31/10/2010 - 11:02

فصل من كتاب" من يهودية الدولة حتى شارون" ل د. عزمي بشارة

-

فصل من كتاب
لا يعكس التقلب في صورة السياسي من تضخيم إلى تحطيم خاصية الإعلام “الإسرائيلي”، الذي يبني تمثالاً لفلان ثم يحطمه قبل أن يجف طينه فحسب، وإنما يعكس أيضاً نزعات متصارعة فعلاً في المزاج السياسي “الإسرائيلي” بين تمجيد ماضي رجل السياسة العسكري بدون قيد أو شرط، وبين المطالبة بمؤهلات مدنية تتجاوز ذلك من أجل إدارة المجتمع والدولة، بين الحنين إلى فردوس الاستيطان الزراعي العسكرتاري المفقود والذي يذكر به الجنرالات ذوو الصوت الأجش والأيدي الخشنة، وبين متطلبات الحياة المدنية المركبة.
وهكذا لم يمنع ذم عقلية الآمر العسكري لدى باراك من انتخاب جنرال آخر مغامر متقاعد لرئاسة الحكومة “الإسرائيلية”. وتختلط في صورة شارون الشعبية المتخيلة صفات مطلوبة في مرحلة الصدام مع العرب، مثل: الحزم في التعامل مع العرب بالقوة إذا لزم، والماضي العسكري المغامر المختلط في الخيال الشعبي بصورة بطل هوليوودي او “شيرف” يحارب الأشرار بطريقته دون أن يلتزم بالتعليمات والقوانين الشكلية إذا تطلب الأمر ذلك، والاستخفاف بالبيروقراطية الحكومية وتنفيذ المهام المطلوبة مباشرة ك “البلدوزر”. هكذا عندما كان شارون وزيراً للزراعة، ثم للإسكان، وأيضا عندما كان وزيراً للبنى التحتية. ناهيك عن الاستيطان والأمن.

والحقيقة أن عقلية الرجل استيطانية خالصة، وال “بلدوزر” من رموز الاستيطان التي تشق الطرق وتزيل العوائق (مثل العرب) دون أخذ أي أمر بعين الاعتبار سوى خدمة الهدف، ألا وهو الانتشار اليهودي الاستيطاني في البلاد، وإقامة بُنَاه التحتية الاقتصادية. ولذلك، فإن توجهات شارون دولانية رسمية بحتة وأصوله الثقافية السياسية في الصهيونية العمالية، حيث الدولة هي أداة الاستيطان وإرساء البنى التحتية، وهي أداة الحرب دون منازع.

مقابل هذه الصورة الشعبية تبرز أيضاً الصورة التي يرسمها اليسار الصهيوني الذي هيمن فترة طويلة على ثقافة البلاد، ثم انحسرت هيمنته في ثقافة النخبة التي يسقط بموجبها قسم كبير مما يخجل فيه من ماضيه على الآخر، أي على اليمين الصهيوني. هكذا تتجمع صور كل المذابح التي نفذتها ال “هغناة” ليختزل الغضب عليها في مذبحة دير ياسين التي قام بها اليمين (الايتسل). ولذلك أيضا، تتكثف كل نزعات العسكرتاريا المغامرة بدءاً بتمجيده للجندي العبري الإنسان اليهودي الجديد بلغة بن جوريون، وانتهاء بالتسلل إلى خلف خطوط “العدو” لذبح المدنيين انتقاماً وتتجسد في عسكريين مثل شارون ورفائيل ايتان، والحقيقة أن هذه النزعة لم تقتصر على اليمين في يوم من الأيام. وما كانوا إلا جنوداً نفذوا أوامر زعماء مثل بن جوريون. لقد تبين أن قتل المدنيين في مذبحة قبية مثلاً انسجم مع أمر “بن جوريوني” مباشر.

التنازلات المؤلمة!

شارون الذي يؤمن “بالتنازلات المؤلمة”، كما تسمى في القاموس “الإسرائيلي”، وفي قاموسه هو بشكل خاص، إعادة أجزاء صغيرة من الأرض لأصحابها بعد سلبها منهم بقوة السلاح، في سياق تحقيق السلام مع العرب، يعرف جيدا أن تنازلاته هذه لا تعتبر تنازلاً، كما لا تعتبر كافية حتى بنظر العرب أصحاب الخيار “الإسرائيلي” الذين خفتت أصواتهم إبان الانتفاضة. ولذلك، فإن شارون اقترح المرحلة الانتقالية طويلة المدى في محاولة لإحلال “البراجماتية أو التوجه الواقعي” محل برنامج السلام كبرنامج سياسي. وعندما لم يلق اقتراحه تجاوبا فلسطينيا طرح شارون فكرة فك الارتباط من طرف واحد.
وقد أثارت تصريحات شارون في جلسة كتلة ال “ليكود” في الكنيست يوم الاثنين 26 مايو/ أيار ،2003 ضجة كبرى في الأوساط السياسية العربية و”الإسرائيلية”. وكان رئيس الحكومة “الإسرائيلي” قد صرح في معرض رده على نواب ال “ليكود” الذين هاجموا قرار حكومته بتبني “خارطة الطريق” ما يلي: “من المفترض برأيي أن نتوصل إلى تسوية. سأقوم بكل جهد من أجل التوصل إلى تسوية سياسية، لأنني أعتقد أن التوصل إلى تسوية سياسية مهمة ل “إسرائيل”. أنا اعتقد أيضاً أن الآراء والأفكار الذاهبة إلى أنه من الممكن أن نواصل الإمساك ب 3،5 مليون فلسطيني تحت الاحتلال - تحت الاحتلال نعم، من الممكن ألا نحب الكلمة، ولكن هذا ما يحدث: تحت الاحتلال. وهذا برأيي أمر سيئ ل “إسرائيل” أيضاً وللفلسطينيين ولاقتصاد “إسرائيل”، هذا لا يمكن أن يستمر بلا نهاية. تريدون أن تبقوا بشكل دائم في جنين، في نابلس، في بيت لحم، دائماً؟ لا اعتقد أن هذا صحيح”.

وقد أثارت كلمة “الاحتلال” جلبة خاصة. كما ألهبت لفترة قصيرة “قبول” الحكومة “الإسرائيلية” خارطة الطريق في اليوم الذي سبقه أي الأحد 25 مايو/ أيار 2003 خيال المعسكر العربي المتحمس للتحركات الأمريكية بعد العراق فكرة. في اليوم التالي اتصل المستشار القضائي للحكومة “الإسرائيلية” اليكيم روبنشطاين برئيس حكومته وطلب منه عدم استخدام مصطلح “المناطق المحتلة” بل “المناطق المتنازع عليها”، وأن مفهوم المناطق المحتلة يفيد العرب في المفاوضات.

والحقيقة أن شارون لم يكن بحاجة إلى هذا التحذير، فهو لم يستخدم مصطلح المناطق المحتلة، بل تعامل مع عبارة “5.3 مليون فلسطيني تحت الاحتلال”. وقد أوضح ذلك أيضاً في جلسة لجنة الخارجية والأمن في الكنيست في اليوم التالي. وتنسجم هذه العبارة مع تصور شارون للحل السياسي وللتسوية. وقد طرح شارون تصوره للتسوية طوال خمسة عشر عاماً. ويقوم التصور بأكمله على عدم إمكانية السيطرة إلى الأبد على السكان الفلسطينيين والحفاظ على حكم “إسرائيلي” عليهم لفترة طويلة، على الرغم من قناعته بضرورة استخدام القوة ما كانت السيطرة ضرورية. من هنا جاء تصور يجئال ألون “للحل الوسط إقليمي” الذي “يعيد” المناطق المكتظة بالسكان إلى الأردن، ومن هنا أيضاً جاء اقتراح الحكم الذاتي لدى بيجن، واقتراح ضرورة إقامة كيان سياسي فلسطيني على المناطق التي ترغب حكومة ألون بإعادتها إلى الأردن، وضم البقية إلى “إسرائيل”، وهو تصور شارون الذي تحدى به حزب العمل منذ منتصف الثمانينات كما سوف نرى.

مؤامرة الوطن البديل

هل يعني هذا أن كلام شارون هذا لم يأت بجديد؟ نعم، لا جديد إلا لمن اختار ألا يرى سوى شارون الجنرال وأصر على تجاهل شارون السياسي منذ عقود. يؤكد شارون الجنرال ورجل الأمن على استخدام القوة العسكرية لتحصيل نتائج سياسية. وصحيح أن شارون ليس فيلسوفاً لنحلل أقواله ونفسرها كأنها تحليلات وأحكام نظرية، ولكنه، أيضاً، سياسي يمثل نموذجاً مهماً في سياسات القوة والردع “الإسرائيلية”، وتتقاطع فيه تيارات “إسرائيلية” عديدة: نزعات قومجية يهودية، عسكرتاريا الاستيطان الزراعي، وعلمانية. لقد ساهم شارون مساهمة أساسية في اقناع بيجن بتطوير “جاحال” الى “ليكود”. ويعتبره الكثيرون مؤسس ال “ليكود”. وكان تأسيسه الخطوة الأولى لليمين في رواق الحكم فعلا. وانتمى شارون بعد إتمام خدمته العسكرية مباشرة إلى “حيروت” بعد مغامرة قصيرة في قائمة انتخابية مستقلة لا تستحق أن تسمى حزباً وبعد مغامرة قصيرة مع اليسار الصهيوني دامت اشهراً معدودة. وفي تلك المرحلة، وصل به الأمر الى أن حاول التواطؤ مع الأحزاب الصغيرة في ال “ليكود” لكي ترشحه لرئاسة الحكومة بدل بيجن، ما أدى إلى أن يكتشف بيجن طبيعته التآمرية، ولكن بعد أن شارك بيجن نفسه في نفخ أسطورته العسكرية ضد العمل في الحكومة إبان حرب 73 وبعدها.

وكان المس ببيجن أول أهداف تآمره السياسي. وقد وصل به الأمر في مرحلة تأسيس حزبه خارج الليكود أن أعرب عن استعداده للقاء ياسر عرفات وخول الكاتب اليساري الصهيوني عاموس كينان أن يرتب له الاجتماع. وقد كان عاموس كينان مبعوثه لصياغة برنامج سياسي مشترك مع “اللبراليم عتسمائييم” (الليبراليين المستقلين) بقيادة موشي كول. ولم يتم الاجتماع لأن عرفات عرض لقاءً مع مبعوثه عصام الصرطاوي. ولكن شارون أصر على عرفات في حينه. ولم يتم الاجتماع طبعاً. وتصالح شارون مع بيجن فيما بعد، وأصبح مضطراً للقبول بمنصب وزير زراعة في حكومته الأولى.
شارون يميني حزبياً، ولكن جذوره الثقافية والنفسية أقرب إلى مباي بن جوريون وجولدا مئير، مباي المتصلبة في مواقفها قبل مرحلة السعي الى التسوية. وكان دائماً يحمل تصوراً سياسياً أقرب إلى تصورات صقور حزب العمل في مرحلة تشدده حول طبيعة “الحل الوسط الإقليمي” territorial compromise منها إلى تصورات “حركة أرض إسرائيل” الكاملة العلمانية التي دعت إلى ضم المناطق المحتلة بعد العام ،67 ومن معطفها خرجت الحركات اليمينية المتطرفة العديدة. كما أنه أقرب إلى هذه الحركات اليمينية العلمانية منه إلى أيديولوجية المستوطنين الخلاصية.

وحتى عندما روج شارون لفكرة الدولة الفلسطينية في الأردن، فإنه لم يرغب بضم السكان الفلسطينيين في المناطق المحتلة إلى “إسرائيل” مثل ليكودي متوسط في تلك الفترة، ولم يعتقد أنه بالإمكان مواصلة الحكم “الإسرائيلي” عليهم إلى الأبد، بل أراد حكماً فلسطينياً ذاتياً أو مواطنة أردنية للمواطنين الفلسطينيين في الضفة والقطاع، بحيث تعبر الأردن عن طموحاتهم الوطنية في دولة. ولكن ما يميز شارون هو شخصية جنرال في داخل السياسي الذي يؤمن بشكل حاسم بدور وتأثير سياسات القوة، وبأنه إلى أن يقبل العرب بحل سياسي مقبول ل “إسرائيل”، يجب ألا تتردد “إسرائيل” بالاعتماد على القوة والقمع دون هوادة.

ومن أجل أخذ فكرة عن طبيعة الحل الذي يقبل به شارون، ولفضح سطحية الحماس المؤقت الذي أثارته تصريحاته المتعلقة بالاحتلال نورد اقتباساً آخر من الجلسة نفسها التي أبلغ فيها كتلته بموافقته على “خارطة الطريق”. قال شارون في رده على عضو الكنيست من كتلته يحيئيل حازان إن قبول خارطة الطريق (وبلغته هو خطة الطرق) لا يمنع البناء في المستوطنات: “بالإمكان البناء دون تحديد لأبنائك وأحفادك وآمل أن يصح ذلك لأبناء أحفادك أيضا”. وبعد مرور أقل من شهر على هذا التصريح قال شارون في جلسة الحكومة موجهاً كلامه للوزراء: “ابنوا ولا تتكلموا... لا يجب أن نخرج راقصين كلما أعطي إذناً للبناء في المستوطنات”. كما أضاف في الجلسة نفسها أنه يوجد بين “إسرائيل” والولايات المتحدة أساساً عميقاً من الثقة والمصداقية. وقد اتضح هنا، لمن أراد أن يعرف، مدى مصداقية شارون عند حديثه عن “احتلال” وعند موافقته على خارطة الطريق التي تتضمن تجميد الاستيطان.
فلسطين.. وخريطة الطريق

وحتى موافقة شارون على مفهوم الدولة الفلسطينية واستخدام هذا المفهوم لم تكن جديدة كما بدت للمعلقين المتفاجئين مما قاله. وهي لم تعبر عن موقف أخلاقي لإحقاق العدالة النسبية أو الإنصاف. لقد استنتج شارون أنه لا توجد إمكانية لطرد الفلسطينيين في عملية تهجير، أو بلغة مؤيديه “ترانسفير”، شاملة ولا يمكن ضم الفلسطينيين إلى “إسرائيل”. والنتيجة هي حل وسط إقليمي مع الفلسطينيين أنفسهم بدلاً من الأردن. وما المشكلة في أن يصل شارون إلى مثل هذه النتيجة رغماً عنه دون موقف أخلاقي؟ فالمهم هو النتيجة وليس الدافع، لأن النتيجة كيان سياسي فلسطيني يشمل أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين على أصغر رقعة من الأرض. وعلى هذا دار الصراع داخل الخارطة السياسية “الإسرائيلية”. ما طبيعة الدولة الفلسطينية؟ ما حدودها؟ ما صلاحياتها؟ هل تشمل مستوطنات “إسرائيلية”؟ كم من مساحة الضفة الغربية وقطاع غزة سوف يضم إلى “إسرائيل” بموجب هذا القرار؟ لقد أصبح الفصل الديموغرافي عن الفلسطينيين في كيان سياسي لهم مسألة إجماع “إسرائيلي” في المرحلة التي يعالجها هذا الباب، وهذا الكتاب بشكل عام. والنقاش الذي تبقى بين التيارات السياسية الرئيسية هو كم من الفلسطينيين على كم من الأرض؟ أو للدقة كيف يزداد عدد الفلسطينيين المنفصلين عن “إسرائيل” قي دولة وتصغر رقعة الأرض التي تقوم عليها هذه الدولة؟

لم توفر “خارطة الطريق” الأمريكية إجابات محددة عن هذه الأسئلة. ويبدو أن هنالك حاجة لتذكير القارئ بنص قرار الحكومة “الإسرائيلية” حول خارطة الطريق من يوم 25 مايو/ أيار 2003: “تعلن حكومة “إسرائيل” أنها توافق على إعلان رئيس الحكومة بتبني الخطوات التي تتضمنها خارطة الطريق (بالعبرية وردت كخارطة الطرق) وتؤكد أن تطبيق الخطة سوف يتم بموجب أربعة عشر تحفظاً قدمتها “إسرائيل” للولايات المتحدة”. وقد أضاف شارون بضغط من الوزراء البند التالي إلى القرار: “تشكل الدولة الفلسطينية الحل الوحيد لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين واستيعابهم”. ولكن رسالة الضمانات من بوش إلى شارون يوم 14 ابريل/ نيسان ،2004 والتي شُبهت عربياً بوعد بلفور أزالت الالتباس حول هدف خارطة الطريق وذلك بتبني التحفظات “الإسرائيلية” عملياً، وبتبني الموقف “الإسرائيلي” مما سمي بلغة اتفاقيات أوسلو قضايا الحل الدائم.

حسناً. ولكن هل كان بالإمكان معرفة هذه الأمور قبل ذلك؟ نعم ولنبدأ بالقراءة. قراءة ما هو مكتوب كما هو. ما نص إعلان شارون من يوم 23 أيار 2003 الذي تبنته الحكومة “الإسرائيلية” بعد ذلك بيومين؟ نورد هنا النص الحرفي كما هو قائم في موقع مكتب رئيس الحكومة “الإسرائيلية”: “في ضوء إعلان الولايات المتحدة اليوم بالنسبة لملاحظات “إسرائيل” حول “خارطة الطريق” بأن الولايات المتحدة تشارك الرأي أن الملاحظات “الإسرائيلية” هي تعبير عن مخاوف حقيقية، وفي ضوء تعهد الولايات المتحدة أن تعالج هذه الملاحظات بشكل كامل وجدي عند تطبيق خطة الطرق التي تهدف إلى تطبيق رواية الرئيس بوش من يوم 24 يونيو/ حزيران ،2002 يعلن رئيس الحكومة أرييل شارون أن “إسرائيل” توافق على الخطوات المحددة في “خارطة الطريق”، وسوف يطرح الموضوع لموافقة الحكومة”. لا يمكن تسمية هذا القرار وهذا الإعلان موافقة غير مشروطة على “خارطة الطريق”.

فك الارتباط.. فقط

ويتضح من تصريحات شارون في محاولته لإقناع وزرائه في تلك الجلسة حول “الضرورة الاقتصادية لقبولها” أن شارون رأى أهمية لإعلان الخارطة وقبولها كخطوة قائمة بذاتها كفيلة بتغيير الأجواء الدولية حول “إسرائيل”. لاحظ مثلا أنه بعد كل إعلان شاروني من هذا النوع يحصل تحرك عربي باتجاه إزالة الحرج من استقبال وزراء “إسرائيليين” ودعوتهم إلى مؤتمرات. رغم استمرار القمع “الإسرائيلي”، بل تصعيده منذ تصريحات شارون هذه. ولاحظ أيضا أن الحكومة “الإسرائيلية” لا تضيع الوقت وتبعث بدبلوماسيين بحثا عن دول عربية تستقبلهم كما بعد موافقة الحكومة القسرية على اقتراحات شارون فك الارتباط من طرف واحد في غزة. والحقيقة أن الملاحظات “الإسرائيلية” على “خارطة الطريق” لا تمر دون أن تأخذها الولايات المتحدة بعين الاعتبار، وذلك ليس فقط لأنها قد تتفق معها، وربما اتفقت معها حول هذه الملاحظات قبل أخذ موافقة “إسرائيل” على خارطة الطريق، وإنما لأن خارطة الطريق الأمريكية لم تشمل إطلاقاً أي تصور محدد لشكل الحل الدائم، واكتفت بتعيين القضايا المطلوبة منها. تماما مثلما أن خطة فك الارتباط من طرف واحد في غزة التي طرحها شارون لم تكن فعلا من طرف واحد بل تلقت ضمانات امريكية، تلاها تعاون عربي.

تلخص الجديد في “خارطة الطريق” أولاً بأنها طالبت بتطبيق الالتزامات “الإسرائيلية” والفلسطينية بالتوازي وليس بالتوالي. ولكن “إسرائيل” في الواقع أنكرت ذلك وأصرت على تنفيذ الالتزامات الأمنية الفلسطينية. وكان الجديد ثانياً هو شرط تجميد الاستيطان، وهو مطلب تكتيكي فلسطيني يهدف إلى تحسين الأجواء التفاوضية في الطريق نحو الهدف الاستراتيجي، وهو إزالة المستوطنات. ولم تتنازل “إسرائيل” عن موقفها من مواصلة الاستيطان لتغطية حاجات التكاثر الطبيعي. وحتى لو فككت “إسرائيل” بعض النقاط الاستيطانية، فقد كانت تلك نقاطاً استيطانية غير قانونية بموجب القانون “الإسرائيلي” ذاته، وليست غير قانونية بموجب القانون الدولي. وقد حاولت حكومة شارون بذلك تأكيد الفرق بين مستوطنات قانونية وأخرى غير قانونية، لتمرير مفهوم وجود مستوطنات قانونية. والفرق بين مستوطنة قانونية وأخرى غير قانونية بسيط وإجرائي للغاية، فالأولى نشأت بترخيص وإذن من الحكومة، أما الثانية فلا. والجديد ثالثاً هو ورود الدولة الفلسطينية في الخارطة خارج إطار الحل الدائم. وكررت مصادر “إسرائيلية” رسمية يومياً التأكيد أن الدولة الفلسطينية هي الحل لكافة القضايا. وفي الحقيقة قبل شارون دولة فلسطينية كمرحلة انتقالية باتفاق لفترة طويلة بما فيه الكفاية: عشرة إلى خمسة عشر عاماً.

أرادت الولايات المتحدة موقفا وإعلاناً من شارون بقبول “خارطة الطريق” بشكل عام ومبدئي، لأن الولايات المتحدة احتاجت سياسياً إلى هذه الموافقة في المنطقة العربية وفي أوروبا. فالاستثناء “الإسرائيلي” هو الحدبة التي تحملها الدبلوماسية الأمريكية على ظهرها في أوروبا والعالم العربي. وحقق شارون لأمريكا مرادها. لقد أبدى شارون استعداداً للتوصل إلى تسوية سياسية. وطبيعي أنه احتفظ برأيه حول طبيعة هذه التسوية، وأنه عمل طوال تلك الفترة لإقناع الولايات المتحدة بقبول موقفه على قاعدة خطابية مشتركة، هي قاعدة “خارطة الطريق”.

شارون تعلم الدرس

قال صموئيل لويس بعد سماعه تصريحات شارون حول الاحتلال إنه لا يصدق أن شارون قد تغير: “لقد تغير شارون بعد حرب لبنان في ناحية واحدة، لقد تعلم أن يضبط نفسه، وأن يلجم لذة تعذيب موفدي الولايات المتحدة إلى الشرق الأوسط... تعلم شارون اللعبة الدبلوماسية، وعلم ذاته أن يلعب الكرة مع الرئيس الأمريكي. علاقة شارون بالرئيس بوش، هي علاقة المتدرب بوش بالمدرب شارون. الاعتقاد أن الولايات المتحدة ستضغط على “إسرائيل” إلى أن تخضع الأخيرة هو ضرب من الخيال بسبب بنية الإدارة الأمريكية الأيديولوجية والسياسية، وبسبب شخصية شارون”. صموئيل لويس هو السفير الأمريكي الأكثر أهمية قي تاريخ العلاقات الأمريكية “الإسرائيلية”، وهو الذي مكث أيضاً في تل أبيب أطول مدة لسفير أمريكي إلى درجة التدخل في السياسة “الإسرائيلية” الداخلية. وكانت علاقته بشارون متوترة منذ اتهمه الأخير بالإساءة له إبان حرب لبنان 1982.

لقد تبلورت مواقف شارون من القضية الفلسطينية تاريخيا في السبعينات. فقد جرى لشارون ما جرى لغيره من ساسة المؤسسة “الإسرائيلية” بعد حرب 1973. لقد “اكتشفوا” أن هنالك قضية فلسطينية. تم ذلك ليس في العام ،67 بل في العام ،73 على الرغم من أن الاحتلال المباشر لبقية الشعب الفلسطيني التي لم تُشَرد كان في العام 67. ولكن هنالك فرقاً بين اكتشاف الشعب واكتشاف القضية. لقد فرض إنجاز عسكري عربي واحد عام ،73 ولو بدون انتصار عسكري شامل، القضية الفلسطينية على من أنكرها سابقاً. ومع أنه ما زال يعتقد أن الجيش “الإسرائيلي” سوف يبقى مرابطاً في كل المساحة الواقعة بين النهر والبحر، وهذا ما قاله العام 1974: “ويجب ألا ننفعل من تصريح كل زعيم عربي يعترف أو لا يعترف بوجودنا، نحن موجودون. ولكن الفلسطينيين موجودون أيضاً.. يجب إزالة كافة المنظمات الفلسطينية، إبادتها، ولكن الفلسطينيين موجودون أيضاً، وبرؤية بعيدة علينا أن نجد قنوات حوار معهم، إذا أرادوا الجلوس معنا والحديث عن السلام”.
عُين شارون وزيراً للزراعة في حكومة بيجن الأولى العام 1977 بعد فشل مغامرته في خوض الانتخابات في قائمة منفردة لم تحظ إلا بمقعدين في البرلمان. وكان لا بد لشارون أن يستخدم وزارة الزراعة لغرض تقدمه السياسي الشخصي، كما استخدم الجيش قبل ذلك. وكان هدفه أن يعين رئيساً للأركان، وبعد ان تقاعد من العسكرية دون تحقيق هذا المنال أصبحت وزارة الدفاع هدفه. جعل منه الجيش بطلاً قومياً يناكف القيادات السياسية المترددة، ويتهكم عليها في الصحف باعتبارها تعيش في أبراج بيروقراطية ولا تفهم الجيش، أو اعتبرها ضعيفة غير قادرة على صنع القرار باستثمار القوة العسكرية في السياسة كما يجب، أو مقيدة بما تمليه الولايات المتحدة. وفي مقابل ذلك، قام هو بتقديم نفسه كرجل الجرأة والعمل المباشر المغبر بجبال البلاد وسهولها، المضرج بجراح إفهام العرب بطريقة القوة أن لا أمل لهم بالانتصار. كانت هذه وما زالت برأيه مقدمة لأي سلام في المنطقة. إنه بنظر ذاته والصورة التي أراد أن ترسم عنه رجل الميدان والعمل والفعل والإقدام والمبادرة. ولم يعرف الجيش “الإسرائيلي” في تاريخه رجلاً جسد أسطورة المقاتل “الإسرائيلي” ابن العمل الزراعي والعسكري المولود في البلاد إلى “تسابار” واستثمرها بوعي في الإعلام من أجل ترويج آرائه وتحقيق طموحاته السياسية الشخصية وضد من يقف في طريقه ولو كان قائده العسكري نفسه كما فعل ذلك شارون.

وزير.. لأول مرة

لقد شتم شارون رؤساءه أمام مرؤوسيهم، والضباط الأعلى منه رتبه أمام جنودهم، والقيادة السياسية أمام العسكر، واستخدم الكذب إذا لزم لتغطية مبادراته أو لتبريرها أمام صناع القرار ولكسب تأييدهم لها. وكان هنالك من القادة العسكريين والسياسيين قي كل حالة من ادعى بأثر رجعي أمام الإعلام وأمام المؤرخين في أفضل الحالات، أو أمام لجان التحقيق في أسوئها، أنه خُدِع وأنه لم يفهم أن شارون سينفذ ما نفذ عندما وافقه الرأي. هذا ما ادعاه بيجن ذاته بالنسبة لأهداف شارون من حرب لبنان وخططه المتعلقة بتوسيع المعركة. على كل حال اتضحت جهنمية خطط شارون بعد الحرب. وكان عام 1985 كما يبدو عام الاكتشافات الكبرى عن خطط شارون من حرب لبنان. فقد كشفت جلسات محادثاته مع المسؤولين الأمريكيين من العام ،1981 ومنها ان الخطة تذهب الى جلب بشير الجميل الى الحكم “وطرد سوريا” من لبنان و”ترك اللبنانيين يعالجون شأن الفلسطينيين”. كما تبين أن شارون كان على علم بتحرك من بيجن نحو سوريا بخصوص لبنان وأن شارون استفز مواجهات مع الجيش السوري لإحباط مثل هذا التحرك الذي يقطع الطريق على خططه في لبنان. وقد بدا الاهتمام البحثي ببنية شارون النفسية ومنشئه وطفولته في هذه المرحلة بعد حرب لبنان. وانتشرت صفحات كاملة تبحث في شخصيته بشكل لم يخلُ من ديماجوجية اليسار الصهيوني وانتقائيته. ولكن لا شك ان نمط التضليل والخداع الذي ميز سيرته السياسية والعسكرية رافقه منذ بداية حياته السياسة.

لقد عين وزيرا للزراعة في أول حكومة لليمين خلافا لرغبته بتولي حقيبة الدفاع. ولكن ماذا يفعل في وزارة الزراعة؟ كيف يحول هذه الوزارة إلى أداة تقدم؟ كانت كلمة السحر الاستيطان. ومنذ تلك الفترة وحتى اليوم بالإمكان اعتبار شارون أبا الاستيطان وصاحب المبادرات الأساسية فيه. وفي سبتمبر/ أيلول ،1977 بعد أربعين يوماً من تعيينه رئيساً للجنة الوزارية لشؤون الاستيطان، أعلن شارون عن خطة للاستيطان تتلخص بإقامة خط استيطاني داخل الضفة الغربية موازٍ للمدن “الإسرائيلية” على الساحل، ويتضمن مدناً وتفرعات قروية عنها ومدناً (أقماراً) محيطة بالقدس. وقد يستغرب المرء من شدة الشبه بين برنامج شارون وخطته للاستيطان في تلك الفترة وبين واقع الاستيطان اليوم. وطوال فترة وجوده وزيراً للزراعة، استمر شارون في اعتبار مهمته هي المهمة الأساسية في الدولة. واتهم الوزراء علناً بإهمال الاستيطان، معتبراً نفسه حامي حمى الاستيطان اليهودي.

الانسحاب من سيناء

وعندما اجتمعت حكومة “إسرائيل” يوم 20 نوفمبر/ تشرين الثاني 1977 لسماع تقرير من رئيسها مناحيم بيجن، استمع شارون لأول مرة عن مضمون اجتماعه السياسي الأول مع السادات في القدس. لم يتم التشاور معه قبل الزيارة كما في حالة ديان. ولم يعرف كيف رتبت زيارة السادات. كما سمع يوم 13 ديسمبر/ كانون الأول 1977 في اللجنة الوزارية لشؤون الأمن لأول مرة عن برنامج السلام “الإسرائيلي” الذي قدم لمصر، بما في ذلك موضوع الإدارة الذاتية (الأوتونوميا) لسكان الضفة الغربية وقطاع غزة. وقد تنازل شارون في نهاية الجلسة عن موقفه المعارض في بدايتها للتنازل عن سيناء بكاملها مقابل سلام كامل. وفقط رئيس الأركان مردخاي جور (نائب ووزير عن حزب العمل لاحقا) بقي معارضاً للانسحاب الكامل، كما اقتنع شارون بموقف بيجن فيما يتعلق بالحكم الذاتي للفلسطينيين والضمانات التي قدمها للوزراء لكيلا يتحول إلى دولة فلسطينية.

في يوم 3 يناير/ كانون الثاني ،1978 نجح شارون بإقناع الحكومة أن توافق على خطة استيطانية تضمنت 3 مستوطنات جديدة في الضفة الغربية، كما تضمنت تعزيز المستوطنات القائمة شمالي سيناء قرب رفح بواسطة توسيع مساحة الأرض الزراعية وحفر آبار مياه. والمرحلة مرحلة مفاوضات متقدمة مع مصر. كان الانطباع الذي تركه شارون عند مستمعيه الوزراء أنه يريد إضافة أراضٍ للزراعة لغرض امتحان رد فعل مصر السياسي ومدى قبولها لبقاء المستوطنات القائمة. وقد تحمس بيجن للاختبار. ولكن شارون أمر في الواقع بتخطيط 23 نقطة استيطانية جديدة (التعبير “مأحاز” الذي يترجم ك “نقاط استيطانية” في مرحلة “خارطة الطريق” بالعربية استخدم أيضاُ في تلك الفترة، outpost بالإنجليزية، ولكن في حينها لم يعر العرب بحق هذه التمييزات اهتمامهم).

وبعد قرار الحكومة بثلاثة أيام، في يوم 6 يناير/ كانون الثاني، استيقظ العالم على أنباء استيطان “إسرائيلي” واسع في شمال سيناء. وثارت أزمة سياسية في المفاوضات مع مصر. وقد أنكرت حكومة “إسرائيل” هذه الأنباء، ووفرت حكومة اليمين بذلك فرصة أخرى لشارون لاتهامها بالتلون السياسي والضعف والتخلي عنه وعن الاستيطان. وقد استمر شارون باختلاق الأزمات الاستيطانية إلى أن غادر عيزر وايزمان، وزير الأمن المتحمس للسلام مع مصر، الحكومة في نهاية العام ،1980 فاسحاً المجال لشارون ليصبح وزيراً للأمن في حكومة بيجن الثانية بعد انتخابات العام 81.

وعندما طُلِب من شارون أن يتدخل في مفاوضات كامب ديفيد مع مصر بالاتصال مع بيجن لإقناعه بالتنازل عن المستوطنات في سيناء، بما فيها يميت، إذا كانت هذه العقبة الوحيدة، وكل ما عداها متفق عليه- فعل ذلك. فمشاركته والتشاور معه شخصياً في المفاوضات يجعل مواقفه أكثر مرونة. شارون رافض بالكامل عندما لا يكون مشاركاً. ومرن عندما يشارك في عملية صنع القرار. وينطبق ذلك حتى على المراحل الأولى من حياته السياسية. فقد عارض اتفاقيات فصل القوات بين مصر و”إسرائيل”، وقد اشتهر عن شارون في حينه انه يعتبر هنري كسينجر أخطر وزير خارجية ل “إسرائيل”. إلى أن عينه رابين مستشارا له فقد بدا بعدها رسميا في سلوكه السياسي ومتفقا مع الاتفاقيات الانتقالية مع مصر والتي عرفت باتفاقيات فصل القوات. هكذا أيضاً تصرف شارون في مفاوضات “واي”، وكانت أداة الضغط في “واي” أيضاً هي الاستيطان. فبينما كان نتنياهو يفاوض عرفات في “واي” في تشرين الأول العام 1998 وجه شارون وزير خارجية نتنياهو في حينه نداء إلى المستوطنين لاحتلال التلال وبناء النقاط الاستيطانية. ولكن عندما طُلِب منه الحضور إلى هناك فإنه حضر وبارك الاتفاقيات عملياً، بما في ذلك الانسحاب وإعادة الانتشار، من بعض أحياء الخليل.

قضية المستوطنات

ولكن في فترة رئاسته للحكومة لم يشارك شارون في المفاوضات فحسب، بل هو الذي أدارها، كان هو صاحب القرار. وبموجب نموذج السلوك أعلاه كان من المفترض أن يصبح أكثر مرونة. ومع ذلك نجده يقول إن إزالة مستوطنة يميت في شمال سيناء كان خطأً،ويكرر ذلك بعد أن أصبح رئيساً منتخباً لحكومة “إسرائيل”: “لا أرى سبباً لتفكيك المستوطنات مادام لا يوجد سلام. فإننا على أي حال موجودون هناك. وإذا حل السلام مع مرور الزمن فمن الطبيعي أنه لا مانع أن تبقى المستوطنات... ألن تكرر حالة “يميت”؟ لا، بالتأكيد لا”. ثم يعود شارون ويؤكد ضرورة إزالة المستوطنات من قطاع غزة ومنطقة جنين في إطار خطته لفك الارتباط من طرف واحد.

وللتدليل على التغيرات التي مر بها المجتمع “الإسرائيلي” منذ تلك الفترة نجد أن شارون العسكري اليميني يساير متطلبات اللياقة السياسية بعد توليه منصب رئيس الحكومة كما يتطلب المجتمع “الاسرائيلي” في القرن الواحد والعشرين. فبعد فوزه في الانتخابات على باراك كان أول اجتماع عقده كرئيس حكومة مع ممثلات للوبي النساء في “إسرائيل”، وكانت أول زيارة له كرئيس حكومة إلى ملجأ للنساء اللواتي تعرضن للضرب من أزواجهن في تل أبيب يوم 15 فبراير/ شباط 2001. وقد أكد في هذه الزيارة أنه في حكومته سوف يتبوأ عدد أكبر من النساء مناصب وزارية.

وتشكل هذه الخطوة الشارونية دليلاً على اضطرار رئيس الحكومة “الإسرائيلية” أن يساير التغيرات في المجتمع “الإسرائيلي”، ولكنها أيضاً دليل على كون هذه التغيرات ممكنة في إطار القبيلة، بحيث يستطيع رئيس حكومة يميني بالمقاييس كافة أن يحتويها دون أن يغير سياسته بالضرورة، ودون أن يدفع ثمنا مرتفعا لذلك. كانت نبرة شارون هذه محاولة لتحييد القوى الليبرالية “الإسرائيلية” الني خاب أملها من الفلسطينيين في كامب ديفيد، والمستعدة للتسامح مع سياسات القوة التي يبشر بها تجاه الشعب الفلسطيني في مقابل ظهوره بمظهر لائق سياسياً في قضايا داخلية تهم القوى الليبرالية “الإسرائيلية”. وخلافا لنتنياهو، لم يضع شارون نفسه في مواجهة النخب القديمة في قضايا السياسة الداخلية، ولم يدخل في مواجهة أيديولوجية مع الجهاز القضائي تاركا القضاء يأخذ مجراه في قضايا تمسه وتمس أبناءه دون تعليق منه. ولذلك، فضلته القوى المؤيدة لحزب العمل وحتى لحزب “ميرتس” على نتنياهو وصوتت ضد حل الكنيست، وكان ذلك شرط نتنياهو للترشح عن الحزب. إنه أهون الشرين بالنسبة لها في قضايا السياسة الداخلية، ويبقى أحد الوجوه المألوفة وبإمكانه أن يفتخر وأن يفتخر معه شيمون بيريز بالصداقة الشخصية التي تجمعهما. لقد عين شارون وزيراً عربياً (درزياً خدم في الجيش) في حكومته الأولى كدليل على أن المهم بالنسبة له هو الولاء السياسي، وأنه ليس لديه موقف عنصري من عرب خدموا في الجيش وموالين سياسياً ل “إسرائيل” لمجرد أنهم عرب.

لقد أصبح شارون أكثر مرونة وأكثر ثقة بالنفس، ولم يعد بحاجة إلى إطلاق التصريحات الديماغوجية بغرض التقدم جماهيرياً ضد خصومه أو ضد العوائق التي تحول دونه ودون المنصب. إنه يحول المسائل المبدئية ببراعة إلى شكليات. ولكن يتضح أيضاً أن هنالك حدوداً لمرونة شارون يفرضها وجوده ومشاركته في عملية صنع القرار، كما ترتسم حدود لتأثير رغبته بالمناكفة والتشهير بغيره لغرض شق طريقه إلى المناصب التي أرادها في حالة استبعاده. تأثير الوصولية والانتهازية كان إذاً قائماً في
فترة وجوده في المعارضة، ولكنه لا يفسر كل شيء.

وقد أكد شارون بعد وصوله السلطة أنه لم يغير رأيه في الموضوع الفلسطيني: “لم أغير وجهة نظري. الأمر الوحيد الذي غيرته هو رأيي أن الأردن هي فلسطين. وقد حصل التغيير فقط لأنه تطورت حقائق على الأرض. لم أرغب قط أن تكون هنالك دولتان فلسطينيتان. هذا هو التغيير الوحيد في الموقف”. ولكن موقفه من الدولة، أو الكيان الفلسطيني على رقعة صغيرة من الأرض سوية مع الفصل الديموغرافي يدفع دون شك باتجاه الكيان الفلسطيني الأردني، أي أنه لم يغير رأيه تماماً حتى بالنسبة لاعتبار الأردن هي فلسطين. ومن الواضح أن شارون يفضل اتفاقاً “لا حرباً” مرحلياً طويل المدى ترافقه تنازلات “إسرائيلية” محدودة على اتفاق سلام دائم مع العرب، لأن رأيه، مثل رأي كسينجر، أن هذا أكثر واقعية من اتفاقيات السلام الدائم. وهو لا يتضمن إزالة مستوطنات، كما كان من المفضل التوصل إلى اتفاق “لا حرب” مع مصر بدون إزالة مستوطنات شمال سيناء، ومنها يميت. وهو مثل كسينجر لا يعتبر السلام مع مصر سلاماً دائماً يستحق مثل هذه “التضحية” بالاستيطان، إنه في الواقع اتفاق لا حرب.. ولكنه اتفاق على الاقل. والمقصود أن شارون كان يرفض الانسحابات من طرف واحد. وطبعا من نافل القول انه شخصيا تقدم بخطة انسحاب من طرف واحد في فترة كتابة هذا الفصل من الكتاب. هذه مسألة تكتيكية اذا. فقد عارض شارون في حينه تحركات كسينجر لاتفاقيات فصل القوات ثم عاد وأيدها بعد ان ضمه رابين كمستشار الى عملية صنع القرار في فترته الأولى. وعارض الحكم الذاتي بداية باعتباره تمهيدا لقيام دولة ثم أيده، وعارض فكرة الدولة الفلسطينية ثم عاد وأيدها، وعارض فكرة الانسحاب من طرف واحد من القطاع ثم عاد وأيدها. ونحن ندعي أنه مع ذلك حافظ على نفس الموقف، وأنه ليست المعارضة فقط كانت تكتيكية بل أيضا تأييد كل عارضة لم يكن اقل تكتيكية وأخضع في النهاية لنفس التصور الاستراتيجي.

الاعتراف بحق اليهود!

أما السلام الدائم فممكن برأيه فقط عندما لا يعترف العرب ب “إسرائيل” كحقيقة قائمة، كما في اتفاقيات كامب ديفيد مثلاً، بل عندما يعترفون بأن لليهود حقاً تاريخياً بإقامة دولة في هذه البلاد. هذا هو شرط الحل الدائم وليس هذه التنازلات أو تلك. وقد برر شارون في مقابلة أجراها مع يديعوت أحرونوت موقفه المعارض للبحث العقيم عن حل دائم بموقف هنري كسينجر الذي سأله مندهشاً لماذا وافق على تفكيك المستوطنات في سيناء في إطار اتفاقية السلام مع مصر؟ فأجابه شارون على ذمة شارون، ذمة الراوي، بأنه دون ذلك لم يكن بالإمكان التوصل إلى سلام دائم، فرد كسينجر متسائلاً: وهل تسمي علاقتكم الحالية مع مصر سلاماً دائماً؟ وشارون، الذي يروي هذه القصة، شريك في هذا التساؤل الأخير.

تتضمن حالة اللاحرب مع الفلسطينيين كحالة اتفاق برأي شارون دولة فلسطينية في حدود اتفاق واي الذي توقف عند إعادتي نشر قوات ضمن اتفاقيات اوسلو والقاهرة. تضاف إليه إعادة الانتشار الثالثة، لتصل إلى 42% من الأرض باتفاق ونتيجة مفاوضات، أي ليس من طرف واحد. و”تكون هذه الدولة مقيدة محددة منزوعة السلاح، خلافاً للوضع اليوم، ولها قوات شرطة فقط مع السلاح اللازم للحفاظ على الأمن، وتحافظ “إسرائيل” لسنوات طويلة على حدودها الخارجية، لا توقع دولة كهذه على تحالفات مع دول معادية ل “إسرائيل”، ومن حق “إسرائيل” الطيران في أجوائها، وما دام لا يمس بأمن “إسرائيل” فلا مشكلة عندي”. يضاف إلى هذا الوصف الحفاظ على تواصل إقليمي فيها وإيجاد حل لقضية الحواجز “الإسرائيلية”، فبرأيه هذه هي المسائل التي تزعج الفلسطينيين في حياتهم اليومية.

لنعد إلى جذور أفكار شارون في الكيان الفلسطيني. كان شارون قد أيّد فكرة الحكم الذاتي في الضفة الغربية وقطاع غزة كما عرضها بيجن، وجعلهما محور أفكاره السياسية المتشعبة في القضية الفلسطينية، وبخاصة بعد حرب لبنان ،1982 والتي فشل فيها بتهجير الفلسطينيين إلى الأردن بالتواطؤ مع المليشيات اللبنانية المعنية بتهجيرهم. وبينما كان الهجوم “الإسرائيلي” على لبنان في أوجه كان شارون قد فضح العلاقة بين تلك الحرب وخطة الحكم الذاتي من كامب ديفيد. وهكذا صرح في مؤتمر صحافي من يوم 21 يونيو/ حزيران 1982 قبل انقضاء أسبوعين على بدء الحرب: “على سكان يهودا والسامرة وقطاع غزة أن يفهموا الآن أنه لا يوجد الآن سواهم من يحل لهم مشاكلهم. تفهم العديد من الشخصيات كما يفهم السكان حالياً أن الطريق إلى السلام هو مفاوضات مباشرة بينهم وبين “إسرائيل”... هذه القضية معلقة إلى أن يتضح إلى أي مدى سوف يُقطَع رأس م.ت.ف.. أنا اعتقد أن عرب يهودا والسامرة وغزة سوف يجرون مفاوضات، وفي الأيام القادمة بعد أن تهدأ الجبهة سوف نبدأ بهجوم سلام على غرب المناطق في محاولة لإيجاد اتصال مركز معهم من أجل الحوار لإقامة حكم ذاتي، أوتونوميا”.

لبنان ودعم المنظمة

ما لم يتوقعه شارون هو أن حرب لبنان سوف تستورد مركز ثقل منظمة التحرير إلى الأراضي المحتلة العام 67 فأدت عكس غرضها السياسي المعلن. وفقط سوء إدارة الصراع في الانتفاضة الأولى وحرب الخليج الثانية المسماة حرب الكويت ضربت منظمة التحرير إلى الحد الذي جعلها هي تضطلع بمهمة التفاوض بالشروط التي وضعها شارون في حينه، فتبدو حرب لبنان كأنها نجحت. وفي الواقع ان نتائجها تحققت على المستوى الفلسطيني بفعل عوامل عربية وفلسطينية. ولكن من الواضح ما الذي تعنيه حرب شارون المستمرة ضد الفلسطينيين؟ والى أين من المفترض أن تؤدي؟

وبعد أقل من ستة أشهر على مقال شارون المقتبس أعلاه والذي نشره العام ،1982 نجده يصرح بأنه مستعد بسرور لأن يفاوض الأردن على أساس برنامج الأوتونوميا من كامب ديفيد. وفي فترة لاحقة يبلور شارون تصوره للحل مع الفلسطينيين بشكل أدق يوجب برأينا فهم موقفه من الدولة الفلسطينية في فترة حكمه في ضوء هذا التطور من العام 1988 عندما كتب شارون حول الحكم الذاتي الفلسطيني وعلاقته بالأردن ما يلي: “أنا شخصياً أؤمن ببرنامج الأوتونوميا كجسر سلام بيننا وبين الدولة الفلسطينية القائمة في الأردن. في المستقبل الأبعد سوف تقود الأوتونوميا إلى فيدرالية، أو كونفدرالية “إسرائيلية” فلسطينية على ضفتي الأردن”. وخلافاً لما يعتقد البعض، فإن شارون قصد ويقصد أن الأردن هي الدولة الفلسطينية، ولكن ليس بالضرورة بمعنى تغيير النظام السائد في المملكة الأردنية، فلا يهمه ولم يهمه في يوم من الأيام أن تكون الدولة الفلسطينية مملكة هاشمية طالما وجد الفلسطينيون في الضفة والقطاع تعبيرهم فيها. ويعرف شارون تمام المعرفة أن الدولة الفلسطينية بالمواصفات التي يقصدها والتي طرحها رسمياً لأول مرة في خطابه في اللطرون العام 2001 قبل أن يطرحها بوش، لا يمكن أن تعيش إلا من خلال علاقة مع شرق الأردن، وهذا هو الأساس: أن يتم الفصل الديموغرافي مع “إسرائيل” السيادية بشروطها الأمنية والتاريخية (القومية الرمزية الطابع)، وأن تكون العلاقة السيادية مع شرقي الأردن. بهذا المعنى لم يغير شارون كثيراً من عقلية المؤسسة الصهيونية التي نشأ وترعرع فيها، عقلية بن جوريون و”مباي” عموماً التي سيطرت على ثقافة ضباط الجيش أولئك الذين انعطفوا في السياسة بعد الخدمة العسكرية يساراً أو يميناً. ولذلك يقول شارون في مرحلة مبكرة العام 1980 داعيا الملك حسين إلى لقاء مباشر: “لم أقل إنه يجب تحويل الأردن إلى دولة فلسطينية، وإنما أن الأردن هو دولة فلسطينية، 60% من سكانها فلسطينيون”، والقصد هو أنه لا يدعو للقيام بعمل فاعل في الأردن تغييراً أو قلباً للنظام، وإنما أن تعتبر المملكة كما هي دولة فلسطينية ولا تشغله بعد ذلك مسألة طبيعة النظام فيها.

شروط السلام!

وفي مقال نشره في مرحلة بداية الانتفاضة الأولى التي دعا شارون باستمرار لاستخدام يد حديدية لقمعها، فصّل شارون “شروط الإطار” التي يجب على “إسرائيل” أن توضحها للأمريكان كشروط لأية تسوية مقبلة: “القدس الموحدة عاصمة “إسرائيل” الأبدية، يشكل نهر الاردن حدوداً أمنية شرقية ل “إسرائيل”، لن يوجد جيش آخر غير الجيش “الإسرائيلي” غربي الأردن، “إسرائيل” هي المسؤولة عن الأمن الداخلي والخارجي في كل “أرض “إسرائيل” الغربية” (كل ما يقع غربي نهر الأردن)، لن تكون هنالك سيادة في “يهودا والسامرة وغزة”، لن تقوم دولة فلسطينية ثانية غربي النهر، يجب حل قضية اللاجئين الفلسطينيين عربياً، الجولان جزء من أرض إسرائيل”. في نهاية مقاله يقول شارون “يمكّن اقتراحي في المستقبل من تطبيق خط ال “ليكود”؛ دولة فلسطينية في الأردن وإدارة ذاتية بموجب كامب ديفيد، كمرحلة انتقالية (ليس في كل المناطق) وتطبيق خط حزب العمل (إذا فازت في الانتخابات في المستقبل) بالتوصل إلى تسوية أراضٍ territorial compromise”. لا يترك هذا الإطار مجالاً إلا للحكم الذاتي للفلسطينيين، أقرأ دولة بلغة شارون الحالية وهو في الحكم، بالاتصال مع “دولتهم الفلسطينية في الأردن”.
متى بدأ التغيير؟ مع استمرار الانتفاضة الأولى وإعلان الأردن فك الارتباط بالضفة الغربية وقطاع غزة من طرف واحد. عندها اقترح شارون بشكل عيني ما يجمع بين برنامجي ال “ليكود” والعمل. وقام بتحدي حزب العمل في مقال مهم أتبعه بمؤتمر صحافي أثار الانتباه، اقترح رامياً قفازة بوجه هذا الحزب الرد على خطوة الأردن هذه بضم المناطق غير الخاضعة لتسوية الأراضي مع الأردن إلى “إسرائيل” من طرف واحد. لقد تبنى شارون خطة “ألون” عملياً، إذ اقترح ضم أراضٍ بموجبها ل “إسرائيل” والتنازل عن الأراضي التي اقترح ألون التنازل عنها للفلسطينيين أنفسهم بدلاً من الأردن.

لقد سحب الملك في حينه البساط إذاً من تحت أرجل خيار حزب العمل الأردني، خيار ألون، الذي دعا إلى إعادة المناطق المكتظة بالسكان إلى الأردن. واقترح شارون عملياً استباق ولادة الخيار الفلسطيني على أنقاض الأردني بتحديد مكانه في مناطق “خطة ألون”، وضم ما تبقى ل “إسرائيل”. وإذا فحصنا الموضوع جيداً، نجد أن المناطق التي افردها شارون في حينه للخيار الفلسطيني، استباقاً لمحاولات م. ت. ف. أن تحل محل الأردن بعد فك الارتباط هي المناطق التي تشكل 42% من الضفة الغربية وقطاع غزة. مع الفرق أولاً: أن م. ت. ف. حلت محل الأردن في اتفاقيات اوسلو، وهذا واقع قائم بالنسبة لشارون ورثه عن رابين. وثانياً: أن الحديث يتم في مرحلة شارون في الحكومة عن دولة وليس عن حكم ذاتي. ولكن لو فحصنا مفهوم الدولة عند شارون حالياً نجد أنه يضيف إلى مفهومه عن “الحكم الذاتي” أن يتولى الفلسطينيون شؤون الأمن الداخلي، وأن تكون لديهم مظاهر سيادة.


التعليقات