الصهيونية: الترانسفير والأبارتهايد (الحلقة 3)/د.محمود محارب

-

الصهيونية: الترانسفير والأبارتهايد (الحلقة 3)/د.محمود محارب
تهدف هذه الدراسة متابعة وتحليل مواقف قادة الحركة الصهيونية ومفكريها منذ هرتسل وحتى شارون حول ما يعرف صهيونيا "بالمشكلة الديموغرافية" وفي هذا السياق ستتابع الدراسة الحلول التي طرحها قادة ومفكرو الصهيونية لهذه "المشكلة" والتي تمثلت في اتباع سياسة الترانسفير وتنفيذه على أرض الواقع. وستلج الدراسة إلى العوامل التي قادت شارون إلى تبني فرض نظام فصل عنصري في الأراضي الفلسطينية .

بعد مرحلة التبشير لفكرة الطرد، والمناداة بها، وتبنّيها، خطت الحركة الصهيونية خطوة أخرى نحو هدفها، بتعيينها لجنة متخصصة اسمتها "لجنة النقل"، ومهمتها اجراء دراسات ووضع خطة عملياتية شاملة لـ "نقل" الفلسطينيين, وطردهم من فلسطين, عندما تسنح الفرصة.

لم يقتصر التبشير لفكرة طرد الفلسطينيين، والمناداة بها، ووضع الخطط العملياتية لتنفيذها، على الحركة الصهيونية ومجتمع المهاجرين والمستوطنين في فلسطين، بل امتد ليشمل فئات وشرائح واسعة في أوروبا وأميركا، لها نفوذها في دولها. فعلى سبيل المثال، طالب حزب العمّال البريطاني، والذي خضع للنفوذ الصهيوني لفترة طويلة من الزمن، في مؤتمره العام الذي عقد في حزيران ( يونيو ) 1944 ، ليس بطرد الشعب العربي الفلسطيني من وطنه فحسب، بل بتوسيع حدود الدولة اليهودية أيضاً، التي طالب باقامتها، لتشمل – علاوة على فلسطين – مناطق واسعة من شرق الأردن وسوريا ولبنان (17). كذلك ، أيّد اليهودي المتموّل، ادوارد نورمان، الذي يوصف بأنه غير صهيوني، طرد الفلسطينيين إلى العراق، وعمل على تنفيذه. وفي اطار مساعيه إلى تحقيق هذا الهدف، جند نورمان العديد من أصحاب النفوذ في أوروبا، وكان أحدهم الصحافي الشهير مومنتغيو بيل ذو العلاقات الحسنة مع القيادة البريطانية. وفي اطار هذه المساعي، زار مونتغيو العراق لدراسة الوضع عن كثب واجتمع مع أعضاء في الحكومة العراقية، لاقناعهم بفكرة الطرد، وحضهم على قبول الذين يزمع طردهم مقابل مبالغ مالية، غير أن مساعيه باءت بالفشل(18).

بالإضافة إلى هذه المحاولات، جرت محاولة أخرى كان لها تأثيرها الكبير في الرأي العام الأميركي، لجهة تقبّل فكرة طرد الفلسطينيين من وطنهم. وكان البطل الظاهري لهذه المحاولة الرئيس الأميركي السابق هربرت هوفر (1925-1933) الذي دعا إلى نقل الفلسطينيين إلى العراق والعمل على اقامة صندوق دولي يقدّم المساعدات المالية إلى العراق مقابل قبولها بتهجير الفلسطينيين إليها.

وقد كان صاحب الفكرة والمبادرة الصهيوني اليهودي الياهو بن حورين، أحد كوادر الحركة التصحيحية الصهيونية الذي عمل صحافياً في الولايات المتحدة ومستشاراً للمجلس الصهيوني الأميركي لشؤون الشرق الأوسط. وقد نشر أسس خطته للمرة الأولى، في كتابه "الشرق الأوسط" الذي ظهر سنة 1943، وطالب فيه بطرد الفلسطينيين إلى العراق. وفي أواخر العام 1943، اجتمع الياهو بن حورين مع الرئيس الأميركي السابق، هوفر، وأطلعه على خطته. وقد تحمّس هوفر لهذه الخطة، وبشّر لها من على صفحات صحيفة "نيويورك تايمز"، في اطار مقابلة أجرتها معه الصحيفة (19). وبعد نشر تلك المقابلة عرفت هذه الخطة المطالبة بطرد الفلسطينيين إلى العراق بـ "مشروع هوفر".

وقد أثار هذا المشروع اهتماماً ملحوظاً في الأوساط الأميركية، ونال موافقة العديد من أعضاء مجلس الشيوخ والنواب وأدباء وصحافيين وفئات أخرى لها تأثيرها في المجتمع الأميركي. وعقب انتهاء الحرب العالمية الثانية واندلاع الحرب الباردة، حاول هوفر دمج مشروعه بمشروع مارشال المعروف، وتخصيص خمسين مليون دولار من ميزانية مشروع مارشال لمشروعه الخاص، لكنه فشل(20).
ومن الجدير بالذكر أن المصادر الإسرائيلية ذكرت أن الحكومة الإسرائيلية أجرت، في العام 1949، مفاوضات مع العميد حسني الزعيم، الذي كان قد وصل لتوّه الى سدة الحكم في سوريا بعد انقلابه العسكري في ثلاثين آذار 1949، حول نقل اللاجئين الفلسطينيين إلى سوريا. وأضافت هذه المصادر أن الزعيم اقترح توطين أكثر من 350 ألف لاجئ فلسطيني في سوريا، غير أن المفاوضات بين الطرفين تعرقلت وباءت بالفشل.

بعد أن تشكل اجماع صهيوني شامل حول طرد العرب الفلسطينيين، وعند وصول القضية الفلسطينية ساعة الحسم، في العامين 1947 و1948 ، وفي ظل تقبل فئات ونخب ذات نفوذ في أوروبا وأميريكا فكرة طرد الفلسطينيين من فلسطين, قامت التنظيمات العسكرية الصهيونية، ومن ثمّ الجيش الإسرائيلي، بطرد أكثر من 750 ألف فلسطيني، عشية، وبعد، إقامة إسرائيل.


لم تكد حرب العام 1948 تضع أوزارها حتى ظهرت أصوات تطالب، علانية، بطرد البقية المتبقية من الفلسطينيين من إسرائيل حديثة التأسيس. وكان أكثر الأصوات إلحاحاً وإصراراً على استكمال عملية الطرد صوت د. ابراهام شارون الذي كرّس السنوات المتبقية من حياته للتحريض والدعوة إلى التخلص من العرب الفلسطينيين. ففي العام 1949، نشر شارون أفكاره في كتيِّب بعنوان "ملاحظات عنصرية بشأن العرب"، علّل فيه مواقفه العنصرية الداعية إلى طرد العرب بتشديده على عدم إمكانية التعايش السلمي ما بين الأكثرية اليهودية والأقلية القومية العربية. فالتعايش السلمي بين الشعبين يتناقض، حسب اعتقاده، مع طبيعة الانسان، لأن طبيعة البشر تميل إلى انسجام الفرد مع بني قومه، وليس مع الطرف المضاد. واستخلص أن بقاء عرب في إسرائيل، وإن كانت نسبتهم ضئيلة جداً، تخلق دولة ثنائية القومية في الواقع، الأمر الذي يتناقض مع جوهر الصهيونية. ومن أجل وضع حلّ نهائي للمشكلة التي سيطرت على ذهنه، طالب شارون باقتلاع البقية المتبقية من العرب الفلسطينيين وطردهم إلى الدول العربية. وفي العام 1950، ناقش شارون، مرة أخرى، مسألة وجود عرب في إسرائيل، وانتقد، بشدة، سياسة الحكومة الإسرائيلية التي اتّهمها بأنها ترفض الطرد، وتقبل بوجود العرب، وتعمل على اعداد، وخلق، زعامة من بين صفوفهم موالية لها(21). وفي العام 1951، عاد شارون وانتقد موقف الحكومة الإسرائيلية من العرب الفلسطينيين في اسرائيل، وخصوصاً لأنها لم تطرد الفلسطينيين من منطقة المثلث، التي سلّمها ملك شرق الأردن لإسرائيل في نيسان (أبريل) 1949 (22).

وفيما كان شارون وغيره من الصهيونيين يكيلون التهم للحكومة الإسرائيلية، بدعوى تقصيرها في طرد البقية المتبقية من الفلسطينيين، سعت الحكومة الإسرائيلية، التي كانت تتغنى، علناً، بشعارات السلام، إلى طرد الفلسطينيين من إسرائيل دون إثارة ضجة. ففي الفترة الممتدة ما بين العام 1949 و 1953 هجّرت السلطات الإسرائيلية سكان أكثر من 23 قرية عربية جديدة في الجليل والمثّلث وجنوب فلسطين إلى الدول العربية، ودمّرت قراهم (23). وعندما تبيّن للسلطات الإسرائيلية مدى صعوبة المضيّ قدماً في تهجير الفلسطينيين، لما يثيره هذا الطرد من ردود فعل، عربية ودولية، وضعت هذه السلطات مخططاً سرياً يهدف إلى طرد الفلسطينيين إلى الأرجنتين وليبيا.

ففي 25/8/1951، عقد يوسف فايتس، مدير دائرة الاحراج واستثمار الأراضي في الكيرن كاييمت، والذي كرّس معظم حياته للدعوة والعمل على طرد الفلسطينيين، اجتماعاً مع اسحق نافون، أحد نشطاء حزب مباي، والذي أصبح، فيما بعد، رئيساً لإسرائيل، ويعقوب تسور، سفير إسرائيل في الأرجنتين في تلك الفترة، والذي أصبح وزيراً في الحكومة الإسرائيلية، للبحث في خطة فايتس الرامية إلى تهجير العرب الفلسطينيين من الجليل (24). وبعد ثلاثة أيام، اجتمع فايتس وتسور مع وزير الخارجية الإسرائيلية، موشي شاريت، للغرض ذاته. وفي نهاية الاجتماع، تقرر إرسال فايتس إلى الأرجنتين لتقصّي الوضع، ودراسة إمكانية توطين الفلسطينيين في مناطق زراعية هناك، وذلك بعد اطلاع رئيس الوزراء الإسرائيلي، بن غوريون، على تفاصيل المشروع (25). وفي 31 آب (أغسطس)، صادق بن – غوريون على خطة التهجير التي اقترحها فايتس (26).

وفي شتاء العام 1951، سافر فايتس إلى الأرجنتين واستطاع إيجاد قطعة أرض كبيرة مساحتها 600 ألف دونم يملكها يهودي صهيوني أبدي استعداده لوضعها تحت تصرّف الحكومة الإسرائيلية مقابل مبلغ من المال تمهيداً لتنفيذ الترحيل (27). بعد دراسته للأوضاع في الأرجنتين ونجاحه في ايجاد قطعة أرض كبيرة هناك، لم يبق أمام فايتس لتنفيذ الترحيل سوى مقابلة الضحايا ومحاولة إقناعهم بقبول التهجير، بتقديمه إليهم شتّى المغريات. ففي آذار (مارس) 1950، زار فايتس وبعض الرسميين الإسرائيليين قرية الجش الجليلية واجتمع مع بعض سكانها العرب، محاولاً اقناعهم بالقبول بمشروعه والهجرة إلى الأرجنتين. وبعد أن أسهب فايتس، في حديثه، عن الأرجنتين ووصفها بأنها جنّة الله على الأرض، ردّ عليه أحد الفلسطينيين قائلاً: "لكن لا توجد بلاد أفضل من بلادنا هذه. إن جبالنا أروع من سهولهم. فكل صخرة تخرج نبتاً وكل حجر يؤتي ثمراً".

وقد وصف فايتس شعوره، لدى سماعه حديث الفلسطيني الذي لم يعارضه أي من الحاضرين، بأنه أصيب بالقشعريرة والغثيان، بعد أن تيقّن استحالة تهجير الفلسطينيين(28). لم تتوقف مساعي الحكومة الإسرائيلية لتهجير الفلسطينيين بعد فشل مشروع فايتس. فقد ظلت "لجنة النقل"، والتي أطلق عليها أحياناً "لجنة اللاجئين"، تعمل لايجاد السبل للتخلّص من العرب الفلسطينيين في اسرائيل وكذلك توطين اللاجئين الفلسطينيين في الدول العربية(29). وكشف فايتس، في مذكراته، النقاب عن تلك اللجنة، وذكر أنها ضمّت، بالإضافة إليه، كثيراً من المتخصصين والقياديين الإسرائيليين، منهم عزرا دنين والياهو ساسون ويهوشواع بلمون وتيدي كوليك. وأضاف أن هذه اللجنة وضعت خطة، صادقت عليها الحكومة الإسرائيلية في نهاية العام 1955، تقضي بتهجير اللاجئين الفلسطينيين إلى ليبيا. وقد سافر كثير من الرسميين الإسرائيليين إلى ليبيا ، في العامين 1955 و 1956، لدراسة الوضع هناك، وشراء الأراضي لتوطين اللاجئين الفلسطينيين فيها (30). غير أن هذه الخطة "الطموحة" لم تلاق النجاح، كسابقاتها.


يتبع....




(17) عبد الحفيظ محارب، هاغاناه، اتسل، ليحيى؛ العلاقات بين التنظيمات الصهيونية، المسلحة، 1937- 1948، بيروت: مركز الابحاث-م-ت-ف. 1981، ص 211- 212.
(18) يوسف ندفه، "خطط تبادل السكان لحل القضية الفلسطينية، غيشر، العدد 92-93.
(19) المصدر نفسه.
(20) المصدر نفسه.
(21) أبراهام شارون. "خروج اسرائيل"، بطيرم، 10/11/1950.
(22) أبراهام شارون. "فرعون اسرائيلي"، بطيرم، 15/3/1951.
(23) صبري جريس، العرب في اسرائيل (عبري)، حيفا: دار الاتحاد، 1966.
(24) يوسف فايتس، يومياتي (عبري)، المجلد الرابع، ص154.
(25) المصدر نفسه.
(26) المصدر نفسه.، ص 164.
(27) المصدر نفسه، ص 168.
(28) المصدر نفسه، ص 187.
(29) المصدر نفسه، ص 300.
(30) المصدر نفسه، ص 324- 330.

التعليقات