أزمة الطاقة العالميّة: عاصفة في طور التكوين؟ (3/4)

تكشف ثلاث إخفاقات في السوق على وجه الخصوص عن الحاجة إلى دور أكبر للحكومة/ات في الجهود الرامية إلى تحقيق الهدفين المزدوجين المتمثلين في تعزيز أمن الطاقة والانتقال في الوقت المناسب إلى صافي انبعاثات كربون صفرية

أزمة الطاقة العالميّة: عاصفة في طور التكوين؟ (3/4)

(Getty)

أزمة الطاقة العالميّة: عاصفة في طور التكوين؟ (1/4)

أزمة الطاقة العالميّة: عاصفة في طور التكوين؟ (2/4)

أزمة الطاقة العالميّة: عاصفة في طور التكوين؟ (3/4)

أزمة الطاقة العالميّة: عاصفة في طور التكوين؟ (4/4)

***

عصفت بالعالم الآونة الأخيرة ضربات متتالية أثَّرت على شكل تسيير تجارته وسوق طاقته، مثل صعود القومية العالمية مع اليمين العالمي، ومثل جائحة كوفيد-19، والتي أضرت بسلاسل التوريد، وزادت الضغط عليها بشكل مهول، وأيضًا مثل الحرب الأوكرانية، وتتطلب حالات الطوارئ المتتالية هذه إعادة تقييم للدروس المستفادة من السبعينيات حول التوازن الصحيح بين تدخل الحكومة واستقلالية السوق.

أسفر الاعتماد على قوى السوق عن فوائد هائلة على مدى السنوات الـ 40 الماضية، مما جعل الطاقة بأسعار معقولة أكثر وفي متناول الجميع، وساهم في زيادة الكفاءة الاقتصادية، وفي تعزيز أمن الطاقة من خلال تمكين الأسعار التنافسية لتحويل الإمدادات إلى الأسواق حيث تشتد الحاجة إليها. بيد أن أزمات اليوم تسلط الضوء على بعض إخفاقات السوق التي لا يمكن معالجتها، حسب كاتبي المقالة، إلا بقدر أعظم من التدخل الحكومي.

نظام الطاقة العالمي الجديد: إخفاقات السوق

وتكشف ثلاث إخفاقات في السوق على وجه الخصوص عن الحاجة إلى دور أكبر للحكومة/ات في الجهود الرامية إلى تحقيق الهدفين المزدوجين المتمثلين في تعزيز أمن الطاقة والانتقال في الوقت المناسب إلى صافي انبعاثات كربون صفرية، وتمثل الإخفاق الأول في افتقار القطاع الخاص إلى الحوافز الكافية لبناء البنية الأساسية وغيرها من الأصول التي تحتاج إليها معظم البلدان لضمان أمن الطاقة لديها.

وجاء الإخفاق الثاني في إن قوى السوق وحدها لا تستطيع تشجيع بناء البنية التحتية اللازمة لانتقال أكثر تنظيما في مجال الطاقة، وهي البنية الأساسية التي قد تكون بحكم تعريفها غير صالحة للاستخدام مستقبلًا، أي قبل أن تحقق الشركات الخاصة عائدا كاملا على الاستثمار في بنائها، خصوصًا أن الانتقال سيكون إلى أشكال طاقة مُختلفة، وبالتالي، ستحتاج بنية جديدة.

(Getty)

أما الإخفاق الثالث، فكغن في افتقار الشركات الخاصة والأفراد إلى الحوافز القوية الكافية للحد من الانبعاثات التي يتحمل المجتمع تكاليف إنتاجها، مثل استهلاك الكهرباء العام، وجهود إعادة التدوير والبناء وغيرها التي يُساهم المُجتمع الأوسع في إنتاجها وانبعاثها.

تجلت أولى هذه الإخفاقات بوضوح في ضعف أوروبا أمام تعطل صادرات الطاقة الروسية. وتحتاج البلدان لتحقيق أمن الطاقة إلى مجموعة من الخيارات لشراء الطاقة، وتنوع إمدادات الطاقة، واحتياطيات كافية في حالة الطوارئ، وكلها تتطلب تدخلا حكوميا أكبر.

غالبًا ما تقوم الأسواق الحرة بدورها في ضمان حصول المستهلكين على مجموعة من الخيارات للحصول على الطاقة، وعندما تتعطل الإمدادات في مكان واحد، سواء بسبب كارثة طبيعية أو اضطراب سياسي، تتيح التجارة الحرة في أسواق السلع الأساسية المتكاملة وجيدة الأداء للمشترين إيجاد بدائل وبالتالي تجنب النقص. كانت هذه الممارسة أكثر صعوبة في أوائل السبعينيات، عندما بِيِعَ النفط في عقود طويلة الأجل بدلاً من تداوله عالميًا كسلعة، ولكن كما توضح أزمة الطاقة الأوروبية الحالية، فإن التحول إلى مصادر طاقة بديلة لأغراض سياسية أو اقتصادية أو لأسباب دبلوماسية يكون ممكنًا فقط عندما تكون البنية التحتية، مثل الموانئ والمحطات ذات السعة الزائدة جاهزة ومُعدة لتسمح للمُجتمعات بالتبديل. وبما أن القطاع الخاص يفتقر إلى الحوافز للاستثمار في مثل هذه البنية التحتية لأنه لا يمكن التنبؤ بالاضطرابات، ولن تتحمل الشركات الخاصة التكلفة الكاملة لبناء مثل المرافق عن المُجتمع المتضرر من الاضطرابات آنفة الذكر، ولذلك تحتاج الحكومات إلى التدخل.

نموذج ليتوانيا

تعتبر ليتوانيا خير مثالٍ على التدخل الحكومي المدروس بعناية، حيث عملت منذ ما يقرب من عقد من الزمان، على بناء محطة عائمة للغاز الطبيعي المسال، أطلقت عليها اسم محطة «الاستقلال»[1]، وسمحت المحطة للدولة بتقليل اعتمادها على الغاز الطبيعي الروسي والتفاوض على أسعار أفضل من شركة غازبروم[2]، لكن التشغيل التجاري للمحطة لوحده لم يكن ليبرر تكاليفها، خاصة أنها كانت تعمل غالبًا تحت قدرتها بكثير. ولم يكن ممكنًا تمويل المحطة إلا بفضل ضمانات القروض وغيرها من أشكال المساعدات من الحكومة الليتوانية، بالإضافة إلى القروض من البنك الأوروبي للاستثمار، والواقع أن هذا القرار بالاستثمار في البنية التحتية لأمن الطاقة يؤتي ثماره اليوم، حيث صارت ليتوانيا أول دولة أوروبية تتوقف تماما عن استيراد الغاز الروسي بعد غزو أوكرانيا.

(Getty)

وتتطلع ألمانيا الآن إلى الغاز الطبيعي المسال لتقليل اعتمادها على الغاز الروسي، حيث اعتمدت عليه في السابق لأنه كان أرخص مصدر للغاز الطبيعي متوفرًا أمامها، مما دفعها لزيادة وارداتها تدريجيا منه حتى صار يمثل أكثر من نصف وارادتها من الغاز بحلول عام 2021.

خصصت ألمانيا الآن ولجلب الغاز غير الروسي إلى البلاد، ثلاث مليارات يورو لدعم تطوير أربع محطات عائمة لاستيراد الغاز الطبيعي المسال، وسيتعين على الشركات والمستهلكين دفع سعرًا أعلى مقابل طاقتهم في المستقبل، لكن الحكومة ستكون قد أنشأت البنية التحتية لتمكين قاعدة موردي الغاز الطبيعي الأكثر تنوعًا.

وتستند هذه التحركات التي اتخذتها ليتوانيا وألمانيا إلى الجهود الأخيرة التي بذلتها المفوضية الأوروبية لضمان المزيد من المنافسة في أسواق الغاز وتوفير التمويل المباشر لتحسين خطوط الأنابيب والبنية التحتية للغاز الطبيعي المسال، وهي استثمارات لم يكن لدى الشركات الخاصة وحدها حافز يذكر لتقوم بها، ونتيجة لهذا فإن سوق الغاز الطبيعي في أوروبا تصير اليوم أكثر مرونة مما كانت عليه عندما خفضت روسيا تدفقات الغاز في عام 2009.

تعتبر المخزونات المملوكة للحكومة مثل الاحتياطي البترولي الاستراتيجي للولايات المتحدة أداة أخرى لأمن الطاقة والتي لا يمكن توفيرها من خلال السوق وحدها. ولا تحتفظ العديد من الحكومات في أوروبا بأي احتياطيات، لكنها تطلب من الشركات الحفاظ على مستويات أعلى من المعتاد للمخزون، وعلى الرغم من أن مثل هذه المخزونات يمكن أن تساعد في تخفيف النقص في ظل أزمة ما، إلا أنها تتطلب أيضًا بنية تحتية من غير المرجح أن تبنيها الشركات الخاصة بمفردها.

أفرجت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن كميات هائلة (180 مليون برميل) من النفط من الاحتياطي البترول الاستراتيجي، على سبيل المثال، لكن قدرة الحكومة على تصدير المزيد منه لتهدئة الأسعار العالمية محدودة بسبب نقص الموانئ والمحطات المتاحة. كانت قيود البنية التحتية هذه غير شائعة في الماضي. إلا أن طفرة النفط الصخري[3]، التي جعلت الولايات المتحدة مصدرًا صافيًا للطاقة، أدّت إلى زيادة الطلب بشكل كبير على مساحات الموانئ، والتي يستخدمها القطاع الخاص الآن في الغالب.

ولكي تزيد المخزونات الحكومية من إجمالي الإمدادات العالمية بدلا من مجرد تعويض براميل القطاع الخاص، ثمة حاجة إلى موانئ ومحطات إضافية قد تشهد استخداما محدودا خارج نطاق الطاقة. ونظرًا لوجود القليل من المبررات التجارية للبنية التحتية التي يتم استخدامها من حين لآخر فقط، يجب على الحكومات أن تلعب دورًا في تطويرها، وفقًا لتقرير رئيسي صادر عن وزارة الطاقة الأميركية أوصت به في عام 2015.

وربما تحتاج الحكومات أيضا إلى التدخل في أسواق الطاقة بما يتجاوز أسواق النفط والغاز، فمن المرجح أن تكون المعادن الحيوية اللازمة لانتقال ناجح للطاقة، مثل الليثيوم والنيكل والكوبالت، شحيحة مع تزايد انتشار السيارات الكهربائية ومع انتشار الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والبطاريات وغيرها من أشكال البنية التحتية منخفضة الكربون أو الخالية من الكربون، وبالتالي سيكون الحل عبر التوجه لاستخراجها بكميات أكبر، وقد تجنبت الشركات الأميركية، حتى الآن، إلى حد كبير إنتاج ومعالجة المعادن الحيوية بسبب التكاليف البيئية المرتبطة بذلك وسهولة توافر المصادر الأجنبية، ولكن بعد أن قررت إدارة بايدن أن العديد من هذه المعادن ضرورية للأمن القومي، صارت تقدم الآن حوافز لتعزيز إنتاجها المحلي.

قد تكون هناك حاجة إلى تدخل حكومي إضافي، إذ يشعر المستثمرون من القطاع الخاص بقلق مفهوم حيال تركيز باستثمارات كبيرة قد تستغرق عقدًا أو أكثر لتؤتي ثمارها بينما تُبذل جهود كبيرة لإيجاد بدائل لهذه المعادن أو لتسويق إعادة تدويرها تجاريًا. وربما ينبغي لحكومة الولايات المتحدة أن تفكر في ضمان مثل هذه الأسواق، كما فعلت مع لقاحات كوفيد-19، لضمان إنتاج المعادن المهمة على نطاق أوسع.

لا يجب أن يقتصر التدخل الحكومي لتعزيز أمن الطاقة على الإعانات والإعفاءات الضريبية والحوافز الأخرى، إذ يمكن للدبلوماسية أيضًا أن تساعد في تأمين إمدادات كافية من الطاقة في الأزمات. فعندما واجهت أوروبا نقصا في الغاز الطبيعي في الشتاء الماضي، على سبيل المثال، أرسلت الولايات المتحدة مبعوثين إلى اليابان وكوريا الجنوبية، من بين أماكن أخرى، لإقناعهما بالإفراج عن بعض شحنات الغاز الطبيعي لديها ودفعها للتدفق ناحية أوروبا، كما شجعت الولايات المتحدة قطر على السماح ببيع غازها إلى مشترين أوروبيين، وهي معاملات من أطراف ثالثة غالبا ما كانت محظورة بموجب «شروط الوجهة» في العقود طويلة الأجل، ووقعت قطر وألمانيا اتفاق شراكة في مجال الطاقة في مايو الماضي.


إحالات:

[1] صَممت المحطة شركة هيونداي في كوريا الجنوبية، ووصلت إلى مكانها في ليتوانيا عام 2014. لدى المحطة القدرة على تخزين 170.000 متر مكعب من الغاز، وعلى تغطية احتياجات ليتوانيا من الغاز الطبيعي. بدأت المحطة في العمل في خريف 2014، ووفرت للدولة تنويعًا في واردتها للغاز من روسيا.

[2] شركة مساهمة مفتوحة روسية وتعد أكبر شركة استخراج للغاز الطبيعي وواحدة من أكبر الشركات في العالم، ويعني اسمها «صناعة الغاز»، وتسيطر الحكومة الروسية في الوقت الحالي على أغلب أصول الشركة.

[3] زيت خام عالي الجودة يقع بين طبقات الصخر/الحجر الطبيعي، وتستخرج الشركات هذا النفط عبر تكسير التكوينات الصخرية الحاوية له، وقد خلق استخراج النفط الصخري في أميركا طفرة إنتاج محلي منذ 2014، حيث صار هذا النفط يمثل أكثر من ثلث الإنتاج البري من النفط الخام في الولايات المُتحدة، وبعدها صارت الولايات المتحدة تدريجيًا أكبر منتج للنفط الخام في العالم، وأكبر مستهلك له في الوضع الطبيعي.

التعليقات