"الفردوس": اشتياق الى الايام الدمشقية الجميلة وسط اصرار على الحياة رغم مرارة الحرب

والرجال الأربعة هم تقريبًا الوحيدون الذين تبقوا من زبائن المقهى القدامى الذي كان يصخب في يوم من الأيام بالسوريين من شتى مناحي الحياة.

 

كان مقهى "الفردوس" في دمشق يعج بالحياة في يوم من الأيام قبل أن يترك زبائنه المدينة واحدًا تلو الآخر، حتى لم يتبق سوى القليل من رواده من بينهم شاعر يتبنى فلسفة الاستمتاع بالحياة، راضيًا بكل ما تأتي به رياحها.

وعلى إحدى طاولات المقهى يجلس نفس الزبائن الأربعة كل يوم، يبدأون ليلتهم باحتساء القهوة، وينهونها بشرب العرق المحلي وتدخين سجائر الحمراء التي تصنع في مدينة اللاذقية الساحلية.

والرجال الأربعة هم تقريبًا الوحيدون الذين تبقوا من زبائن المقهى القدامى الذي كان يصخب في يوم من الأيام بالسوريين من شتى مناحي الحياة.

هنا كانت تقام الأمسيات الغنائية، وقراءات الشعر، وأحاديث النميمة، والجدالات الثقافية حول طاولات العشاء وكؤوس النبيذ.

ولكن الجمع بدأ ينقص عندما اختفى الزبائن واحدًا تلو الآخر إذ اعتقل البعض وقتل البعض الآخر، وودع الكثيرون هذا المكان وذكرياته. خفتت موسيقى المقهى شيئًا فشيئًا وأزيلت اللوحات التي زينت الجدران.

لكن الطاولة التي تقف في مدخل باب المقهى الفردوس لا تزال تستقبل زبائنها وهم مخرج مسرحي، وشاعر، وموسيقي، وروائي.

أكمل الروائي خالد خليفة عامه الخمسين عشية رأس السنة. كان في العادة يحتفل بعيد ميلاده مع أصدقائه، يتنقل بين الحفلات حتى الفجر، وينهي جولته على جبل قاسيون حيث يحستي القهوة، ويشاهد طلوع الشمس فوق دمشق.

ولكن لم يكن لدى خليفة سوى ثلاثة أصدقاء هذا العام في يوم مولده، ساروا سويًا في شوارع دمشق الخاوية، أكلوا الشاورما، وعادوا إلى منازلهم قبل أن تدق ساعة منتصف الليل.

يعيش خليفة في برزة التي تقع على جبل قاسيون. وقد وضعت الحكومة خلف بيته أسلحة مدفعية وقاذفات صواريخ تستخدمها لقصف المنطقة السفلى من برزة.

يشاهد خليفة الحرب من شرفة منزله، وعادة ما يقوم فزعًا من سريره على صوت إطلاق صاروخ، وقد رأى ذات ليلة أحد جيرانه يسب الرئيس بشار الأسد صارخًا "كفى قصفًا!"

يقول خليفة، مرتديًا قميصًا أحمر داكن اللون وبنطالًا من الجينز، وشعره رمادي مجعد، بنظرة مريرة في عينيه، "لقد فقد الرجل عقله".

وبينما يشرب كوبًا من العرق يتذكر أيام بدء الثورة في مصر، كان يجلس مع أصدقائه في مقهى الهافانا بوسط دمشق الذي يتجمع فيه المثقفون.

ويقول "في تلك الليلة راهنت أن الثورة ستبدأ في حلب، مسقط رأسي، وأن الأمر سيستغرق منا أسبوعين في سوريا للحصول على حريتنا."

ثم يعلق ضاحكًا بصوت عال "خسرت الرهان ومازلت أخسر!" ويستطرد "لكننا لن نفقد الأمل، سننتصر يومًا ما."

شارك خليفة في العديد من المظاهرات وكتب علنًا عن معارضته لنظام الأسد، ولكن عندما بدا أن الولايات المتحدة ستشن هجومًا ضد سوريا، عارض خليفة الأمر بشدة، وقال لأصدقائه حينها "إن الطغاة يجلبون الغزاة، لكن الغزاة لا يجلبون الحرية أبدًا".

مايزال خالد متمسكًا بإيمانه بقضية الثورة على الرغم من أنها تحولت إلى حرب أودت بحياة أكثر من مئة ألف مدني.

ويقول "ليس لدينا خيار غير الاستمرار في استخدام كل وسائل المقاومة، يجب أن نستعيد حقنا في العيش بكرامة وحرية."

ومثل آلاف السوريين منعت قوات الأمن السورية خليفة من ترك البلاد، لكنه لا يريد أن يعيش خارج سوريا – حتى الآن في ظل حرب تحول البلاد إلى مكان قاتم ومهجور.

يصف خليفة الوضع قائلًا "أمشي في الشوارع في المساء، كل شيء مظلم ولا أرى أحدًا. يجتاحني الحزن على الحياة التي كانت، لقد راح أغلب أصدقائي وهاتفي بالكاد يرن هذه الأيام".

لكن لا يزال خليفة صامدًا ويحاول التمتع بالحياة كلما سنحت الفرصة – يشرب ويأكل ويدخن، ويقول "أعيش كل يوم كما لو أنه الأخير، وأحاول أن أستمتع به مع من تبقى في المدينة ومع ما تبقى من وسائل المتعة".

لكنه أيضًا يحزن باستمرار على القصف والقتل الذي يحدث على بعد شارع من بيته. كما تشهد الأوضاع انقطاعا متكررا للكهرباء، ونقصا في الوقود للطهي والتدفئة، وتضاعفت الأسعار ثلاث مرات، وطوابير السيارات مشهد معتاد في الشوارع.

كما أن الطرقات مغلقة ونقاط التفتيش منتشرة في جميع الأحياء تتحكم في من يعبر أو لا يعبر، واليوم يستغرق المشوار الذي كان يحتاج عشر دقائق نحو ساعتين.

لكن خليفة يشعر أن هذه الصعوبات جمعت الناس سويًا، ويقول "لا يوجد معارضة أو موالين، بل هناك سوريون يعانون من هذه الحرب ويريدون استرداد حياتهم".


لينا سنجاب - مراسلة بي بي سي

 

التعليقات