا، مع عطا الزير ومحمد جمجوم في السابع عشر من حزيران/ يونيو من عام 1930، بالإضافة إلى آخرين، منهم من قضوا في السجن أحكام مؤبّدات، ومنهم من قضوا سنوات متفاوته في السجن، وهذا غير الذين ظلّوا مطارَدين طيلة سنوات.

لم تكن أحداث البراق من سنة 1929، هي المرّة الأولى التي يهاجِم فيها أهالي مدينة صفد حارة اليهود في مدينتهم، فقد حدث ذلك مرارا، طوال القرنيْن الثامن عشر والتاسع عشر، إلى حدٍّ كان فيه هجوم عرب المدينة على حارة يهودها، نبوءةً ذات رواج بين يهود صفد. كان أشهر هجوم سبق هجوم أحداث البراق، قد وقع في زمن الثورة على الحكم المصريّ في البلاد أيام إبراهيم باشا.

كعادة الصفديّين في الاستجابة لصَيْحة الحرب، لبّى أهل المدينة إلى جانب أهالي جبال نابلس والخليل نداء التمرُّد سنة 1834 على إبراهيم باشا وحكمه. وقتها انحاز يهود صفد إلى صفّ الباشا، ممّا دفع الصفديّين إلى مهاجمة حارتهم ونهبِها. تدخّل في حينة قناصل الدول الأجنبية في إسطنبول لصالح يهود صفد، وكذلك محمد علي باشا والي مصر، الذي أمر بملاحقة الصفديّين بالاسم، لمعاقبتهم وإعادة المنهوبات.

صحيح أن الصفديّين استسهلوا على مدار تاريخهم الحديث، مهاجمة حارة اليهود في مدينتهم، لكن مرَدَّ ذلك لم يكُن لضعف يهود المدينة، بقدر ما كان لجشع اليهود وخبثِهِم، بحسب ما ظلّ يقول الصفديّون؛ فالذي كان يزيد من حنَق عربِ مدينةِ صفد على يهودها، هو مبالغة اليهود وتهويلهم في تقديرهم لخسائرهم أمام السلطات الحاكِمة بعد كلّ هجوم على حارتهم، فلمّا طلب إبراهيم باشا من يهود صفد تقديم تقديرهم لخسائرهم، ادّعى اليهود بتكبّدهم من الخسائر والمنهوبات والأموال؛ أضعافا مضاعَفة مقارنةً بما نُهب منهم وخسروه فعلا، الأمر الذي كان يُثقِل من بطش السلطات على عرب المدينة، وبالتالي تأليب قلوبهم على يهودها أكثر.

هذه الأحداث، لم تكُن تشير إلى شكل علاقة عرب المدينة بيهودها، كعلاقة احتراب وعداء دائم بالضرورة. فلولا عرب المدينة بمسلميها ومسيحييها، لما تمكّن يهودها من إتمام طقوس قداسَة السبت، وقضاء حاجاتهم معًا، إذ اعتادت بعض عائلات عرب صفد، إرسال أولادها للقيام بقضاء بعض حاجيّات جيرانهم اليهود، التي تحظرها عليهم تعاليم قداسة السبت، مثل إشعال النار والإنارة. وحتّى إرسال أطباق الطعام لهم، كتعبير عن حُسن الجوار والتعايُش في ما بينهم.

امرأة تقف على سطح منزلها في صفد

بلا شكّ، تعدّ صفد واحدة من المدن الأربع المقدّسة بالنسبة لليهود في فلسطين(*)، ولهم في صفد ذاكرة منها معالم، ومنها تعاليم مُشَكِّلة لمخيالهم التوارتيّ وعلاقتهم بالمدينة. غير أنّ اللافت هو طبيعة الفئة العمريّة من اليهود، التي كانت تتوطّن مدينة صفد عادةً، إذ إنه منذ بدء الحكم العثمانيّ على المدينة مطلع القرن السادس عشر، كان معظم يهودها من كبار السن والعجائز، فهي مدينة خَلاصيّة، يؤمّها اليهوديّ بعد أن يغدو مستقبله خلفه، من أجل التطهُّر والتكفير عن ذنوبه، وبالتالي الموت فيها. رغم ذلك، لم يترك يهود المدينة فرصة للتطفُّل على عربها أو ابتزازهم، إلّا وفعلوا.

عودة إلى العابدي

كان الإجراء العقابيّ الذي أجراه الإنجليز بعد أحداث البراق، والمتمثّل بنقل موظّفي مدينة صفد إلى مُدن أخرى، وجلْب موظّفين من مدن وقرى فلسطينيّة مكانهم، بمثابة انطلاقة لانفتاح الصفديّين على الغريب وتقبّله. فصفد مدينة ظلّت طوال تاريخها منذ قيامها أيّام المماليك، تستثقِل الغرباء فيها، ولو كانوا عربًا ومسلمين. كما ساهم هذا النقل في كتابة تاريخ المدينة وتدوين ذاكرتها؛ فقد كتب العابدي أهمّ مرجع عن تاريخ المدينة الحديث، بعد نقله من بيت لحم إليها، وكذلك دوّن إحسان عبّاس في مذكراته "غُربة الراعي" يوميّاته في المدينة، بعد نقله إليها في ثلاثينيّات القرن الماضي.

في كتابه "صفد في التاريخ"، يتناول العابدي تاريخ مدينة صفد الحديث، بحُكم أنها مدينة حديثة بتكوينها نسبيًّا. بمعنى أنّ صفد، لم تبرُز كحاضِرة مدينيّة، إلّا في ظلّ التاريخ العثمانيّ منذ القرن السادس عشر ميلاديّ. وقبل ذلك، لم تكن صفد أكثر من حصن أو مدينة ثكنة إن صحّ القول. وهذا مرَدُّه إلى موقِعها الجغرافيّ المرتفع على سفوح جبلَيّ القلعة وكنعان، ممّا جعل نشأتها على شكل حصن عسكريّ، تَمثّلَ في قلعتِها المشهورة التي بناها الصليبيّون فيها سنة 1140. خلّصها صلاح الدين الأيوبيّ من الصليبيّين يوم 14 شوّال من عام 1188م، غير أن أبناءه من بعده فرّطوا بها، وأعادوا إليها الصليبيّين، إلى أن أعاد الظاهر بيبرس فتحها وطرد الصليبيّين منها، وبلا رجعة سنة 1266م. فصارت تُدعى مدينة "الظاهري"، نسبة للملك الظاهر.

كان أول من توطّن صفد ما بعد صليبيّتها هم الأكراد، وقد أقاموا في حيَّيْن منها، كجنود وحرس، وظلّ أحد أعرق أحيائها يُنسب إليهم حتّى عام النكبة. كما توطّنها مغارِبة قدِموا إلى البلاد في ظلّ حروب الصليبيّين كمقاتلين، ثمّ تزوّجوا منها وامتهنوا الفلاحة. ترك هذا التشكيل الاجتماعيّ ذو الجذور العسكريّة لنشأة صفد، كبيرَ أثَرٍ في طبيعة الصفديّين وطباعِهم حتّى آخر يوم من حياة أهلها فيها.

فالصفديون مقاتلون أشدّاء، لم يتوانوا طوال تاريخهم عن واجب الحرب والضرب، كما كانوا متمسّكين بدينهم إلى حدّ التزمُّت أحيانا، وميّالين للمال والكسب فاحترفوا التجارة. كما كان لهذا التشكيل الاجتماعيّ - العسكريّ، منذ نشأته، تأثير في الحسّ الأمنيّ للمدينة، وأهلها، تجاه الغريب إلى حدِّ التوجُّس منه وزجره. وظلّت مثل هذه الطباع، مبعث انطباعات، لدى أهالي مدن وقرى الجليل وعموم فلسطين عن الصفديين، ومنها ما بقي محلّ تندُّر حتّى عام النكبة، كقول: "يكفيك شرّ يهوديّ طبريّ، ومسيحيّ نصراويّ، ومسلم صفديّ..." وغيرها من التصنيفات الاجتماعيّة والانطباعات المأثورة.

مؤسّسون وحكايا مؤسِّسة

لطالما ظلّت قلعة صفد، المعلم الأهمّ فيها طوال فترة الحروب الصليبيّة على البلاد. فإن أوّل معلم إسلاميّ للمدينة شبّ عن طوق القلعة، كان "الجامع الأحمر"، الواقع إلى يومنا في حارة الوطاة، وقد بناهُ الملك الظاهر بيبرس سنة 1275م، وله ملامح القلعة العسكريّة في معمارهِ بالمناسبة. سُمِّي الأحمر لحجارته الحمراء، وفي رواية أخرى، يقال لأنه أُنشأ بالقرب من منطقة الحمرا في المدينة. وأجمل ما فيه على مدخله إلى يومنا هي "المقرنصات" كتوقيع باقٍ إلى يومنا عن ذوق طُرُز معمار المماليك في المدينة.

أمّا "زاوية بنات حامد"، فكانت من أشهر زوايا المدينة، نسبة إلى حامد الفقير من كل شيء. فحكاية حامد تقول إن نائب السلطنة المملوكية في المدينة، موسى بن أقطاي، لمّا ذهب إلى الديار الحجازيّة لأداء فريضة الحجّ، وفيما هو في مسجد النبي (صلى الله عليه وسلم)، صعد درويش فقير المنبر، وقال بعالي صوته: "قال الرسول ما بين قبري ومنبري هذا، روضة من رياض الجنة". فسمع كل من في المسجد صوتا انبعث من القبر الشريف يقول: "صدقت يا حامد".

جانب من الجامع الأحمر في المدينة

ولمّا سأل نائب السلطنة بن أقطاي، من يكون حامد هذا؟ قيل له: فقير يُعرف بحامد الصفديّ. ولمّا عاد ابن أقطاي إلى صفد، بحث عن ذلك الرجل، فقيل له إنه درويش فقير، لا يُعرف له مسكَن، وقد ترك بناتا بعد وفاته. سعى موسى بن أقطاي إليهنّ، كما تقول الحكاية، وتزوّج إحداهنّ تقرُّبا من أبيها، ودُفنت وشقيقاتها إلى جانب قبر نائب السلطنة، وصارت أضرحتهنّ مقاما، ثمّ زاوية يؤمّها دراويش المدينة.

هذا الإرث الحكائيّ عن نشأة وتأسيس المقامات والزوايا في صفد تشكّل في سياق موازٍ لإرث حكايا نشأة معالم اليهود في المدينة، مثل مغارة الأحزان التي ما تزال مقصد يهود الدولة العبريّة إلى يومهم الغاصب هذا، حيث حكاية النبيّ يعقوب، والذي يُقال إنه أقام في المغارة الواقعة جنوبيّ القلعة حزنا على فقدانه ولده يوسف، وقد ناح عليه فيها أربعين عاما، حتى ابيضّت عيّناه عليه. كما أنّ الذي حمل قميص يوسف لأبيه، بحسب الرواية التوراتيّة، كان أميرا مصريًّا يُدعى بشير الصعيدي، أُقيم له مقام في صفد عند مدخل المدينة، عُرف بمقام "أبو قميص"، وظلّ حتى مطلع الأربعينيّات من القرن العشرين، إلى أن هدمه الإنجليز. ممّا يدلّ على أنّ كلّ إرث معالم مدينة صفد وحَكايا نشأتها، كانت إرثا عربيًّا وإسلاميًّا - حضاريًّا، بما فيها اليهوديّة، قبل أن يجري صَهْيَنتها في التاريخ المعاصر.

حتى للعائلات الصفديّة وتوطّنها في أحياء المدينة، كانت حكايات نشأةٍ وتأسيس. منها حكاية الشيخ الصوفيّ أحمد البقاعي، الذي عاصر "الفتح" العثمانيّ للبلاد أيام السلطان سليم الأول مطلع القرن السادس عشر ميلاديّ. تقول حكاية الشيخ، إن أسدا مخيفا، كان يظلّ يعترض طريق رجال حَملة السلطان سليم الأول سنة 1516م، في نواحي صفد، ولمّا ضاق به السلطان ورجاله ذرعًا، تنطّع له الشيخ البقاعي وحاصره بإحدى المغاوِر، ثمّ سحبه بمحجانته، كما تقول الحكاية الشعبيّة، وامتطى صهوته مثل الدابّة، وذهب به للسلطان، الذي أطلق عليه من يومها لقب الأسدي، وأقطعه أراضٍ في جبل كنعان، أُقيم عليها حيّ عائلة الأسدي، أكبر عائلات صفد حتى عام النكبة. كما أقطع السلطان، الشيخ، أرضَ دير الخضر أو دير البعنة في الشاغور، والتي صارت تُعرف بدير الأسد، الباقية في الجليل، إلى يوم أهلها هذا.

ما من جامع أو كنيسة - على قلّة الكنائس في صفد - أو مقامٍ وزاوية أو حمّام، أو حتى سوقٍ وزقاق فيه، أو حارة وعائلة فيها، إلا ولها أو له، حكاية نشأة، تُحيل سامعها إلى تاريخ مِخيال الصفديّين في مدينتهم، وذاكرتهم عنها.

آثار ما تزال موجودة في صفد

كانت مآذن جوامع صفد، التي دوى نعْيها موت الملك فيصل، في مسامع صاحب كتاب "صفد في التاريخ" تُنبِأ ضيف المدينة وأهلها، بمرحلة فاصلة من تاريخ صفد، حيث ظلّ الصفديّون يجتمعون مستنفرين من كلّ عام، في يوم المولد النبويّ الشريف، ما بين أعوام 1929 - 1936، عند جامع مَقام "الشعرة الشريفة"، والتي يُقال إن شَعرةً من رأس النبي فيها. ومنها أعلن الصفديّون قطع شَعرة الصمتِ إزاء الإنجليز وهجرة الصهاينة للبلاد، ملتحقين بالإضراب الكبير والثورة الكُبرى، وكان ذلك يوم الخامس عشر من نيسان/ أبريل سنة 1936.


الهوامش:

* العابدي، محمود، صفد في التاريخ، جمعية عمال المطابع التعاونية، عمان، 1977.

التعليقات