ليلة تلاحق ليلة...

-أثناء "تجربة" متواضعة في سجن شطة، شاءت الصدفة، وربما ليست وحدها، أن يقع بين يدي كتاب في الأدب "العبري" تحت عنوان "ليلا يردوف ليلا"، وترجمته الحرفية "ليلة تلاحق ليلة" بمعنى "ليلة تتلو ليلة". ووجدتني مندفعًا إلى قراءته بنهم...

ليلة تلاحق ليلة...

نشر الزميل الراحل هاشم حمدان هذا النص يوم السابع من تشرين الثاني/ نوفمبر 2005


أثناء "تجربة" متواضعة في سجن شطة، شاءت الصدفة، وربما ليست وحدها، أن يقع بين يدي كتاب في الأدب "العبري" تحت عنوان "ليلا يردوف ليلا"، وترجمته الحرفية "ليلة تلاحق ليلة" بمعنى "ليلة تتلو ليلة". ووجدتني مندفعًا إلى قراءته بنهم...

ولشدة المفاجأة كان الكتاب "ترجمة" مقلوبة تصل إلى درجة قلب الحقائق، بدقة متناهية، واستبدال الأدوار لقصة "هبوب الريح" الفلسطينية المأثورة. بمعنى أن القصة تقول لقارئها بأن مجرمي العصابات الصهيونية أصبحوا مناضلي حرية ضد الاستعمار البريطاني، وأن البريطانيين ساندوا العرب في القتال ضد العصابات الصهيونية، و"الزانية" الصهيونية "طالي" التي "استغلت" و"استعملت" أنوثتها لخدمة الأهداف الصهيونية تحولت إلى فتاة عربية تدعى طلّة!! والعرب الذين وقعوا في قبضة الاستعمار البريطاني وذاقوا شتى صنوف الهوان والتعذيب في المعتقلات لحملهم على الاعتراف على رفاقهم في المقاومة وجرى إعدامهم، تحولوا، بحسب القصة الجديدة، إلى عملاء للبريطانيين، في حين خاض "أبطال" العصابات الصهيونية، بحسب القصة، تجارب تحقيق قاسية جدًا وفضلوا الموت على الكشف عن أسرار "المقاتلين الصهاينة من أجل الحرية"، وباختصار فإن الصهيوني أخذ الدور العربي لهبوب الريح، في حين حمّل العرب أوزار الدور الصهيوني والجرائم الصهيونية!

وهنا، وإذ تعيد هذه القصة، لسبب ما، إلى الأذهان القصيدة العربية المشهورة "لامية السموأل" للشاعر اليهودي، السموأل بن عادياء، التي حفظها وصانها العرب قرونًا طويلة، مثلما صان يهودية الشاعر وشهامته ولا يزال العرب يتناقلونها ضمن درر الشعر العربي، وإن لم يتبجحوا أو يشيروا، على الأقل، إلى أنها كانت نتاج المناخ الشعري والفضاء العربي السائد في حينه، وأنفوا من إنكار يهودية الشاعر أو سرقة قصيدته، هنا.. يبقى الأهم هو إن إحدى دلالات قلب قصة "هبوب الريح" تشير إلى أننا أمام حالة من التأزم نتيجة نقص في المركب التاريخي تدفع باتجاه الهبوط إلى أسفل درك النهب الحضاري، ويخلق حالة من "الخجل الوقح" من التاريخ، وهذا النوع من الخجل لا يؤدي إلى تأنيب الضمير بل لا يؤدي إلى محاولة إنكاره والتنصل منه فحسب، وإنما إلى سرقة التاريخ الآخر الذي كتب بدماء المقاومة المشروعة بوجه الغزاة عن طريق قلب الحقائق التاريخية باستبدال تنسيبها، ربما كمحاولة متعثرة تدخل في إطار السعي إلى خلق أدب مقاوم مزعوم يصور نكبة فلسطين على أنها "حرب تحرير لأرض إسرائيل من الاستعمار البريطاني"!

وفي هذا الإطار تجدر الإشارة إلى الأهمية التي أولتها الحركة الصهيونية، متجسدة في إسرائيل، إلى ضرورة خلق تاريخ مشترك ونفسية مشتركة وتراث مشترك وعادات وتقاليد مشتركة لجموع اليهود الذين يتم استجلابهم إلى البلاد من شتى أصقاع الأرض، كأدوات مكملة لعملية "بناء أمة" التي كان الجيش والخدمة العسكرية أحد أهم أعمدتها بوصف الجيش، برأي بن غوريون، "هو بوتقة الصهر الحقيقية وأداة توحيد الأصول والانتماءات المختلفة من دول وثقافات مختلفة خلف زي رسمي موحد يصنع الصهيوني الجديد، المقاتل العبري"! (أنظر الفصل الثاني من كتاب د. عزمي بشارة "من يهودية الدولة حتى شارون").

ويبدو أن التحصيل الحاصل في خلق عوامل بناء الأمة بحكم إقامة "الدولة"، لم يكن كافيًا، فكانت هناك حاجة لتجنيد العرجا والمكسورة وكل ما هب ودب من أجل هذا الهدف، ربما لأن هناك من يعتقد أن الحركة الصهيونية سينتهي "دورها" إن آجلاً أم عاجلاً، وعندها ستكون هناك حاجة ماسة للانطلاق من حقائق ثابتة وراسخة على الأرض، واستبدال "الوجه البشع" للصهيونية والانتقال من الحالة "الاستثنائية" إلى الوضع الطبيعي، الذي يفترض أن تكون فيه "إسرائيل" جزءًا من نسيج وفضاء المنطقة بلا منازع...

وبينما لا تزال الليلة تلاحق الليلة... لا يزال يبعث على الحنق والدهشة والسخرية والاستغراق في الضحك في آن، أن أعمال النهب وصلت إلى المطبخ الفلسطيني، إذ يقدم الحمص، مثلاً، أو الفلافل أو الكباب، في الفنادق السياحية والمطاعم الإسرائيلية كمأكولات إسرائيلية، وبدون أن يتكلف أحد عناء ترجمة الأسماء، وإنما الاكتفاء بجعل الحاء خاءًا في لفظ حمص وإضافة واوين؛ الأولى بعد الحاء والثانية بعد الميم، وتفخيم الفاء وتقصير الألف في لفظ الفلافل، واقتراب الكاف من القاف مع تقصير الألف في الكباب!

وحتى "التبّولة" التي لا ينكر الفلسطينيون أصلها اللبناني، لم تكن بمنأى عن شراك النهب وأحابيل المؤامرة، فباتت تقدم على أنها سَلَطَة إسرائيلية، والمصير نفسه ينتظر الكبة واللبنة ومناقيش الزعتر... لتقدم لسائحين لا يخفون ابتساماتهم الطائشة التي تفيض بالمجاملة والشراهة، ولا تعبر سوى عن رغبتهم في تذوق مأكولات جديدة وإبداء إعجابهم ودهشتهم بما وصل إليه مشروع "إسرائيل" في وسط صحراء عربية قاحلة!

ووصلت الوقاحة إلى حد كتبت فيه الصحافة الإسرائيلية أن تجفيف الفواكه كالتمور والمشمش والتين والعنب وما إلى ذلك، قد تعلمها العرب من "العبرانيين" في الأزمان الغابرة، وأنه من المفارقة أن يضطر "الشعب" اليهودي بعد أن فارقها ونسيها إلى تعلمها مجدداً من العرب، في إطار عملية مبتذلة ورخيصة يجري تصويرها وكأنها محاولة حضارية تهدف إلى العودة إلى الجذور!

وفي هذا السياق، يدخل سعي بعض رجال "الأكاديميا الإسرائيلية" من خريجي الكليات المختصة بالعقاقير والأعشاب الطبية، ولهاثهم خلف العشّابين (المعالجين بالإعشاب) العرب، في محاولة للوقوف على أنواع بعض النباتات المستخدمة في العلاجات الطبيعية في أرض فلسطين، ليجري إخضاعها للبحوث العلمية من أجل إنتاج أدوية "إسرائيلية" مستخلصة من نباتات "تتميز بها أرض إسرائيل"، وتسوق في إطار إعادة إنتاج موروث حضاري "عبراني" قديم تعلمه العرب منهم لاحقاً، وتصور كأنها عملية استرداد حضارة مفقودة!

كما من غير المفاجئ أن نستمع إلى موسيقى عربية تصدح، في حين أن الكلمات هي كلمات عبرية... وليس من المفاجئ أن نستمع إلى يهودي ضارب على "الدربوكة" (كما يسمون الدربكة) وينتقل من قرية عربية إلى أخرى بحثًا عن "الضاربين" العرب لتعلم المزيد منهم... لنجد أنها ستصبح لونًا من ألوان الموسيقى الإسرائيلية... وليس من المفاجئ الاهتمام بالدبكات الشعبية "الشمالية" و"الشعراوية" وما إلى ذلك، ربما، مع تعديلات طفيفة قد لا تتجاوز الزي وحده، قد تصبح جزءًا من الفولكلور الإسرائيلي...

ولا تزال الليلة تلاحق الليلة....

التعليقات