حركة الاحتجاج الإسرائيلية من منظور اقتصادي سياسي

دراسة قصيرة ترمي إلى مراجعة مصادر وأسباب حركة الاحتجاج الحالية في إسرائيل، وعلاقاتها مع التحولات في السياسات الاقتصادية الإسرائيلي في العقدين الأخيرين

حركة الاحتجاج الإسرائيلية من منظور اقتصادي سياسي
الملخص
 
ترمي هذه الدراسة القصيرة إلى مراجعة مصادر وأسباب حركة الاحتجاج الحالية في إسرائيل، وعلاقاتها مع التحولات في السياسات الاقتصادية الإسرائيلي في العقدين الأخيرين. فقد جاءت حركة الاحتجاج مفاجئة بعض الشيء في المشهد الإسرائيلي الحالي. فمن جهة لم تشكل والأوضاع الاقتصادية عامة ولا الفروق الاقتصادية خاصة، ولا التغيّرات في السياسات الاقتصادية، ولا سياسات الضرائب، سببا لحراك سياسي أو اجتماعي في العقود الثلاث الأخيرة. ومن جهة أخرى فإن هوية وجغرافية الاحتجاج غير تقليدية، كونها جاءت من الطبقات الوسطى، ذات أصول غربية-أشكنازية، ومن المركز الاقتصادي الإسرائيلي نتاج التحولات في السياسات الاقتصادية.
 
ومن الواضح لغاية الآن أن مطالب حركة الاحتجاج تقتصر على إدخال تعديلات على النظام الاقتصادي الإسرائيلي، وإعادة بعض الوظائف الاجتماعية التي تنازلت عنها الدولة ووكلتها لقطاع الخاص. وبكلمات أخرى، تسعى حركة الاحتجاج والحراك الحالي إلى دفع النظام الاقتصادي الاجتماعي إلى نقطة توازن جديدة بين اقتصاد السوق والاقتصاد الاجتماعي تتناسب واحتياجات المجتمع الإسرائيلي والدولة، بل والمشروع الصهيوني. وهي ليس حالة صراع أو تصدع جديدة على المشروع الصهيوني الذي شهد دائما براغماتية في طرحه الاقتصادي، ليستقر على صيغة توازن تعمل في خدمة المشروع الصهيوني وأهدافه.
 
تنطلق هذه المقالة من فرضية أن حركة الاحتجاج الحالية في المجتمع الإسرائيلي تصب في سياق المحاولة لإيجاد نقطة توازن جديدة بين مقتضيات اقتصاد السوق الحرة والاندماج في الاقتصاد العالمي من جهة، وبين الحاجة إلى حد أدنى من التكافل الاجتماعي، عبر توفير خدمات عامة واجتماعية من قبل الدولة، ورفاهية المواطنين من جهة أخرى. بكلمات أخرى، هي حركة للبحث عن توازن بين مفاهيم تضخيم الربح والمصلحة الشخصية وبين نظام يكبح جشع الأسواق لصالح التكافل الاجتماعي. يأتي هذا الحراك بعد توسع النظام الرأسمالي أفقيا وعامودًيا في الاقتصاد والمجتمع الإسرائيليين، بحيث فاق ما يمكن أن تتحمله الطبقات الوسطى. ويندرج في سياق تزايد مؤشرات تآكل مصداقية ومناعة نظام السوق في أعقاب الأزمات المالية العالمية. إذًا، هذه ليست احتجاجات الطبقات الفقيرة ولا معدومي وسائل التأثير على السياسة العامة والرأي العام في دولة إسرائيل. على العكس، فهي احتجاجات أكثر الفئات تأثيراً في المجتمع الإسرائيلي وتقع في المركز الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.
 
البحث عن نقطة توازن بين اقتصاد السوق والاقتصاد الاجتماعي شبه اشتراكي، ليس بحالة جديدة بالنسبة للمشروع الصهيوني، فقد لازمت هذه النقاشات والخلافات والتوازنات المشروع الصهيوني منذ بداياته. وكانت الغلبة فيه للسياسة الاقتصادية الاجتماعية التي تخدم وتحقق أهداف المشروع الصهيوني، دون أن تعكس بالضرورة، حسما أو انتصارا لفكر إيديولوجي معين بالمطلق. بل دلّت على براغماتية السياسة والفكر الاقتصاديين لدى صنّاع القرار.
 
ليس اقتصاد السوق، أو الاقتصاد الحر، غريباً عن الفكر السياسي الصهيوني، ولا هو نهج جديد بالنسبة لدولة إسرائيل. تعود مشاربه التاريخية إلى الحركة التصحيحية (بزعامة زيئف جابوتينسكي) المنافس التاريخي للتيار العمالي، وقبلها، حسب ما يرى البعض، الى كتابات هرتسل.[1] الا أن النجاح التاريخي لحزب العمل الإسرائيلي، في مختلف مراحله، في قيادة المشروع الصهيوني بشكل شبه منفرد لغاية 1976، أدّى إلى اختيار سياسة اقتصادية اجتماعية غلب عليها الطابع الاجتماعي الاشتراكي، دون أن تلغي تماما القطاع الخاص ووظائفه.[2] فقد كان النظام السياسي الاقتصادي أشبه مع يكون بالاشتراكيّ الجماعيّ الاستيطانيّ، من حيث سيطرة الدولة على الموارد الاقتصادية وعلى رأس المال وعلى الصناعة والأراضي، و تحقيق دولة رفاه. ذلك لأن قيادة المشروع الصهيوني أدركت حينها أن دون ذلك لن تتحقق إقامة دولة إسرائيل. وأدركت أيضا الحاجة لأهمية المحافظة على قطاع خاص، ولوكان صغيرا ومحدودا ومتعلقا بموارد الدولة.[3] لكن سيطرة الدولة على الاقتصاد والصناعة والمبادرات والتطوير قلّل، بطبيعة الحال، من أهميّة قواعد السوق الحرّة وعزز الفصل بين السياسة والاقتصاد.[4] وقد لعبت الدّولة دورًا مركزيًا في تطوير وتوجيه وتشجيع فروع محدّدة في الصناعة لدى القطاع الخاص، وبواسطة "اليد الظاهرة".[5]
 
رغم ميول قيادات المشروع الصهيوني لاقتصاد قومي شبه اشتراكي في العقود الأولى من تأسيس دولة إسرائيل، إلا أن سياستها لم تستوعب الكثير من برامج الرفاه. فعلى سبيل المثال، لم يتعاطف صنّاع القرار مع فكرة تطبيق برامج ضمان الدّخل ومخصّصات البطالة. وقد اضطرت الحكومة لتوفير هذه المخصّصات بسبب مساهمتها في تحقيق الأهداف القومية، وبالأساس في فترات الهجرة الجماعيّة (في العقد الأوّل بعد إنشاء الدّولة).[6] ولم تَقُم إسرائيل في سنواتها الأولى بانتهاج سياسة تأمين بطالة شاملة، بل فضلت ارتباط العاطلين عن العمل بمكتب الشؤون الاجتماعيّة الواقع تحت سيطرة حزب مباي، من منطلق الحفاظ على سيطرة المؤسّسة واعتماد المواطنين والمهاجرين على كَرَم حزب السّلطة، مباي (حزب عمّال أرض إسرائيل). جاء التّغيير في سياسات تأمين البطالة في أعقاب الانكماش الاقتصاديّ عامي 6-1967حينما انضمّ عمّال من الطّبقات الوسطى إلى صفوف العاطلين عن العمل. وفي العام 1972 سُنَّ قانون تأمين البطالة، وبدأ تطبيقه يوم 1 يناير عام 1973، بالّتنسيق والتّوافق بين الحكومة والهستدروت (نقابة العمّال) ولجنة تنسيق المنظّمات الاقتصاديّة.[7]
 
استمرت الحكومات الاسرائيلية باتباع نهج سياسة اقتصادية تميل الى الاشتراكية الاجتماعية مع وجود متسع لعمل القطاع الخاص لغاية ثمانينيات القرن المنصرم، حين اقترب الاقتصاد الإسرائيلي من الإفلاس والانهيار. حينها وبسبب الحاجة إلى دعم اقتصادي أمريكي لإنقاذ الاقتصاد الاسرائيلي، اضطرت حكومة الائتلاف الوطني إلى قبول خطة إنقاذ اقتصادي شاملة، بادر اليها رئيس الوزراء حينها شمعون بيريز ووزير المالية يتسحاق مودعي، والتي شكلت بداية لتحوّل أكبر باتجاه نظام السوق الحرة والاقتصاد الليبرالي، لكن دون أن تتنازل الحكومة عن كافة مسؤولياتها الاقتصادية ودون إلغاء دولة الرفاه. منذ ذلك الحين ازدادت وتيرة تحوّل الاقتصاد الإسرائيليّ إلى نمط اقتصاد السوق الرأسماليّ، وما تبدّى عن ذلك من خصخصة للشّركات الحكوميّة، وتنازل الدّولة عن الدّور المركزيّ في إدارة الاقتصاد وتسليمه لقوى السوق ظاهرّيًا. في المقابل، عملت الحكومات الإسرائيلية على تقليص ميزانيّتها، وتقليص العجز المتراكم فيها، وبشكل خاصّ تقليص ميزانيّات الرّفاه ومخصّصات التأمين الاجتماعي الوطنيّ. وشهدت هذه الفترة انكشافا متزايدا للاقتصاد على الأسواق الدوليّة، وعمليّة لبرلة مطّردة في العملة وفي الأسواق.[8]
 
هذا التحوّل في القناعة الإيديولوجيّة لدى صنّاع السياسة تغلغل أيضا في الثّقافة السياسيّة لدى الجمهور الإسرائيلي، بعد أن بات النظام شبه الاشتراكي يشكّل عبئا وعائقا على الطبقات الوسطى المسيطرة آنذاك وعلى تطوّرها.[9] وقد كان للتّغييرات الحاصلة في البيئة الخارجيّة-العالمية بداية التسعينيات، وانتصار الفكر الاقتصاديّ الليبرالي وتسارع عمليّة العولمة، تأثيرا كبيرا على التحوّل في النظام الاقتصادي والسياسية الاقتصادية . فقد تنازلت الدولة عن أجزاء مركزيّة من وظائفها الاقتصادية السابقة، لصالح الشريك الجديد - القطاع الخاصّ والرأسمال الدوليّ، وبقي على عاتق الدولة مسؤوليّة ضمان الظروف المطلوبة لإنجاح المهمّة، بما في ذلك توفير بيئة عمل مريحة وسياسة ماليّة ملائمة.
 
منذ تلك الفترة فصاعدًا حصلت تطورات هامة في ساحة النشاط الاقتصاديّ ومكوّناتهً، حيث بات يُلْحَظ حركة باتّجاه اقتصاد الاستهلاك وجوّ أكثر ودّيّة للمبادرة في حقل الاستثمار. وبدأت الإيديولوجيّا الاقتصاديّة للدولة، بغض النظر عن هوية الحزب الحاكم، تميل أكثر فأكثر إلى المنافسة وإلى قوى السوق،[10] وتتنازل إلى حدّ كبير عن فكرة أن الدولة هي المسؤولة المباشرة عن الرفاه الاقتصاديّ، وهي الفكرة التي حاكت سابقاً إيديولوجيا الاشتراكيّة الصهيونيّة.[11] هذا الانتقال إلى نظام حكم اقتصاديّ نيو-ليبرالي وهيمنة نموذج "نيو ليبرالي/ ما بعد رأسماليّ"،[12] كانت من أبرز ملامحه: تراجع الدّولة عن التدخلّ في السوق، وتقليص الضّرائب المباشرة والميزانيّات الاجتماعيّة، وبيع ممتلكات الدولة للقطاع الخاصّ، وخفض أجور العمالة بغية توفير مناخ ملائم لجذب الاستثمارات الأجنبيّة.[13]
 
تسارعت هذه التحولات أثناء الولاية الأولى لرئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو (1996-1999)، وتفاقمت دون أي رادع حين شغل نتنياهو منصب وزير المالية في حكومة شارون في الفترة ما بين 2003-و2005، وصولا الى ولاية نتنياهو الحالية. ويجدر التوقف هنا على حالة نتنياهو ، الذي تظهر مراجعة فكره الاقتصادي موقفا يبرر، بل ويتفهم، العهد الاشتراكيّ في العقود الأولى لقيام دولة إسرائيل، تبعا لمنطق ضرورة تدخل الدّولة بهدف استيعاب الهجرة لتثبيت أقدام الدّولة.[14] وبالنسبة لنتنياهو لم يعد هناك حاجة كهذه منذ الستينيات، ولذلك على الدّولة أن تتخلّص من هذه الأسلوب ومن الإشراف الحكوميّ القويّ على النشاط الاقتصاديّ، وأن تتخّذ كلّ الإجراءات للتخلص من اشتراكيّة حزب العمل وشعبويّة الليكود، وأن تدخل إسرائيل الى نادي الاقتصاد الحرّ. يمكن تحقيق هذا الأمر، وفق نتنياهو، فقط في حال دخول الدولة في أزمة اقتصاديّة خانقة كتلك التي سادت في دول شرق أوروبّا أو الحكومات الاستبداديّة في جنوب أمريكا. وسنحت الفرصة لنتنياهو في الفترة 2002-2003 حين دخل الاقتصاد الإسرائيلي في أزمة مالية خانقة بسبب الركود الاقتصادي على أثر الانتفاضة الفلسطينية والأزمة الاقتصادية العالمية. حينها احتاجت الحكومة الإسرائيلية الى دعم أمريكي مرة أخرى واحتاجت إلى ضمانات لقروض مصرفية بقيمة 11 مليار دولار. لذلك وضعت الولايات المتحدة، ربما باشارة من وزير المالية نتنياهو نفسه، شروطاً تقضي بادخال تغييرات اضافية على البنى الاقتصادية وتقليص العجز الحكومي والانفاق. كانت تلك فرصة نتنياهو الذهبية لتنفيذ سياسة الاقتصاد الحر الذي سوف يغري يهود العالم بالهجرة إلى إسرائيل في هذه الحقبة.[15]
 
على الرغم من ارتباط سياسات اقتصاد السوق باسم نتنياهو،إلا أنه في الواقع الحزبي الراهن والسياسية الإسرائيلية الحالية لا يوجد فرق بين الأحزاب الكبيرة في المجال الأيديولوجيّ الاقتصاديّ.[16] فالحالة الإسرائيلية هي في عصر تحتفل فيه أيديولوجيا واحدة بنصرها؛ أيديولوجيا الليبراليّة الاقتصادية والتطرف السياسي، أي مرحلة نيو-صهيونية محافظة. بكلمات أخرى، لم يَعُدْ هناك فرقٌ بين اليمين واليسار في الواقع الإسرائيلي، لا في العقيدة الاقتصاديّة-الاجتماعيّة ولا في السياسية.
 
 
من أبرز التغيّرات الاقتصادية والسياسات التي تترجم التحوّل الإيديولوجي على أرض الواقع، والتي حصلت في بداية الألفية الثالثة، كانت في مجال الضرائب وتوزيع الموارد والدخل . نورد منها ما يلي، وفقا لتقرير مركز "إدفا" لدراسة المساواة في إسرائيل:[17]
 
تقليصات في الإنفاق الحكوميّ:
 
1-    الإنفاق الحكوميّ السنوي للفرد، الذي وصل في العام 2001 إلى 32,235 ش.ج.، تراجع في العام 2009 إلى 29,960 ش.ج.. ومن المتوقع ان يزيد الإنفاق قليلا خلال السنتين 2011- 2012، لكنه مع ذلك لن يعود إلى مستواه عام 2001.
2-    الإنفاق الاجتماعيّ السنوي للفرد وصل عام 2001 إلى 12,162 ش.ج.، وتراجع في عام 2009 إلى 11,436 ش.ج.. ومن المتوقع ان يزيد الإنفاق قليلا خلال السنتين 2011- 2012، لكنّه لن يعود إلى مستواه عام 2001.
 
تقليصات في ميزانيات الوزارات الاجتماعية، منها:
 
3-    في ميزانية التعليم، تراجع تمويل ساعات المِلاك (ساعات التدريس في المدارس الابتدائية والثانوية) من 9,639 ش.ج. للطالب عام 2001 إلى 8,162 ش.ج. للطالب عام 2006؛ ومنذ ذلك الحين عادت هذه الميزانية إلى الارتفاع، لكن ليس من شأنها أن تعوّض عن مئات آلاف ساعات التدريس الضائعة.
4-    ميزانية البناء الخاصّة بوزارة التربية والتعليم (ميزانية التطوير)، تقلّصت بنحو النصف من عام 2001 إلى عام 2008. وقد ازدادت الميزانية منذ ذلك الحين، لكنّها لا تزال منخفضة بنحو كبير عمّا كانت عليه عام 2001.
5-    ميزانية التعليم العالي، بحسابها لكلّ طالب، تراجعت من 44,712 ش.ج. عام 2001 إلى 37,241 ش.ج. عام 2008. وقد فقدت مؤسّسات التعليم العالي خلال هذه السنوات مئات مِلاكات المحاضرين. وهي ليست مرشَّحة للعودة في المستقبل المنظور إلى مستواها عام 2001.
6-    ميزانية وزارة الصحة، بحسابها للفرد، وصلت عام 2009 إلى 95% من قيمتها عام 2001.
7-    ميزانية سلّة الصحة، التي تموّل خدمات الصحة التي توفرها صناديق المرضى، كانت أقلّ (في عام 2009) بنحو 8 مليارات ش.ج. ممّا كان يجب أن تكون عليه، لو أجرِي تحديث كامل لأسعار السلّة .
8-    مؤسّسة التأمين الوطنيّ، التي نجحت عام 2001 في تقليص تفشّي الفقر بنسبة 57.2%، نجحت في تقليصه بنسبة 46.7%، فقط في العام 2008،بسبب التخفيضات الكبيرة في مخصصاتها.
 
سياسة خَفْض الضرائب لأصحاب المصالح التجاريةوأصحاب الأجر المرتفع
 
1-    في الفترة الواقعة بين عامي 2003 و2010 انتهج وزير المالية في حينه، بنيامين نتنياهو، خُطة لخَفْض الضرائب، كان المستفيدون الكبار منها أصحاب المداخيل العالية. فمن كان أجره أعلى بضعفين من متوسّط الأجور حصل عام 2010 على إضافة سنوية بمبلغ 22,971 ش.ج.، ومن كان أجره أعلى بستة أضعاف من متوسّط الأجور حصل على إضافة سنوية بمبلغ 74,131 ش.ج.. وفي مقابل ذلك، خسرت خزانة الدولة مبلغًا تراكميًّا قدره 46.2 مليار ش.ج.
2-     تبنّت الحكومة عام 2009 سياسة خفض إضافي للضرائب للسنوات 2011-2016. سيحصل بموجبها الذين يتقاضَون أجرًا أعلى بـ 6 أضعاف من متوسّط الأجور على إضافة سنوية بمبلغ 20,923 ش.ج. في العام 2016. وذلك بالإضافة إلى ما حصلوا عليه بفضل خَفْض الضرائب خلال السنوات 2003-2010. بالمقابل، فان الأجيرين الذين يتقاضون ما يعادل متوسّط الأجور وما دون ذلك – وهم الغالبية الساحقة – لن يحصلوا على شيء.
3-    تقوم الحكومة أيضًا بخَفْض الضرائب على الشركات. يوجد اليوم، فعليًّا، شركات تجني أرباحًا كبيرة لكنّها تدفع ضريبة منخفضة جدًّا. ووفقًا لما نشر في وسائل الإعلام، فإن شركة "طيبع" التي يصل رأسمالها إلى 54 مليار ش.ج.، دفعت في العام 2009 ضريبة بنسبة 4.8% - في حين كانت النسبة المقرّرة في القانون 26%.
4-    أصحاب المداخيل العالية يدفعون أقلّ مما دفعوه في السابق، بينما يدفع المواطن البسيط أكثر – من خلال ضرائب غير مباشَرة وعلى رأسها ضريبة القيمة المضافة. ومن المتوقع أن تكون مداخيل الدولة عام 2011 من الضرائب غير المباشَرة (104.6 مليار ش.ج.) أكبر من مداخيل الدولة من الضرائب المباشَرة (103.5 مليار ش.ج.). ويستدعي ذلك الحديث عن انقلاب تاريخيّ، حيث أنه في العقدين الأخيرين، على الأقلّ، كانت المداخيل من الضرائب المباشَرة دائمًا أعلى من المداخيل من الضرائب غير المباشَرة.
 
معطيات عن انعدام المساواة
 
1-    زاد الدخل القوميّ بين العامين 2000 و2009 بنسبة 33%، لكنّه في حين زادت حصّة العاملين بنسبة 24%، زادت حصّة اصحاب العمل بنسبة 44%.
2-    يحصل ما نسبته 1% في أعلى سلّم الأجور على 8.7% من مجمل مداخيل الاجراء. وتصل النسبة الى 12،8% من مجمل المداخيل اذا أضفنا الى الاجراء أصحاب المهن المستقلة..
3-    في المقابل، شكّل الأجراء الذين يتقاضون ما نسبته 3/2 من متوسّط الأجر009، 26% من مجمل الأجراء في العام 2009، ووصلت حصّتهم من كعكة المداخيل إلى 7.7%.
4-     بين عامي 2000و2009 تراجعت حصّة أربعة الأعشار الأدنى من الأجور من كعكة المداخيل من 17.0% إلى 16.3% على التوالي، في حين ارتفعت حصّة العُشر الأعلى من 28.0% إلى 28.5%.
5-    تضاءل حجم الطبقة الوسطى، بالمقارنة مع عام 1988،من 33.0% من مجمل الأسر إلى 26.6%، وتراجعت حصّتها من كعكة المداخيل من 27.9% إلى 20.5%. وتشمل الطبقة الوسطى جميع الأسر التي يقع مدخولها في الخانة ما بين 75% إلى 125% من متوسّط مداخيل الأسر.
6-    كان معدّل الدخل الشهريّ للأجراء المدنيين الأشكناز(مواليد إسرائيل لأب من مواليد أوروبا أو أمريكا) في العام 2009 أعلى من معدّل الدخل الشهريّ لمجمل الأجراء المدنيين بنسبة 41%؛ في حين وصل معدّل دخل نظرائهم الشرقيين(مواليد إسرائيل لأب من مواليد آسيا أو إفريقيا) إلى 3% فوق المعدّل الشهري؛ أمّا الدخل الشهريّ للأجراء المدنيين العرب فقد شكل فقط ما نسبته 67% من معدّل الدخل الشهري العام.
 
لم تشكّل التغيّرات في السياسات الاقتصادية، ولا الفروق الاقتصادية، ولا سياسات الضرائب، سببا لحراك سياسي أو اجتماعي في السنوات الأخيرة. فمراجعة استطلاعات الرأي العام التي تجرى قبيل كل انتخابات في إسرائيل، من العام 1992 لغاية 2009، توضّح أن الناخب الإسرائيلي يضع الشأن الاقتصادي والاجتماعي في مرتبة ثالثة أو رابعة بعد موضوعات الأمن والسياسات الخارجية وقضايا المفاوضات والعلاقات الداخلية في المجتمع الإسرائيلي. كما أن المجتمع الإسرائيلي لم يمنح في العام 2006 أصواتا كافية لحزب العمل برئاسة عمير بيرتس ليفوز في الانتخابات ويشكل حكومة، رغم أنه وضع القضايا الاقتصادية والاجتماعية على رأس حملته الانتخابية. وأوضحت دراسة حول أنماط التصويت في المجتمع الإسرائيلي في عامي 1996 و 1999 غياب "التصويت الاقتصادي" -الذي يعني معاقبة أو مكافأة الحزب الحاكم بسبب الاوضاع الاقتصادية.[18] القصد أنه لغاية الآن لم تشكِّل المواضيع الاقتصادية أو الاجتماعية قضية سياسية أساسية داخل المجتمع الإسرائيلي.
 
كيف نفسر ذلك؟
 
يمكن تعليل خمول المجتمع الإسرائيلي وعدم احتجاجه على السياسات الاقتصادية الليبرالية، أو عدم تحوّل موضوع الفروقات الاقتصادية إلى مطلب سياسي، بعدة أسباب. أحد هذه الأسباب حصول تغيير في مفاهيم وثقافة المجتمع الإسرائيلي التي باتت تتقبل النظام الليبرالي وتدعم ثقافة السوق والمنافسة وتحقيق الذات، وتتقبل وجود فروقات اقتصادية، على غرار التحوّل الذي حصل لدى القيادات والأحزاب. ووفقا لدانيال غوتوين (2003) وأوري رام (2002) فقد طرأ تغيير عميق في المفاهيم لدى مواطني إسرائيل نحو قبول ثقافة السوق والمنافسة والعدول عن دولة الرفاه. هذا التغيير لا يقتصر على فئة سياسيّة واحدة في المجتمع اليهوديّ، بل تغلغل لدى غالبيّة المواطنين، دون تمييز بين اليمين واليسار. وهو نتاج للواقع الجديد، الذي تبلورَ في أواخر القرن العشرين، نتيجةً لتداخل وتزامن مرحلة العَوْلَمَة وعمليّة السّلام والنّموّ الاقتصاديّ والخَصْخَصَة، مجْتَمِعَةً مع "أُفول القوميّة الرّسميّة ومعها دولة الرّفاه". كذلك يمكن تعليل غياب الحراك بسبب تبؤ الشأن الأمني والعسكري والسياسات الخارجية وعملية المفاوضات في السنوات الأخيرة، مكانة مركزية في الوجدان السياسي للمجتمع الإسرائيلي.
 
بالإضافة إلى الأسباب السابقة، يمكن تفسير الخمول السابق للمجتمع الإسرائيلي وغياب حراك واحتجاج نتيجة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، بعدم وجود فوارق اقتصادية كبيرة داخل المجتمع اليهودي في إسرائيل لغاية السنوات الأخيرة، كون الفروق الكبيرة داخل المجتمع اليهودي هي بين اليهود المتدينين المتزمتين (الحرديم) وباقي المجتمع، وبين المجتمع اليهودي والمجتمع العربي. فعلى سبيل المثال كان مؤشر جيني لقياس عدم المساواة في إسرائيل في العام 1998 قرابة 0.5 وارتفع في عامي 2001 و 2002 الى 0.53 وعاد ليستقر على 0.5 منذ تلك الفترة ولغاية الآن.[19] أي أنه لم يطرأ تحول كبير في عدم المساواة بين عامي 1998 و 2009، مع العلم أن هذا المؤشر يشمل المواطنين العرب في إسرائيل، مما يعني أن معدل عدم المساواة داخل المجتمع اليهودي أقل من ذلك.
 
كذلك تشير معطيات الفقر أن معدل الأسر الفقيرة لدى المجتمع اليهودي لم تتغير تقريبا منذ العام 2000 لغاية الآن وتشكل نحو 15% من الإجمالي، من ضمنها 30% أسر متدينة، تعود أسباب الفقر لديها إلى عوامل ثقافية، مثل عدم المشاركة في أسواق العمل لأسباب دينية، وارتفاع عدد أفراد العائلة، والاعتماد على مخصصات من الدولة. اي أن معدل الفقر لدى المجتمع اليهودي يصل الى 10% فقط، وهي معدلات مقبولة حتى في الدول المتطورة. ضائقة الفقر متواجدة لدى المجتمع الفلسطيني في الداخل وتصل الى 54% من الأسر الفلسطينية وهي بارتفاع مستمر منذ العام 2000.[20] كذلك نجد أن معظم العائلات العربية متواجدة في أدنى سلم أعشار الدخل وتشكل قرابة 30% من أعشار الدخل- العاشر حتى السابع (اي أدنى مراتب)، بينما لا تتعدى 7% من أعشار الدخل المرتفعة (المرتبة الثانية والثالثة) وتغيب عن العشر الأول (وهو أعلى عشر).[21] من جهة أخرى نجد أن الفروقات لدى المجتمع اليهودي ناتجة عن ارتفاع في دخل الأسر المتواجدة في أعلى سلم الدخل وليس عن انخفاضها لدى الاعشار المنخفضة، مما يعني عدم وجود تراجع في دخل معظم الاسر اليهودية، بالتوازي مع ارتفاع الدخل بشكل اكبر لدى أعشار الدخل المرتفعة.
 
 والقصد من هذه المعطيات التوضيح للقارئ أنه لم تكن هناك أسباب اقتصادية قوية للبدء في عملية احتجاج جماعية، وأن الاحتجاجات لا تطال الفئات الفقيرة المسحوقة لأن نسبتها من المجتمع اليهودي قليلة للغاية، بل هي احتجاجات لطبقة وسطى تواجه تآكل في القدرة الشرائية بسبب ارتفاع أسعار السلع والمنتجات وارتفاع أسعار المسكن، وبسبب سياسة الضرائب الحالية. وهو ما يوصلنا إلى السبب التالي لغياب احتجاج في السنوات السابقة، كون الفئات الوسطى الحالية تحوّلت إلى طبقة وسطى بفضل السياسات الاقتصادية الليبرالية وعولمة الاقتصاد الإسرائيلي وتحوّل المركز الإسرائيلي الى مدينة معولمة.
 
سبب إضافي لعدم الاحتجاج يعود إلى طبيعة التصدعات الاقتصادية في المجتمع الإسرائيلي التي كانت تلبس دائما هويّة إثنية، مما وجه رد الفعل السياسي الى جوانب الهويّة. والقصد أن الطبقات في المجتمع الإسرائيلي تتحدد الى حد بعيد وفقا لأصول الأسر اليهودية. فقد كانت الفئات الغنيّة أو المتوسطة من أصول غربية والطبقات الضعيفة أو الفقيرة من أصول شرقية. لذلك كان التصدع الاقتصادي يترجم سياسيا في ميول الفئات الشرقية الفقيرة إلى أحزاب يمينية تشدد على الهويّة اليهودية، وترجمة عدم الرضا الاقتصادي كانت عن طريق التشديد على الانتماء والهوية اليهودية الجامعة لا باحتجاجات على النظام الاقتصادي. ناهيك أن الأحزاب اليمينية التي تعبر عن هوية الفئات الضعيفة تتواجد في الحكم منذ العام 1976 بشكل ثابت تقريبا، لذلك ينتفي مبرر للاحتجاج على أساس التمييز من قبل الفئات الغربية تجاه تلك الشرقية كما كان في سنوات الخمسينيات والسبعينيات. وقد أنتجت معادلة الاصطفاف الطبقي السياسي، تقسيم يمين ويسار سياسي مختلف عن التقسيم التقليدي في المجتمع الإسرائيلي. فنجد أن طبقة العمّال والطبقات الفقيرة ودون المتوسطة كانت تميل للتصويت لحزب الليكود اليميني الأقرب الى الاقتصاد الليبرالي واقتصاد السوق، أي بخلاف مصالحها الاقتصادية. أما الطبقات فوق المتوسطة فكانت تدعم حزب العمل الذي يميل إلى الاقتصاد شبه الاشتراكي وتدخل الدولة ودولة رفاه.
 
لماذا الاحتجاج ألان؟
 
هناك عدد من التفسيرات المنطقية لبدء موجة الاحتجاج الحالية، منها تأثرها بالثورات العربية، وتراكم كمّ من الاحتجاجات الفئوية والمهنية، وارتفاع أسعار المنازل والسلع، واتساع الفجوات. لكن بالإضافة الى الأسباب التقليدية، اعتقد أن أحد مسببات الاحتجاج هو حاجة المجتمع الإسرائيلي للبحث عن نقطة توازن جديدة ما بين نظام السوق الحرة وبين تقسيم أكثر عدلا للدخل وتوفير ظروف معيشة مقبولة، تحافظ على مصالح ومطالب كافة فئات المجتمع اليهودي في إسرائيل.
 
 تأتي هذه الحاجة بسبب اعتقاد الطبقات الوسطى وشرائح أخرى أن توسع الفروقات الاقتصادية وتراجع الدولة عن توفير خدمات اجتماعية بدأ يٌلحق ضررا اقتصاديا بشرائح عديدة من المجتمع وأن استمرار ذلك قد يضرّ بمصالح قومية للمجتمع الإسرائيلي. كذلك ترى تلك الفئات أن تواصل تجذّر النظام الليبرالي واقتصاد السوق قد يضرّ بالاقتصاد الإسرائيلي وبالمصالح القومية، في حال حصلت أزمة اقتصادية ومالية خانقة كما حصل في بعض الدول الأوروبية والولايات المتحدة. لذلك تطالب حركة الاحتجاج بتعديلات على النظام الاقتصادي وليس تغييره. فلا يوجد أي مطلب جدي لتحول النظام الاقتصادي الى اشتراكي أو عودة الدولة للسيطرة على الاقتصاد وإدارته.
 
 تدرك حركة الاحتجاج أن لا عودة الى الوراء، وجل ما تطلبه هو الأخذ بعين الاعتبار مصالح الطبقات الوسطى التي تضررت بعض الشيء في السنوات الأخيرة من حيث القيمة الشرائية للدخل. لذلك تتمحور المطالب حول توسيع امتيازات الطبقات الوسطى، ورفع مستوى المعيشة عن طريق خفض الضرائب والأسعار، خاصة أسعار الشقق والمنازل التي ارتفعت في المركز بشكل غير مسبوق.
من المهم الانتباه أيضا إلى أن هذه الاحتجاجات والمطالبة بترويض توسّع نظام السوق تتزامن مع تآكل وتراجع النظام النيو-ليبرالي العالمي، وتزايد المخاوف من الانهيارات الاقتصادية والمالية المستقبلية. أي أن النظام الليبرالي الحالي بات هشا وموضعا لانتقادات شرعية متزايدة، الأمر الذي سهل إمكانية انتقاد النظام الليبرالي داخل المجتمع الإسرائيلي بعد أن كانت الانتقادات في السابق حكرا على فئات إيديولوجية صغيرة جدا تنتمي إلى أقصى اليسار الفكري أو الماركسي، وينظر اليها عادة كغير واقعية وغير متقبلة للتغيرات التى حصلت في هذا العالم. كما ساهمت الأزمات الاقتصادية العالمية المتلاحقة في تراجع أسواق الأسهم في بورصة تل أبيب، وتحوّلها إلى مصدر للخسارة وعدم الاستقرار للطبقات الوسطى، بعد أن كانت في السنوات الأخيرة مصدر ربح إضافي لها.
 
كذلك نجد أن عددا من كبار شركات الاستثمار في إسرائيل تجد صعوبات في استرجاع أسهم دين طرحتها في الأسواق، وتطالب بخفض ديونها للجمهور بنسبة 50%، الأمر الذي يزيد مخاوف الطبقات الوسطى المستثمرة في أسواق الأسهم وسندات دين القطاع الخاص بشكل مباشر، أو غير مباشر عن طريق صناديق الائتمان والتأمينات وصناديق التقاعد.[22] اذُا مخاطر النظام الليبرالي الإسرائيلي باتت تشكل عبئا على طبقات عديدة في المجتمع الإسرائيلي. تزامن هذه الأعباء وارتفاع أسعار المعيشة وتآكل القيمة الشرائية لدخل الطبقات الوسطى والفقيرة ساهم في اللجوء الى آلية عمل سياسي شعبي مباشر، من خلال النـزول الى الشوارع والتظاهر والاحتجاج، كونها (آلية العمل الشعبي) باتت آلية مقبولة ودارجة منذ بدأت الثورات العربية.
 
 الحالة الراهنة من الاحتجاج في المجتمع الإسرائيلي ما هي الا ذروة لتراكم كمّ كبير من الاحتجاجات الصغيرة أو المتوسطة شهدها المجتمع الإسرائيلي في السنوات الأخيرة، في محاولة غير مجدية لتغيير التوازن القائم في النظام الاقتصادي. ونذكر منها إضرابات نقابة المعلمين وإضراب طلاب الجامعات والعمال الاجتماعيين وموظفي السلطات المحلية والأطباء. في معظم الحالات كان محرك الاحتجاجات والمطالب انتهاج سياسة اقتصادية نيو-ليبرالية، وتراجع الدولة عن امتيازات عديدة كانت توفرها دولة الرفاه، وتراجع العمل المنظم وتراجع قوة نقابات العمال.
 
تعاملت الدولة مع كافة المطالب التي طرحت في السنوات الأخيرة من ضمن أدوات الاقتصاد الليبرالي المحافظ، في محاولات لإضعاف احتكارات الشركات الكبرى، وتحميل القطاع الخاص المزيد من المهام، واستعمال جهاز الضرائب لتشجيع الاستهلاك، مع رفض استعمال أدوات أخرى، مما أوصل الاحتجاجات الصغيرة الفئوية إلى طريق مسدود وإلى حالة غليان كان لا بد أن تترجم بتحركات جماهيرية كبيرة. لكن جغرافية وديمغرافية الاحتجاج جاءت مفاجئة إلى حد بعيد. فلم يتوقع أحد أن تنطلق الحملة من معقل الاقتصاد الإسرائيلي الحديث، تل أبيب. تلك المدينة المعولمة التي تحاكي شركاتها أسواق العالم. ولم يتوقع أحد أن يقود حركة الاحتجاج شباب ينتمي إلى الطبقات الوسطى وما فوق. إنها ليست مدينة الفقر واليأس، إنها مدينة الأحلام وفقا للمفاهيم الإسرائيلية. وهي دلالة أن الفقر لم يحرك هذا الحراك الاجتماعي السياسي.
 
من المرجح أن يجري البحث عن الحلول لهذه الاحتجاجات، في نهاية المطاف، من خلال إدخال تعديلات على جهاز الضرائب، المباشرة وغير المباشرة، وفرض ضريبة قيمة إضافية تدريجية وتخفيضها على السلع الأساسية، وإضافة بعض الخدمات الاجتماعية إلى وظائف الدولة. لكن من غير المتوقع أن تبتعد نقطة التوازن الجديدة عن النظام الليبرالي والسوق الحرة، وجلّ ما يمكن تحقيقه هو ضبط الأسواق وكبح جماح الشركات الكبيرة ونفوذها. ومن غير المتوقع أن تحدث هذه الاحتجاجات تغيّرات عميقة في المشهد السياسي الإسرائيلي. فكما أنتجت الحاجة لإنجاح المشروع الصهيوني في بدايته نموذجا اقتصاديا تزاوجت فيه سيطرة الدولة على الاقتصاد مع القطاع الخاص وكما تزاوج منذ الثمانينيات اقتصاد السوق وبقايا دولة الرفاه، كذلك سيعمل المجتمع الإسرائيلي على إيجاد نقطة توازن جديدة ترضي أكبر عدد من الأطراف وتحافظ على الأهداف القومية لدولة إسرائيل، وتتناسب مع النظام الاقتصادي العالمي بصيغته المتغيرة.
 
إنه من غير المتوقع أن تقوم حركات الاحتجاج بتبديل وجهتها في الفصل بين المطالب الاقتصادية الاجتماعية وبين النظام السياسي في إسرائيل وبين الاحتلال. ولا يعود سبب هذا الفصل فقط لإدراك قيادات المحتجين أن إقحام السياسة في الحدث سوف يهدد الائتلافات المحلية التي أقيمت في كل بلدة، بل لأن معظم الفئات المشاركة في الاحتجاج، وليس بالضرورة كافة القيادات، لا ترى في موضوع الاحتلال والاستيطان سببا للضائقة الاقتصادية أو لارتفاع أسعار المنازل في المركز، أو لتراجع القيمة الشرائية للدخل أو للتراجع العام في الأوضاع الاقتصادية.
 
كذلك يمكن القول إن نجاح الاحتجاجات، لغاية الآن، يعود إلى وجود إجماع سياسي نيو-صهيوني في المجتمع الإسرائيلي، يقوم على أهمية الحفاظ على يهودية الدولة وعلى الوحدة الداخلية للمجتمع الإسرائيلي، وعلى اتفاق واسع حول شروط المفاوضات مع السلطة الفلسطينية، وكذلك قبول واسع (على الأقل لغاية بدء الاحتجاجات) للسياسات الاقتصادية النيو-ليبرالية. ففي الواقع الحالي للمجتمع الإسرائيلي نجد أن التصدع أو الاختلاف السياسي في أدنى حالاته. ولولا ذلك لما كان من الممكن إنتاج توافق حول مطالب اقتصادية اجتماعية. بكلمات أخرى، هذا الاحتجاج جاء بسبب انتصار ثقافة نيو- صهيونية محافظة، وقد نجح في خلق جو عام داعم، دون أن يحقق مطالبه لغاية الان، لأنه لا ينفي هذه الثقافة ولا يعرض بديلا لها، بل يطالب بترويضها بعض الشيء كسقف أعلى.
 
خاتمة
 
موجة الاحتجاجات الاقتصادية الاجتماعية في إسرائيل، جاءت بعد سنوات من تغلغل ثقافة اقتصادية نيو- ليبرالية لدى معظم النخب السياسية والأحزاب، ولدى غالبيّة المواطنين، دون تمييز بين اليمين واليسار. وهي لا تعكس بداية شرخ أو تصدع داخل المجتمع الإسرائيلي، إنما محاولة لتصحيح مسار تطور الاقتصاد الليبرالي ليتناسب مع احتياجات المجتمع الإسرائيلي. أي إدخال تعديلات على النظام الاقتصادي القائم لا تغير قواعد اللعبة القائمة بشكل كامل، ترويض القائم. كما أنها تبتعد لغاية الآن عن ربط المطالب الاجتماعية وإعادة الحياة لدولة الرفاه مع مطالب سياسية ومع قضايا الاحتلال أو تهويد الجليل والنقب. إذا هي احتجاجات اقتصادية اجتماعية نقية، لغاية الآن، تطال أوضاع الطبقات الوسطى وما تبقى من شرائح ضعيفة وفقيرة في إسرائيل، تحظى على دعم فئات واسعة من المجتمع الإسرائيلي.
 
أما من حيث التأثير السياسي للاحتجاجات، في الحالة الإسرائيلية، وبعد أن كانت للاحتجاجات الاقتصادية في الماضي هوية اثنية ترجمت سياسية بدعم أحزاب اليمين القومي، يمكن التكهن أن تنجح المنظومة السياسية والحزبية القائمة باحتواء الاحتجاج الحالي، من خلال تعديل طرحها الاقتصادي الاجتماعي وتنفيذ تغييرات في السياسيات الحالية لتستجيب لقسم من مطالب الاحتجاج، خاصة التي لا تؤدي إلى إخلال التوازن القائم في الاقتصاد. منها مثلا تعديلات على جهاز الضرائب، وضريبة القيمة المضافة، الإعلان عن تسهيلات في مجال الإسكان ودعم مشاريع بناء جديدة، خاصة في الجليل والنقب. لذلك من غير المتوقع أن تغير موجة الاحتجاج الحالية التوازنات السياسية والحزبية في المشهد الإسرائيلي، ومن غير المتوقع أن تتبلور المطالب الاقتصادية من خلال حزب جديد. فالحديث لا يدور عن تبني مواقف متناقضة على أطراف محور الفكر الاقتصادي، يميمي ليبرالي مقابل يساري اجتماعي. المنظومة الحزبية القائمة ستجد نقطة التوازن، كما فعل المشروع الصهيوني منذ بداياته، بين الطرح الاجتماعي والليبرالي، بين جشع الأسواق والحاجة لوظائف اقتصادية اجتماعية للدولة وتوفير ظروف حياة مقبولة تحافظ على بقاء المجموعة اليهودية في إسرائيل.


[1] حزوني، يورام، 1997. "مائة عام على دولة اليهود"، فصلية تخيلت، العدد 13، ربيع 1997؛ درور، يحزقيل، 1997. تجديد الصهيونية. المكتبة الصهيونية، الهستدروت الصهيونية العالمية، القدس.
[2] فضل، النقيب، 1995. الاقتصاد الإسرائيلي في إطار المشروع الصهيوني. بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية؛ شاليف، ميخائيل، 2004. "هل حولت العولمة واللبرلة الاقتصاد السياسي الإسرائيلي إلى اقتصاد طبيعي"، لدى، داني فيلك واوري رام (محرِّران)، سلطة رأس المال: المجتمع الإسرائيلي في عصر العولمة. القدس: فان لير: 115-84.
[3]دافيد ليفي فاؤور،2001. اليد الظاهرة: سياسية التصنيع في إسرائيل. القدس: مؤسسة يد بن يتسحاك (عبري).Ahroni, Y. 1998. "The changing political economy of Israel". Annals Of the American Academy Of Political and Social Science, JAN, 127-146.
[4]Ahroni, Y. 1998.
[5]دافيد ليفي فاؤور، اليد الظاهرة، 2001.
 
[6] فرنكل، عامي، 2001. مخصصات البطالة في إسرائيل: وجهات وتتغيرات في القوانين: 1985-2000. تل أبيب: مركز ادفا.
[7]المصدر السابق.
[8] رام، اوري، "الفجوات الجديدة: رأس مال عالمي، ما بعد النظام الفوردستي، وعدم المساواة"، لدى، داني فيلك واوري رام (محرِّران)، سلطة رأس المال: المجتمع الإسرائيلي في عصر العولمة. القدس: فان لير:34-16. فيلك، داني، 2004. "إسرائيل موديل 2000"، لدى، داني فيلك واوري رام: 56-34.شاليف، ميخائيل، 2004. "هل حولت العولمة واللبرلة الاقتصاد السياسي الإسرائيلي إلى اقتصاد طبيعي"، لدى، داني فيلك واوري رام: 115-84.
[9] دانئيل، غوتوين، 2003. "ما بعد الصهيونية، الخصخصة واليسار الاجتماعي"، لدى طوبيا فيرليغر (محرر)، جواب إلى زميل ما بعد الصهيونية، يديعوت احرونوت.
[10] أشير أريان 1997. جمهورية إسرائيل الثانية، حيفا، زمورا بيتان.
[11]Plessner, Y. (1994). The political economy of Israel: From ideology to stagnation.New York: State University of New York press.
[12]فيلك، داني، 2004؛ شاليف، ميخائيل، 2004.
[13] شمعون، بيخلر، ويائير نيتسان، 2001. " رأس المال الإسرائيلي والعولمة"، لدى بنيامين كوهن، العودة الى ماركس، تل ابيب: عام عوفيد: 290-233.
 
[14]بنيامين، نتياهو، 1995. مكان تحت الشمس. تل ابيب: مسخال (عبري).
[15] المصدر السابق.
[16] دافيد، اوحانا، 2003. "مواجهة العولمة ورأس المال الوحشي"، مجلة ميفني، ابريل: 18-22.
[17] "الشعب يريد عدالة اجتماعية"، اصدار مركز ادفا (معلومات حول العدالة والمساواة في إسرائيل) (باللغة العربية)، 7.8.2011: www.adva.org/default.asp?pageid=1003&itmid=657
 
 
[18]امطانس شحادة، "التصويت الاقتصادي لدى المجتمع اليهودي في إسرائيل"، رسالة ماجستير، جامعة حيفا، 2005.
[19]تقرير "حالة الدولة الاقتصادي والاجتماعي والسياسيات العامة" ، مركز طائوب 2010 (عبري).
[20]تقارير الفقر في إسرائيل وتوزيع الدخل، مؤسسة التأمين الوطني.
[21]استطلاعات الدخل، مؤسسة التأمين الوطني.
[22]عيريت افيشار، "مؤسسات الاستثمار تخرج من سوق سندات دين القطاع الخاص"، جريدة غلوبس الاقتصادية، 17.7.2011:
www.globes.co.il/news/article.aspx?did=1000665047

التعليقات