الأمير الألمانيّ والمؤامرة والرايخ المنسيّ

كانت جماعة الرايخ مصدر إزعاج محليّ فقط حتى ظهر هاينريش الثالث عشر على الساحة، إذ تابع الأمير هدفه في استعادة الرايخ الإمبراطوري الألماني على جبهات متعددة، وبطريقة بدت وكأن عالمه الخيالي موجود بالفعل

الأمير الألمانيّ والمؤامرة والرايخ المنسيّ

(Getty Images)

أُلقي القبض مؤخرًا على الأمير هاينريش الثالث عشر، للاشتباه بتزعّمه خطة للإطاحة بالحكومة الألمانية، إذ تبنى الأمير نظريات المؤامرة اليمينية المتطرفة، في حنين منه إلى الماضي الإمبراطوري الألماني البائد.

يمتلك الأمير هاينريش الثالث عشر، أمير رويس، نُزلًا للصيد على قمة تلّ شديد الانحدار، يطلّ على المنازل المكسوة بالثلج وأضواء عيد الميلاد في مدينة باد لوبينشتاين، ويمضى عطلات نهاية الأسبوع في منتجع المدينة، مانحًا ذوقا أرستقراطيّا لهذه الزاوية الهادئة من المناطق الريفيّة في شرق ألمانيا، كما يحظى بمكانة لدى رئيس البلدية والعديد من القرويين، ولكن كان هناك جانب آخر مظلم لشاعريّة هذا المكان.

مظاهرة لأنصار اليمين المتطرف الألماني (Gettyimages)

يقول ممثلو الادعاء ومسؤولو المخابرات الألمانية إن هاينريش الثالث عشر استخدم نزله أيضا، لاستضافة اجتماعات سريّة تآمر فيها مع مجموعة من اليمينيين المتطرفين للإطاحة بالحكومة الألمانية وإعدام المستشار. خزّنت المجموعة الأسلحة والمتفجرات في الطابق السفلي للنزل، وتدرّبت على السلاح في الغابة القريبة.

استُهدف النُزل الذي يبعدُ ثلاث ساعات بالسيارة جنوب برلين في ولاية تورينجيا مؤخرًا، من بين 150 هدفًا داهمتهم قوات الأمن في واحدة من أكبر عمليات مكافحة الإرهاب في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، واعتُقل فيها نحو 23 عضوا في الخليّة من 11 ولاية ألمانية، ووُضع 31 شخصا قيد التحقيق. اكتشفت الشرطة مجموعة من الأسلحة والمعدّات العسكريّة، بالإضافة إلى قائمة تضمّ 18 سياسيًّا وصحافيًّا صُنِّفوا كأعداء للدولة.

قد لا يبدو الأمير هاينريش الثالث عشر ابن الواحد والسبعين عاما، والسليل الميسور لعائلة "نبيلة" عمرها 700 عام، زعيمًا متوقَّعًا لعصابة قادت هذه المؤامرة الإرهابيّة، لكنّ المدعين يقولون إن المتآمرين معه عيّنوه ليصبح رئيسا للدولة في نظام ما بعد الانقلاب.

هاينريش الثالث عشر

وبسبب حنينه إلى الإمبراطوريّة الألمانيّة قبل العام 1918، عندما حكم أسلافه دولة في ألمانيا الشرقيّة، اعتنق علنًا نظريّة المؤامرة التي اكتسبت زخما في الدوائر اليمينيّة المتطرّفة، وتزعم أن جمهوريّة ألمانيا بعد الحرب ليست دولة ذات سيادة، بل شركة تجاريّة أنشأها الحلفاء بعد الحرب العالمية الثانية.

يطلق أتباع نظرية المؤامرة على أنفسهم اسم "Reichsbürger"، أو مواطني الرايخ، ويقطن الكثير منهم في جنوب شرق ولاية تورينغن التي فاز فيها النازيون بالسلطة محليًّا قبل أكثر من 90 عاما، ليمضوا لاحقًا في رحلتهم لتأسيس الرايخ الثالث. واليوم، أكبر قوة سياسيّة في الولاية هي حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليمينيّ المتطرف، الذي اعتُقل أحد نوابه السابقين كجزء من مؤامرة الأمير المزعومة.

جلب مواطنو الرايخ سُمعة سيّئة للمدينة، ممّا أثار استياء أصحاب الفنادق وتجار النبيذ المحليين الساعين لاستقطاب السياح للمنطقة، حيث تنتشر المباني الحجرية وأبراج الكنائس التي تعود للقرون الوسطى إلى جانب المناظر الطبيعية لغابات الصنوبر والبحيرات القريبة.

عناصر الأمن قرب النزل المذكور (Getty Images)

أخبرنا عضو المجلس المحلي، أندريه بوركهارت، بأنهم: "يشغلوننا جدًا بقضاياهم، لكن لم أتخيل أبدًا أن لدينا مثل هذا المشهد المتطرف هنا".

كلما أقام السيد بوركهارت وزملاؤه أعضاء المجلس جناحًا في السوق المحلية للاستماع إلى مخاوف السكان وشكاويهم، ينتهي بهم الأمر لمواجهة سيل من الإساءات اللفظية من أناس يصرّون على أنه يعمل في بلد غير موجود، معلقًا: "يصرخون علينا: نحن لسنا من الألمان. لسنا في دولة ألمانية حقيقية، نحن مجرد فرع لشركة ذات مسؤولية محدودة GmbH!"، في إشارة إلى الاختصار الألماني لشركة ذات مسؤولية محدودة.

كانت جماعة الرايخ مصدر إزعاج محليّ فقط حتى ظهر هاينريش الثالث عشر على الساحة، إذ تابع الأمير هدفه في استعادة الرايخ الإمبراطوري الألماني على جبهات متعددة، وبطريقة بدت وكأن عالمه الخيالي موجود بالفعل.

(Getty Images)

علمَ رئيس تحرير الصحيفة المحلية في باد لوبنشتاين، بيتر هاغن، لأول مرة أن المدينة لديها أمير في نيسان/ أبريل 2021، عندما أخبره السكان عن ملصقات الحملة الانتخابية الغريبة في الشوارع أسفل نزل وايدمنشل، والتي تحث السكان على الترشح للانتخابات في "لجنة انتخابات رويس"، مع أنه لم تكن هناك انتخابات رسمية في ذلك الوقت.

ازدادت ريبة السيد هاغن في الصيف الماضي، بعد أن تابع هاينريش الثالث عشر، وشخصية محلية أخرى من مواطني الرايخ إلى مكتب البلدية، والذي سمح لهم رئيس البلدية في ذلك الوقت باستخدامه في محاضرة بعنوان: "محاضرة عامة عن BRD GmbH"، وهو اختصار لجمهورية ألمانيا الاتحادية إنكوربوريتد. يشير العنوان بوضوح إلى معتقدات مواطني الرايخ، ولكن عندما وصل السيد هاغن للمكان رفض المنظمون بدء اجتماعهم، ولم يتمكن من الاستماع إلى المحاضرة.

ازداد الاضطراب في مدينة باد لوبنشتاين في تموز/ يوليو الماضي، عندما وصلت رسالة إلى صناديق بريد أهل المدينة، مرقَّمة بعلامات تعجّب وأحرف كبيرة، وتحثهم على استخدام موقع على الإنترنت للحصول على الجنسية تحت آل رويس House of Reuss. (ألغيت الألقاب النبيلة بعد الحرب العالمية الأولى، لكن العديد من العائلات المالكة السابقة كانت تتبع نسبها بشغف).

خلال تنفيذ حملة الاعتقالات (Getty Images)

جاء في الرسالة التالي: "هل تشعر أيضًا بأن الأمور ليست على ما يرام في بلادنا. هل تعلم أنك في الواقع لا تملك أي جنسية، بل أنت عديم الجنسية وليس لديك أية حقوق؟". يقطن في مدينة باد لوبينشتاين 6000 شخص، ويقول البعض إنها تبدو وكأنها قرية أكثر من كونها مدينة، فجميع سكانها يعرفون بعضهم، والمقهى الوحيد هناك يبيع كامل معجناته بحلول الظهر.

أدرك عضو المجلس المحلي السيد بوركهارت في غضون ساعات من استلام الرسالة، أنه لم يكن الوحيد الذي تلقاها، فتحدث إلى السيد هاغن، وبعد تداول ما رأوه وسمعوه، ازداد قلق السيد بوركهارت: "فكرنا في الموضوع: ربما يجب أن ننظر في هذا الأمر، لذلك أبلغنا وكالة المخابرات بذلك وقالوا لنا: ’نحن نتابع القضية’. وأعتقد بصراحة أنهم أخذوا الأمر على محمل الجد أكثر مني".

كانت المخابرات تراقب الأمير منذ خريف 2021، وبحوزتهم معلومات مرعبة: تضمنت مجموعة المتآمرين حول هاينريش الثالث عشر جنود حاليين وسابقين من نخبة القوات الخاصة، بالإضافة إلى ضباط للشرطة وجنود احتياط في الجيش، وغيرهم ممن لهم صلات بالجيش، ممن وضعوا خططا عملية وحتى تواريخ محتملة للانقلاب، وفقًا للمسؤولين في المخابرات.

(Getty Images)

وقال مسؤولو المخابرات إن الجماعة بدت مستعدة للتحرّك بالفعل في مناسبتين هذا العام: مرة في منتصف آذار/ مارس ومرة في أيلول/ سبتمبر، مما وضع الأجهزة الأمنية في حالة تأهّب قصوى، لكن العملية كانت تؤجَّل في كل مرة.

لم يكتفِ الأمير بتجنيد الدعم لمشروعه في الدوائر اليمينية المتطرفة القريبة من الجيش، إذ قال مسؤولون مطلعون إنه سعى أيضا للحصول على حلفاء بين زملائه الأرستقراطيين، حيث سافر إلى النمسا وسويسرا لاستقطاب النبلاء الناطقين بالألمانية، والحصول على تبرعات لتمويل مؤامرته.

واشترت مجموعته بالأموال التي جمعها هواتف تعمل بالأقمار الصناعية، للتواصل خارج الشبكة، أثناء الانقلاب المخطط له وبعده، حيث عُثر عليها لاحقًا في النزل أثناء الغارة. كما أجرى هاينريش اتصالات مع دبلوماسيين روس، بمساعدة صاحبة روسية صغيرة السن، أطلق عليها المدعون العامون اسم فيتاليا بي. وسهلت عدة مرات عقد اجتماعات، على الرغم من أن المدعين ليس لديهم دليل على رد روسي على مساعي هاينريش.

يخطط وزير الداخلية الألماني إلى تشديد قوانين الأسلحة في أعقاب الهجوم، ليُصعّب بهذا على المتطرفين الحصول عليها. لا تعرف الحكومة الألمانية متى وكيف تطرّف هاينريش الثالث عشر أول مرة، خاصة أنه عاش في حي "ويستيند" الثري في فرانكفورت، وكان يعمل كسمسار عقاري ومستشار، ولكن وبحلول الوقت الذي بدأ فيه بقضاء عطلات نهاية الأسبوع في باد لوبنشتاين العام الماضي، كان منغمسًا داخل حركة "مواطنو الرايخ". إلا أن ميوله المعادية للسامية واهتمامه بنظريات المؤامرة موثقة جيدًا.

(Getty Images)

وفي كانون الثاني/ يناير 2019، ألقى محاضرة في WorldWebForum في زيورخ، بعنوان: "تجربة صعود وسقوط النخبة ذات الدم الأزرق".

وانتقد في الخطاب الذي استمر 15 دقيقة عائلة روتشيلد، وادعى أن الحرب العالمية الأولى فرضت على القيصر الألماني من قبل المصالح المالية الدولية –وكلاهما ادعاءات معادية للسامية– وأصر على أن ألمانيا الديمقراطية الحديثة كانت مجرّد وهم.

وقال الأمير هاينريش الثالث عشر في خطابه: "منذ استسلام ألمانيا في 8 أيّار/ مايو، لم تعد ذات سيادة"، في إشارة إلى يوم هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، مضيفًا: "وتحولت الدولة لهيكل إداري للحلفاء في ما يسمى بكيان الاقتصاد الموحد، جمهورية ألمانيا الاتحادية، بعبارة أخرى، هيكل تجاري".

ساهمت مثل هذه الخطابات في عزله عن أقاربه من آل رويس، إذ وصفه رئيس عائلة رويس، وابن عمه البعيد، ومثل جميع الورثة الذكور لعرش رويس، يدعى أيضا هاينريش، بأنه "عجوز مشوّش"، وأشار إلى أنه حتى لو كان انقلابه ناجحا، فهو في المرتبة 17 من ورثة العرش.

(Getty Images)

وأضاف أن "هذا يعني أن 16 منا يجب أن يموتوا قبل أن يحين دوره"، لافتا إلى أن ما دفع ابن عمه إلى عالم المؤامرة ربما كان سنوات المعاناة مع المحاكم الألمانية، إذ أمضى هاينريش الثالث عشر بعد إعادة توحيد ألمانيا سنوات من عمره في خوض معارك قانونية، لاستعادة ملكية عزبات العائلة والمساكن التي تم تأميمها في ألمانيا الشرقية الشيوعية السابقة.

وذكر رئيس عائلة رويس أنه "لم يحصل أبدا على أي تعويضات عن الأراضي التي أممت"، على الرغم من أن الأمير تمكن من استعادة بعض أثاث عائلته وقطعها الفنية. يُشار إلى أن الأمير اضطر لشراء النزل السابق ذكره في النهاية، بعد فشله في الحصول عليه عبر المحاكم، وهو مسكن جميل مزين بزخارف على شكل خنازير حجرية منحوتة، ويعلوه برج صغير ذو مظهر قوطي.

يشارك الكثيرون في هذه المدينة النائية في ألمانيا الشرقية، والشيوعية السابقة، إحساس الأمير بالحنين إلى الماضي، وإن كان ذلك إلى نوع مختلف تماما من الماضي. يخبرنا بوركهارت إنه منزعج من عدد المتعاطفين المحليين مع معتقدات مواطني الرايخ الذين أعربوا عن شوقهم إلى أيام ألمانيا الشيوعية، وازدراء الحكومة الألمانية الحالية، التي فقدت مصداقيتها في أعينهم.

(Getty Images)

وقالت صاحبة متجر محلي رفضت الكشف عن اسمها، إنها تحب الأمير، وإنه بدا لها "نبيلا"، ولم تتيقن مما إذا كانت مؤامرة مواطني الرايخ لاستخدام العنف صحيحة أم لا، مُضيفة: "لكنني أعتقد أن الكثير منا هنا لديهم هذا الشعور. يجب أن يتغير شيء ما هنا".

وقد ازدادت هذه المشاعر قوة منذ تفشي الوباء، عندما بدأت نظريات المؤامرة في الانتشار. والآن، في مواجهة أزمة الطاقة والضربة القوية للتضخم، تتزايد المرارة في المناطق الشرقية الأكثر فقرا في ألمانيا، وتصبح النخب الحاكمة هدفا سهلا.

ولا يمتلك السيد بوركهارت أي تقديرات مؤكدة حول عدد الأشخاص في المدينة ممن يؤيدون بشكل عملي حركة مواطني الرايخ، لكن ذلك كان كافيا، كما قال، لجعل المكان مضطربا. وأشار إلى أن "الغارة" الأخيرة كانت بمثابة تصفية حسابات، مضيفا: "انتظرنا طويلًا".


* كاتبتا المادة في The New York Times، هما: إريكا سولومون وكاترين بنهولد.

التعليقات