31/10/2010 - 11:02

البهائيون: يتحدّثون قليلا ويفعلون كثيرًا!

-

البهائيون: يتحدّثون قليلا ويفعلون كثيرًا!
تراهم مثل الطيور أسرابًا أسرابًا، يأتون من حيث لا ندري، يشترون بيوتًا وعقارات ويقلبون آيات المدينة رأسًا على عقب؛ الحدائق للبهائيين والعمارات للبهائيين ومبانٍ ضخمة جميلة وعريقة ومحصّنة أيضا للبهائيين، حتى أصبحت حيفا معقلاً لهم. لماذا هم غامضون إلى هذا الحد؟!!

يتحدث الناس (بمن فيهم أنا) في مناسبات متقاربة عن أصلهم وفصلهم، والكل يتفق على رأي شبه مطلق وهو أنهم أغنياء القوم في المدينة؛ ولكن قليلين من يعرفون حقيقة هذه الجماعة. وأنا، وبما أننّي من بين هؤلاء الناس المتسائلين إحتلني ذلك الدافع الشخصي (والعام أيضًا) لأن أطرق باب تلك المملكة المحصنّة وأطلب لقاء الكبير منهم، وتمّت الموافقة على لقاء السكرتير العام للبهائيين في العالم: إسمه، د. ألبرت لينكولن، الشخص التنفيذي الأول في المؤسسة البهائية العالمية، وكان موعدنا الأحد الماضي.

إندفعت بكل ما أوتيت من قوة روحانية متجهًا نحو ذلك المكتب المنشود في شارع أيران الهادئ الذي أمّر من أمامه مرة أو مرتين في الاسبوع، لكنّي أجهل –وكم أجهل- ما يجري في كواليسه. وصلت إلى هناك ودخلت المبنى (بعد الانتركوم طبعًا)، وكان الاستقبال رشيقًا ومحترمًا؛ فهذه المرة الاولى التي أدخل فيها إلى مكتب شخص مسؤول في دولتي العزيزة من دون أن أفتش، ولولا الخجل لطلبت من المستقبلين: "فتشوني".

أنا الآن على بعد مترين من الحقيقة، حقيقة البهائيين، هنا، وتحديدًا هنا، سأغلق الدائرة التي فتحت منذ الطفولة.

جميل ذلك المكتب، لا بل كلمة جميل سخيفة إذا ما قارنّاها مع الواقع. الحديث هنا عن بيت حيفاوي قديم إشتراه البهائيون ورمّمه البهائيون وصممّه البهائيون. تصميمه يشبه تصميم القصور العباسية القديمة التي قرأنا عنها وشاهدنا صورها في بعض الكتب التاريخية؛ السقف عالٍ وأعمدة رخام تكسر الفراغ الكبير والبلاط بأشكال هندسية صمّمها البهائيون طبعًا.

لكل حركة في ذلك المكان صداها، وحتى لو تحدثت بصوت خافت وكنت مخالفًا لطبعك الجّهور لشعرت بأنّ الصدى لصوتك في كل مكان، فتجبر نفسك وتقمعها وتتحدث بصوت منخفض أكثر، وطبعًا تتحدث مبتسمًا ابتسامة من الجو العام أيضًا، فالكل في ذلك المكتب يبتسم.

بعد انتطار دقيقتين خرج د. لينكولن للقائي، مبتسمًا هو أيضًا مثل الجميع، وقادني إلى مكتبه. وفي إثناء الإستقبال وما قبله وبعده فتشت جاهدًا كي أجد شيئًا ليس في مكانه أو غبارًا على إحدى النوافذ أو خيوطًا للعنكبوت في إحدى الزوايا ولكن من دون فائدة. كان المكتب مرتبًا ونظيفًا بلا حدود، كل شيء في مكانه.

شربنا قهوتنا وكانت بداية اللقاء مشحونة بحب الاستطلاع على مدار سنوات مضت، كنت سأصرخ: "من أنتم؟" لكن التريّث كان حليفي؛ تريّثت وابتسمت إلى حين أعلنت بداية اللقاء الرسمية.

ولد د. ألبرت لينكولين لعائلة مسيحية في ولاية بوسطن الامريكية عام 1945، ودرس موضوع علم الاجتماع والمحاماة في جامعة "هارفرد" وتعرف من خلال دراسته على شبّان من ديانات مختلفة، كان من بينهم بهائيون.

سافر د. ألبرت إلى باريس وعمل في مجال القانون ومع بداية السبعينات سافر مع عائلته إلى جنوب أفريقيا وعاش هناك فترة عشرين عامًا ووصل إلى حيفا في العام 1993، ومنذ ذلك الحين وهو يشغل منصب السكرتير العام للبهائيين في العالم. وإذا سألتم عن المعاش الذي يتقاضاه د. ألبرت في وظيفته فالإجابة: لا شيء، فهو متطوع عادي.

نحن كلنا منبهرون من الحدائق المعلقة ومن المباني الضخمة ومن المؤسسات الروحانية التي خلقتموها في حيفا؛ أنتم تبنون وتبنون وفي داخلنا إصرار يشدنّا لفهمكم ولكنكم منطوون على أنفسكم، من أنتم؟ ولماذا الإنطواء، سألت د. ألبرت فأجاب -"أنا أعتقد أنّ الاجابة على هذا السؤال ليست سهلة، ولكن أنا أؤكد أن ديننا ليس سريّا ونحن لا نقصد العيش داخل بوتقة معينة أو مستنقع، كلّ ما في الأمر أنّ القضية التي تتحدث عنها نبعت من التاريخ نفسه وليست من الدين؛ يجب أن نعلم أن عدد المتطوعين البهائيين الموجوين هنا في حيفا هو 700 شخص من 75 دولة في العالم: من آسيا ومن الهند ومن استراليا ونيوزلاندا وأمريكا الجنوبية. وقسم كبير جدًا من هؤلاء المتطوعين جاؤوا لفترة محددة فقط ولا يفهمون اللغتين العربية والعبرية. بالمقابل، توجد عائلات تأتي وتبعث أبناءها إلى المدارس العربية والعبرية في المدينة. وفي عودة لسؤالك، فإنّ هؤلاء المتطوعين لا يختلقون الضجة ولا يثيرون الجلبة من حولهم، وهذا أخلاقي. وقال بهاء الله (مؤسس الدين البهائي): "تحدث القليل وافعل الكثير"- هذا مهم جدًا."

الغريب في ذلك الامر أنّ لا بهائيين في بلد البهائيين في حيفا؛ هذا ما قاله لنا أيضًا د. ألبرت بعدما سألته عن السبب: "نعم هذا صحيح، ففي العام 1868 طلب بهاء الله من تلاميذه عدم نشر الدين البهائي هنا في هذه البقعة."

- لكن ما هي الاسباب؟ فبعد هذه السنوات كلها ألم تتغير وجهة النظر؟

لينكولن: "لم يشرح بهاء الله كل الاسباب، لكن هذا كان مفهومًا، واستمر كل من عباس أفندي وشوقي أفندي بهذا النهج. وبعد قيام "المجلس العالي بيت الصدق" للبهائيين، أكمل الجميع تلك الطريق."

وظيفة السكرتير العام للبهائيين هي الاولى من بين الوظائف التنفيذية في المؤسسة البهائية العالمية. أما على رأس الهرم فيقع المجلس الأعلى للبهائيين المؤلف من تسعة أشخاص، مقرهم في حيفا أيضًا.
يتم إنتخاب المجلس العام مرة كل خمس سنوات من خلال إجتماع عام يحضره خمسة مندوبين عن كل دولة من 183 دولة في العالم، يجتمعون في حيفا، وهم أيضا أعضاء المجلس العام في دولتهم. وعن البهائي في حيفا قال د. لينكولن: "الحديث هنا عن متطوعين يستقرون هنا لفترة محددة تتراوح بين السنة والسنة ونصف السنة. يتطوع هؤلاء في ترتيب الحدائق وفي الحراسة والتنظيف والاتصالات والحواسيب، ويعملون خمسة أيام ونصف اليوم أسبوعيًا، من الاحد حتى ظهيرة الجمعة، بحسب برنامج البلاد، ولا يتقاضون معاشًا شهريًا بل يعملون تطوعًا، ونحن نوفر لهم المسكن والمصروف اليومي. وبالاضافة الى المتطوعين هناك 200 عامل محلي يتقاضون معاشًا شهريًا."

نشرت صحيفة "كول بو" الحيفاوية قبل أربعة اشهر تقريبًا تقريرًا رئيسيًا وموسعًا شمل شهادات العمال المحليين (غالبيتهم من العرب) يعملون كأجيرين في المؤسسة البهائية. لقد وصف هؤلاء العمال معاملة رؤساء البهائيين بأنها قاسية جدًا قائلين: "البهائيون يأكلون في غرف للطعام ونحن لا"، ومنهم من اشتكى من أنّ المعاش غير كاف مقابل ما نقوم به."

لقد كان ذلك التقرير بمثابة الشرارة التي عادت وأشعلت التساؤلات الملّحة في كل ما يتعلق بالبهائيين، ودار نقاش لا يُستهان به في حيفا عن أصل وفصل البهائيين. فإذا كان جمال الحدائق على حساب انتهاك حقوق العاملين فلا فائدة من هذا الجمال. لقد كانت تلك النقطة مهمة لنا وعلّق د. لينكولن على هذه القضية بقوله: "لقد وقف عامل أو اثنان من وراء هذا التقرير. كانت هناك شكاوى على المعاش، ونحن طبعًا لن نترك الامور على حالها وسنفحص هذه القضية من أساسها، وإذا شعر العاملون بالتفرقة فهذا شيء لا يمكن المرور عليه مرّ الكرام، وليس من المفروض أن تكون حالة مثل هذه. يتوجب علينا إعادة النظر في كل هذه القضية ونحن مستعدون دائمًا لتحسين هذه الوضعية، ثمة مكان لتحسين هذه الوضعية."

لم يحاول د. لينكولن الانكار أو التخفي من وراء ادعاءات مناقضة. لقد اعترف خلافًا لما هو متبع في المؤسسات الاسرائيلية. كنت أعتقد أنّ النقاش سيكون طويلاً، لكن الاعتراف بالذنب فضيلة.

لا نقاش على الجمال، ولكن عندما يصبح الجمال "شِم ولا تذوق" تختلف عندها المعايير الجمالية، فمن حق الإنسان أن يتمتع بجمال الطبيعة.

كاميرات على المداخل وتعيين موعد مسبق وحراس في كل شبر وبوابات حديدية سميكة هي قوانين الطبيعة عند البهائيين. ود. لينكولن يسرع لصدّ هجومي: "نحن نعمل كل ما بوسعنا من أجل صيانة الحدائق وجمالها وهذا ليس سهلاً، ولكن هناك خمسة مداخل للحدائق، منها مدخلان مفتوحان لسبعة أيام في الاسبوع؛ يقع الاول على زاوية شارع "بن غوريون" والثاني في شارع "يافيه نوف"؛ نحن نحاول جاهدين إعطاء مساحة كبيرة للزائرين، فنحن نستقبل في كل اسبوع عشرات الالوف ولا يمكن أن تكون الحدائق مغلقة كما تتدعي. بالمقابل نحن لا نستطيع فتح عشرة مداخل والموضوع متعلق بالصيانة والأمن. نحن بحاجة الى انتباه كبير كذلك لإعطاء الزائرين حقهم. يهمّنا كثيرًا المحافظة على الجودة."

لو طلبت الحركة الاسلامية أن تبني مقدسات في حيفا هل ستدعمها البلدية؟ الإجابة كلا. ولا البلدية ولا أي مؤسسة إسرائيلية! ولكن البهائيين مختلفون وينالون ما يبتغونه: يشترون الأراضي والعقارات ومتطوعوهم يقيمون في حيفا لأكثر من عام، والاقامة مُوفرة لهم أيضًا. وقد استطاع البهائيون إحباط مخطط للبلدية لبناء جسر يصل بين شارع "هتسلبانيم" (الصليبيين) والمنطقة المقابلة. وقد سعى البهائيون إلى شراء الاراضي وتفعيل ضغوطات على البلدية لإحباط هذا المخطط، كونه يقلل من جودة المنظر للحدائق. ما هو السبب الذي يجعل المؤسسة الاسرائيلية تفتح أبوابها لهم؟ هل تعتبر إسرائيل البهائيين مبعوثين سياسيين ينالون كلَّ ما أرادوا في إسرائيل، إذا ما حافظوا على صمتهم؟ شاهدون على العصر من دون أن يتدخلوا قط بما يجري، وما يجري ليس قليلاً: صراعات تلاحق صراعات ونزاعات في نزاعات، لكنهم في مكانهم لا يتدخلون.

"نحن لا نرى أنفسنا مبعوثين سياسيين"، يقول د. لينكولن ويضيف: "نحن نعيش داخل البيئة ونشعر بالمعاناة وكل ما يجري هنا. نحن أيضًا عانينا في الفترة الاخيرة بعدما ضرب "السونامي" منطقة شرق آسيا لأن غالبية المتطوعين يسكنون هناك، لقد كان صعبًا. أما بالنسبة للقضية التي تتحدث عنها فنحن لا نرى أنّ تدخلنا من الممكن أن يجدي أو يفيد في خضم الأزمات."

- من قال؟ فمن الممكن جدًا أن يساعد تدخلكم. فإذا قمتم أنتم وتدخلتم فمن المتوقع أن يسمع الطرفان رأيكم كونكم صامتين طيلة الوقت، ومن الممكن أن يكون لحديثكم وقع عليهما وبالتالي تساهمون في رسم واقع جديد؟

د. لينكولن: "أنا أعتقد أن اللحظة ستأتي ونتدخل وهذا وارد؛ إن أردت أستطيع أن أريك اقتباسًا لعباس أفندي، وهو حفيد بهاء الله، الذي قال: "إن البهائيين يرون بالعرب واليهود أخوة وينتظرون الفرصة للمساعدة"- وستأتي اللحظة ونساعد. مشروعنا ليس مقتصرًا على الصمت، فنحن نحاول أيضًا من خلال مشروع الحدائق أن نوصّل رسالة لإحلال السلام والوحدة. نحن نعمل مع مرشدين من كل الفئات الذين يقومون بإرشاد الزائرين ويساهمون أيضًا في تطبيق رسالتنا."

- هل صحيح أنّ كل بهائي يتبرع بدولار يوميًا؟

د. لينكولن: "هذا ليس صحيحًا وقد سمعت هذا كثيرًا. فـ 75 في المائة من البهائيين يسكنون في دول العالم الثالث: في الهند وأفريقيا وأمريكا الجنوبية، وهم متواضعون جدًا من ناحية مادية. أحيانًا يتبرع البهائي بمبلغ لا يكفي لنا لشراء طابع بريدي لإرسال الوصل إلى دولته، ولكن على الرغم من هذا نرسل له الوصل".

- ولكن كيف استطعتم أن تبنوا هذه المباني والحدائق؟

د. لينكولن: "75 في المائة من البهائيين هم متواضعون من ناحية مادية، لكنهم يتبرعون بما يستطيعون وهم بمثابة نموذج للبهائيين الآخرين (الأغنياء). عندما بدأنا العمل على بناء الحدائق راودتنا شكوك كثيرة حول إمكانية إكمال المشروع، لقد توقعنا مبلغًا وكلفّنا المشروع عشرة أضعاف ما توقعنا".

- كم كلّف المشروع؟

د. لينكولن: "250 مليون دولار، ونحن توقعنا 25 مليون دولار".

- هل تدعمكم مؤسسات أخرى؟

د. لينكولن: "نحن لا نستقبل دعمًا ولا من أي مؤسسة، ولا نقبل الدعم إلا من البهائيين".

- هل صحيح أنكم تقتفون أثر أشخاص أغنياء في دول مختلفة وتقنعونهم بأن يصبحوا بهائيين؟

د. لينكولن: "هذا ليس صحيحًا وشرحت لك كيف نتعامل نحن مع قضية الأموال".

- متى فكرتم ببناء الحدائق؟

د. لينكولن: "بدأت الفكرة في العام 1910، أي قبل قيام إسرائيل. لقد وقف عباس أفندي (حفيد بهاء الله) على رأس الحدائق وشرح كل التخطيط آنذاك".

- أنتم لستم مقربين من العرب في البلاد وقليلون من يتحدثون العربية منكم، وبالمقابل عدد منكم يتحدث العبرية بطلاقة؟

د. لينكولن: "العبرية مطلوبة هنا للتعامل مع المؤسسات، أما بالنسبة للعربية فهي أساسية بالنسبة لنا، وقسم كبير من ديننا كُتب بالعربية. إبني يتعلم اللغة العربية وأنا أيضًا أريد أن أتعلم العربية لأنها مهمة".

- ما هي مكانة عكا بالنسبة لكم؟

د. لينكولن: "من ناحية روحانية عكا في المرتبة الاولى".

- لماذا أنتم في حيفا إذًا؟

د. لينكولن: "البهائيون يرون أنّ مدينتي عكا وحيفا توأمان. حيفا للحياة العملية وعكا للروحانيات. ولكن الإستثمار في حيفا مهم من أجل التقدم في عكا".

- هل لديكم تخطيطات للبناء في عكا؟

د. لينكولن: "نعم هناك مشروع؛ لا أود الدخول إلى التفاصيل، ولكن سنبدأ بمشاريع متواضعة ومن بعدها سيكون مشرع كبير هناك؛ سيكون أكبر من الذي في حيفا".

- هل أستطيع أن أصبح بهائيًا؟

د. لينكولن: "لا لا، حتى لو كنت مقتنعًا. ولكن ما تشعر في القلب لا يمكن لأحد أن يجتثه منك، ولكن تحدثنا عن هذه النقطة وقلنا إنه لا توجد هنا فئة بهائية من الممكن أن تنضم إليها".

- هل كان ذلك شرطًا من دولة إسرائيل؟

د. لينكولن: "لا، لم يكن أبدًا".

(عن "المدينة")

التعليقات