الاقتصاد الإسرائيلي والعولمة (قراءة)/ أنطوان شلحت

الاقتصاد الإسرائيلي والعولمة (قراءة)/ أنطوان شلحت
يطرح هذا الكتاب، الذي ظهر في هيئة "مذكرة عامة"، أسئلة من قبيل: ما هي العلاقة بين المناعة الوطنية لدولة إسرائيل، وبين الناتج للفرد ومبنى السكان ووتيرة تكاثرهم ومستوى الفقر والتشغيل؟ كيف بالوسع تفسير استمرار اتساع الفجوات بين الاقتصاد الإسرائيلي، رغم نموّه السريع في الأعوام القليلة الفائتة، وبين اقتصاد الدول المتطورة التي تحاول إسرائيل أن تبقى في ركابها؟ هل العولمة ذات فائدة لإسرائيل أم أنها تنطوي على أخطار تهدّدها؟ كيف ستبدو أوضاع إسرائيل الاقتصادية بعد عشرين عامًا من الآن، هل ستبقى في عداد الدول العشرين الأكثر تطورًا في العالم، أم ستتدهور إلى مكانة دول العالم الثالث؟ كيف يمكن رفع إسهام الرأسمال البشري؟ هل في إمكان الاقتصاد الإسرائيلي الاستمرار في مسار النموّ على أساس السياسة الاقتصادية المتبعة حاليًا، أم أن الأمر يتطلب خطوات اقتصادية إضافية في سبيل تحسين احتمالات النمو؟.

أمّا منهجية البحث التي يتبعها، في معرض الردود عن الأسئلة السالفة، فقد شملت العناصر التالية:
أولاً- مقارنة التطوّر الاقتصادي في إسرائيل بمثيله في الدول العشرين الأكثر تطورًا في العالم، من ناحية الناتج للفرد؛
ثانيًا- تحليل الـ"كوابح الرئيسة" لنموّ الاقتصاد الإسرائيلي؛
ثالثًا- صوغ سيناريوهات محتملة للمستقبل وعرض توصيات "تساعد في تطبيق السيناريو الأكثر تفاؤلاً".

مؤلفا الكتاب هما د. شموئيل إيفن ورجل الأعمال بيني لاندا.

الأول هو ضابط سابق برتبة كولونيل في شعبة الاستخبارات العسكرية (أمان) ومستشار إستراتيجي للشركات، والثاني من طلائع صناعات "الهاي تك" في إسرائيل ومؤسس شركة الطباعة الديجيتالية- "إينديغو".

لعلّ أكثر ما يكرث المؤلفين هو أن تسارع إسرائيل إلى اتخاذ الخطوات الكفيلة ببقائها ضمن لائحة الدول العشرين الأكثر تطورًا في العالم، التي تستمد مكانتها هذه، أساسًا، من معدل الناتج للفرد الواحد على مدار الأعوام، كما سنبين في سياق لاحق.
وهما يؤكدان في مستهل الكتاب أنّ ما حدا بهما إلى إعداده هو مناخ الزهو والافتخار السائد في إسرائيل حيال النمو السريع الذي حصل خلال الأعوام القليلة الفائتة، وعبر التغاضي عن الذرى الجديدة التي بلغها نطاق الفقر في الوقت نفسه (حوالي 6ر1 مليون فقير). علاوة على ذلك تمثل هدف آخر لهذه "المذكرة" في تفحص الأسباب الرئيسة التي تقف خلف الفجوات الاجتصادية الآخذة في الاتساع، وعلى وجه الخصوص ماهية العلاقة بين العمل والازدهار الاقتصادي.

إلى ذلك قال الباحثان إنه يتملكهما شعور بأنّ العولمة تقفز عن إسرائيل أو بكلمات أخرى إن إسرائيل تفوّت فرصة جني فوائد العولمة، وإنّ هناك شركاء لهذا الشعور بين العديد من أرباب الصناعة الإسرائيليين. وفي هذا الشأن لفتا إلى أن معظم الاستثمارات الأجنبية في إسرائيل تكاد تنحصر إما في السوق المالية أو في امتلاك شركات إسرائيلية. وفي الوقت الذي تستثمر شركات عالمية عديدة رؤوس أموال طائلة في إنشاء مصانع جديدة في دول مختلفة من أنحاء العالم، فإنّ الاستثمار في هذا المجال قليل نسبيًا في إسرائيل.

ينطلق الكتاب من فرضية أنّ تعزّز العولمة عمّق الوعي في العالم بشأن وزن القوة الاقتصادية وتأثيرها على القوة الوطنية. ويرى المؤلفان أنّ العلاقة بين القوتين الاقتصادية والوطنية تنعكس، بصورة رئيسة، في المجالات التالية:

1- القوة الاقتصادية والأمن- ثمة علاقة متبادلة بين الأمرين، إذ من دون الأمن لا يتحقق النموّ الاقتصادي، ومن دون اقتصاد قويّ لا يمكن تمويل الحوائج الأمنية لفترة طويلة.
2- القوة الاقتصادية وحيّز المناورة السياسية- تحظى الدول ذات المعدل العالي في الناتج للفرد، عادةً، بنفوذ سياسيّ كبير في حين يتقلص حيّز المناورة السياسية لدى الدول ذات المعدل المنخفض في الناتج للفرد. مثلاً- تشكل حاجة إسرائيل إلى المساعدات الأميركية أحد عوامل تقليص حيّز المناورة المتاح لها.
3- القوة الاقتصادية والاستقرار الداخليّ- الدول ذات الناتج المنخفض للفرد والفقر الشديد معرضة لعدم الاستقرار الداخليّ والهزّات السياسية. وتوجد في إسرائيل عدة مؤشرات اقتصادية مقلقة على المدى البعيد، مثل الفجوات الكبيرة في توزيع المداخيل بين الفئات الاجتماعية واتساع نطاق الفقر. وفي ظلّ غياب حلّ لهذه المشاكل من شأن الاستقرار الداخليّ لدولة إسرائيل أن يتضعضع في المستقبل.

بداية يشدّد المؤلفان على أنّ الأعوام الأربعة الفائتة، منذ سنة 2003، التي تحقق فيها نمو اقتصادي في إسرائيل، ينبغي ألاّ تضلل أحدًا بشأن اتجاهات تطوّر الاقتصاد الإسرائيلي، في محور معدّل الناتج للفرد. كما أن البون الاقتصادي بين إسرائيل وبين المجموعة المتصدرة للائحة الدول المتقدمة تتسع ولا تتقلص.

وبمنظور ثلاثين عامًا إلى الوراء فإنّ الناتج الواقعي للفرد في إسرائيل- وهو المؤشر المتعارف عليه للمناعة والقوة الاقتصادية ولمستوى الحياة المدنية- ارتفع بـ 62%، بالمقارنة مع ارتفاع بنسبة 300% في الناتج للفرد في سنغافورة و250% في إيرلندا و96% في اليابان و90% في الولايات المتحدة و80% في ألمانيا ومجموعة أخرى من دول أوروبا الغربية. ومن بين مجموعة الدول العشرين الغنية "كان النمو الاقتصادي في ثماني عشرة دولة أسرع مما هو عليه في إسرائيل، بمصطلحات النمو في الناتج للفرد".

وإنّ اختصار فترة المقارنة لتصبح بين السنوات 1995- 2006 لا يغيّر الصورة السالفة نحو الأفضل، وإنما على العكس. فقد حظي مواطنو مجموعة الدول الأكثر تطورًا خلال العقد الماضي بنمو متراكم بنسبة 22% في الناتج للفرد، في حين كانت نسبة النمو المتراكم في إسرائيل 12% فقط.

يشار إلى أن سنغافورة وإيرلندا، اللتين تطمح إسرائيل في أن تكون مشابهة لهما اليوم، كانتا قبل ثلاثين عامًا أكثر فقرا من إسرائيل. وقد استطاعت هاتان الدولتان تجاوز إسرائيل أيضا لتنضما إلى قمة الدول المتصدرة. فضلاً عن ذلك فإن أدنى نسبة تشغيل موجودة في إسرائيل (مقارنة مع مجموعة الدول المذكورة)، إذ أن 37% فقط من مجموع سكان إسرائيل يعملون، مقارنة مع 47% في دولة غربية نموذجية. وفي إسرائيل أدنى نسبة سكان مسنين (10% فقط) وأعلى نسبة من الأولاد (حوالي 28%). نتيجة لذلك فقد سجلت في إسرائيل أعلى نسبة تناسب بين الذين يعملون والذين يحتاجون إلى إعانة: عامل واحد يعين (أو يعيل) بالمتوسط 7ر1 مواطن، بينما في الدول العشرين المتصدرة يعين بالمتوسط عامل واحد مواطنا واحدا لا أكثر.

يقول إيفن ولاندا إنه ما من مفرّ أمام الاقتصاد الإسرائيلي إلاّ أن يعدو إلى الأمام بسرعة كبيرة، حتى لا يحقق تخلفا آخر مقابل الدول المتصدرة، والتي لا تثقل كاهلها أعباء كالتي تثقل كاهل إسرائيل: الأمن والمديونية العامة (الثقيلة الوطأة حتى الآن) وبالأخص في ضوء واقع أن إسرائيل تعيش "اقتصادين مختلفين"- "اقتصاد متطور وغني، واقتصاد نام وفقير". ويؤكدان أن إسرائيل "متصدرة في اللامساواة في المداخيل" وأن الفجوات الاجتماعية والاقتصادية الكبيرة في إسرائيل خلقت مجتمعا متقاطبا توجد فيه "حيزات سكانية ناجحة وحيزات سكانية تعاني من فقر تعليمي وانعدام الفرص".

ففي إسرائيل ثمة اقتصاد يعتمد على صناعات المعلومات والتكنولوجيا، وهو اقتصاد يركض إلى الأمام، تصديري، مفتوح ومتحرك يتمتع بنسبة عالية من التشغيل ومستوى معيشة غربي بكل معنى الكلمة. وثمة إلى جانبه اقتصاد آخر يعتمد على الصناعات التقليدية التي لا تستطيع دفع أجور عالية، كما يفتقر أبناؤه وبناته إلى المهارات الملائمة لطلبات سوق العمل العصرية ولذا فإن نسبة مشاركتهم في قوة العمل متدنية للغاية.

ويلخص لاندا وايفن الاتجاه التاريخي للاقتصاد الإسرائيلي بأنه مقلق جداً على الرغم من بضعة أعوام من النمو. وإن مفتاح الحل يكمن في تحقيق زيادة حثيثة لناتج الفرد في إسرائيل.

إنّ النموّ الاقتصاديّ المكين هو عامل ضروري وحيوي لجعل إسرائيل دولة قوية ومتطورة في مقدورها أن تحقق غاياتها الوطنية في مجالات السياسة الداخلية والخارجية والأمن. وفي الأعوام الثلاثة الفائتة طرأت على الاقتصاد الإسرائيلي تطورات بارزة ونموّ سريع. مع ذلك لا تزال إسرائيل متخلفة عن الدول العشرين الأكثر تطورًا في العالم، من ناحية مؤشرات هامة مثل نسبة المشاركة في قوة العمل ونسبة الذين يعينهم (يعيلهم) كل عامل ونسبة البطالة والناتج للعامل الواحد، وجميع ذلك ينعكس على وجود ناتج منخفض نسبيًا للفرد.

أمّا الكوابح الرئيسة أمام نموّ الاقتصاد الإسرائيلي فهي: عدم استنفاد قوة العمل الإسرائيلية، والأوضاع السياسية والأمنية، وحجم القطاع العام قياسًا بالقطاع الخاص، والأعباء الضريبية المفروضة على الفئات الوسطى، وديون الدولة.


يرى المؤلفان أن من الأفضل لإسرائيل أن تنتهز فرصة النمو الحالية لاتخاذ "خطوات جريئة" تسهم في تطورها الاقتصادي- الاجتماعي. وفي رأيهما في وسع إسرائيل أن تحسن على نطاق كبير قوتها الاقتصادية- الاجتماعية (تقليص نطاق الفقر والفجوات الاجتصادية) إذا ما نجحت في رفع معدّل الناتج للفرد لدى جميع الشرائح السكانية. وفي سبيل إنجاز ذلك يتعيّن عليها أن تتركز في المجالات الثلاثة التالية:
1- رفع نسبة سكانها العاملين- في سبيل رفع نسبة الشغيلة بين عموم السكان من 37% إلى 47% (معدل نسبة الشغيلة في الدول العشرين الأكثر تطورًا) يتوجب على إسرائيل أن ترفع بصورة مكثفة المشاركة في قوة العمل من خلال وسائل تربوية أو وسائل تشجيع الخروج إلى العمل.
2- رفع الناتج للفرد العامل- لتحقيق ذلك يجب التركيز على الفئات الضعيفة من ناحية اقتصادية بين السكان (المقصود العرب واليهود الحريديم بالأساس) وتحسين ظروف عملها وأجورها. ويستدعي ذلك أيضًا تحسين مستوى التعليم والتأهيل في المجالات ذات الصلة.
3- إيجاد أماكن عمل نوعية بصورة مكثفة- إنّ تحقيق ذلك رهن بجذب إسرائيل لشركات عالمية كي تستثمر في إقامة مصانع في إسرائيل، من خلال عرض شروط تنافس الشروط المعروضة في دول مثل سنغافورة، التي لا تجبي ضريبة شركات. وربما يتعيّن على إسرائيل أن تفحص احتمال عرض ضريبة شركات سلبية على الشركات الأجنبية التي من شأنها أن تضمن عملاً نوعيًا في إسرائيل.


إذا ما تجوهرنا في المعطيات التي تقدمها هذه "المذكرة"، في شأن الأوضاع الاقتصادية- الاجتماعية في إسرائيل، فلا بدّ من ملاحظة ما سبق أن قال به حتى عدد من المحللين الإسرائيليين، ومفاده أن هذه الأوضاع تعدّ سببًا وجيهًا لحدوث انفجار اجتماعيّ.

من ناحيتهما يرى مؤلفا "المذكرة" أن عدم انهيار إسرائيل من الداخل- نتيجة لانفجار اجتماعيّ- يعود أكثر شيء إلى عاملي التوتر الأمني و"الخطر الوجودي"، فالطبقة "المزدهرة" فيها تحيا بتعايش مشوب بالتوتر لكنه مستقر، مع ربع السكان القابعين في فقر مدقع...

يظلّ السؤال: إلى متى؟.

لاندا وإيفن غير متفائلين، وعلى حدّ قولهما فإنه من دون حدوث تحول أو انعطافة سوف تتعمق الصراعات والتوترات وسيزداد خطر "الانفجار الاجتماعي".

بيد أنّه على صلة بهذه المسألة تحديدًا لا مهرب من تكرار أنّه منذ إقامة إسرائيل تدأب حكوماتها المتعاقبة على تكريس مسلمة صنمية مؤداها أن هناك "رايتين" لإسرائيل لا تستطيع في الظاهر- وما زالت لا تستطيع حتى الآن- رفعهما معًا في آنٍ واحد. الراية الأولى هي "راية الأمن" والمرتبطة في شكل أساس باستمرار أو حل النزاع الإسرائيلي- العربي- الفلسطيني؛ أما الراية الثانية فهي "راية الرفاه الاجتماعي والاقتصادي".

ولغاية هذا اليوم ما انفك الأمن هو القضية المركزية (بل وحتى الوحيدة) التي تقف على رأس أجندة سلطات الدولة، وبتأثير هذه السلطات الحاسم، ما انفك الأمن على رأس أجندة مواطني الدولة اليهود أيضًا.
وقد كان واضحًا، في كل مرة يتمّ فيها بحث تخصيص الموارد، أن المؤسسة الأمنية والعسكرية ستحصل على الميزانية التي تطلبها. وتجدر الإشارة هنا إلى أن أية جهة- بمن في ذلك ذوو اليد الطولى من كبار موظفي وزارة المالية- لا تستطيع تفحص تفصيلات طلب الميزانية العسكرية-الأمنية أو مراقبة إنفاق الأموال.
وقد نجم تفضيل الجيش وأجهزة الأمن على باقي أجهزة الدولة (وخاصة جهاز الرفاه الاجتماعي)، بالدرجة الأولى، عن قدرة رجالات المؤسسة الأمنية على إقناع المواطنين الإسرائيليين بأن الدولة تواجه تهديدات وجودية، وأن المؤسسة الأمنية هي مؤسسة ناجعة ورادعة وقادرة على أن تتصدى بنجاح لهذه التهديدات. ورغم ما أظهرته الحرب على لبنان (صيف 2006) من عجز المؤسسة الأمنية الإسرائيلية عن توفير الردع الذي تتحدث عنه، فإن معظم مواطني إسرائيل ما انفكوا يكنون التأييد والتقدير للجيش وللمؤسسة الأمنية.

إنّ هذه الحقيقة، إضافة إلى السيطرة المطلقة للمؤسسة الأمنية على التفكير والتخطيط العسكريين، يتيحان لهذه المؤسسة مواصلة التمتع من تخصيص الموارد وفقًا لرغباتها، لا بموجب الاحتياجات الواقعية. وهذا هو أحد العوامل الذي يزيد تدهور الأوضاع الاجتماعية، وفق ما تؤكد هذه "المذكرة" أيضًا، وإن كانت تقترح حلولاً تتلاءم أكثر شيء مع ما يتطلبه... عصر العولمة فقط.

[نشرت هذه القراءة في مجلة "قضايا إسرائيلية"]

التعليقات