لعنة حرب غزة!../ أنطوان شلحت

-

لعنة حرب غزة!../ أنطوان شلحت
(●) تشير دلائل كثيرة إلى أن إسرائيل ربمـا ستنجح في التملص من المستحقات القانونية الدولية لتقرير „لجنة غولدستون” [لجنة الأمم المتحدة التي تقصّت وقائع عملية „الرصاص المصبوب” العسكرية الإسرائيلية في غزة في أواخر سنة 2008]، لكن حتى في حال حدوث ذلك فإنه لا يعني على الإطلاق انتفاء القيمة الإضافية لهذا التقرير، والتي لا تعتبر منحصرة فقط في تبعاته القانونية، مع كل أهميتها.

إن قيمته الحقيقية كامنة، أساسًا، في تأديتـه إلى اهتزاز صورة إسرائيل في العالم كافة، وخصوصًا في العالم الغربي الذي تتباهى بالانتماء إليه، وبكلمات أشدّ دقة تأديته إلى تدهور هذه الصورة نحو حضيض غير مسبوق، وفقًا لرأي كبير المعلقين في صحيفة „هآرتس”، يوئيل ماركوس، ولآراء غيره من المعلقين والمحللين في إسرائيل.

من ناحية ثانية لا يمكن التقليل من قيمة أخرى لهذا التقرير هي إعادة الاعتبار، بشكل ما، إلى مكانة الأسرة الدولية، وإلى تأثيرها على „بؤر التوتر” في العالم.

وتنطوي هاتان القيمتان على ماهية كبيرة بمجرّد أن يتابع المرء ما يترتب عليهما من سجالات ومناقشات في داخل إسرائيل نفسها، أولاً من ناحية احتمال التأثير على مستقبل القرار السياسي- العسكري الإسرائيلي، وثانيًا من ناحية إعادة الحرب على غزة إلى صدارة الأحداث وواجهة الجدل العام، لا سيما داخل حقل من المعاني يحاول أن يدرجها في سياق السياسة الإسرائيلية إزاء الفلسطينيين عمومًا.

وفيما يتعلق بهذه النقطة الأخيرة، فإن النقد الأكثر حدّة تجسّد، مثلاً، في تعليق حديث كتبه سيفر بلوتسكر، وهو أحد كبار المحللين السياسيين والاقتصاديين في صحيفة „يديعوت أحرونوت” الأوسع انتشارًا، وأكد فيه أن الحرب على غزة لم تحقق أهدافها المعلنة، وكانت تداعياتها السياسية مدمرة (عدد الصحيفة الصادر في 15/10/2009).

ومما كتبه في هذا الشأن: لم يكن تقرير „لجنة غولدستون” مفاجئًا بالنسبة لي. ففي ذروة عملية „الرصاص المصبوب” كتبت مقالاً في صحيفة يديعوت أحرونوت قلت في ختامه ما يلي: „إذا لم ننتصر على حماس الآن، واكتفينا بردة فعل قاسية نعاقب من خلالها، عمليًا، السكان المدنيين الفلسطينيين، فسيُعتبر الإسرائيليون كائنات وحشية لا مكان لها وسط الشعوب المتحضرة، وستخرج حماس منتصرة”.

إن هذا هو ما حدث فعلاً، يضيف هذا المعلق، فعملية „الرصاص المصبوب” لم تحقق أيًا من أهدافها المعلنة، حيث أنها لم تؤد إلى الإفراج عن [الجندي الإسرائيلي الأسير لدى „حماس”] غلعاد شاليط، ولم تسقط سلطة „حماس”، ولم تعزّز قوة المعتدلين [في صفوف الفلسطينيين]، ولم توقف إطلاق صواريخ القسام (توقف إطلاق الصواريخ فقط بعد أن وافقت إسرائيل على وقف إطلاق النار من جهتها، وبعد أن سلمت عمليًا بمنظومة تهريب الوسائل القتالية عبر الأنفاق).

ومن وجهة النظر السياسية فإن تداعيات هذه العملية العسكرية كانت مدمرة، فقد تدهورت أوضاع إسرائيل الدبلوماسية إلى حضيض غير مسبوق، وهناك احتمالات كبيرة بأن تُقدّم، في نهاية المطاف، إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي.

وحتى لو لم يُقدّم أي مسؤول فيها إلى المحاكمة في لاهاي، فإن تقرير „لجنة غولدستون” سيبقى محفورًا في وعي النخب المثقفة في الغرب، وفي ذاكرة الجماهير العريضة في العالم الإسلامي. وسيظل هذا التقرير، الذي يعتبر أحد أخطر لوائح الاتهام التي كتبت ذات مرة ضد إسرائيل، يلاحقها أعوامًا طويلة.

في واقع الأمر فإن نقد هذا المعلق وغيره لنتائج الحرب على غزة، وما أفضت إليه على المستوى السياسي والدبلوماسي، لا يُعدّ جديدًا، فثمة خلاف حادّ داخل المجتمع الإسرائيلي بشأن هذا الموضوع منذ أن وضعت الحرب أوزارها، وقد تعرضنا له في أكثر من سياق في السابق.

فما هو الجديد إذًا؟

أولاً، هناك „تفكير” بالطابع الذي يتعيّن على حروب إسرائيل في المستقبل أن تتسم به، من الناحية العسكرية الصرف. ويتوازى معه „تفكير” آخر بجوهر العمل الدبلوماسي، الذي ينبغي أن يلازم الحرب. ولعل مجرّد ذلك يعتبر انقلابًا على „القاعدة” التي كانت الممارسات الإسرائيلية تحتكم إليها على الدوام، والتي وضعها دافيد بن غوريون، المؤسس الفعلي لدولة إسرائيل ورئيس أول حكومة فيها، وفحواها „لا يهم ما الذي يفكر الأغيار [غوييم] به، وإنما الأهم هو ما يفعله اليهود”.

من جهة أخرى هناك من كشف عن أن تزامن تقرير „لجنة غولدستون” مع اندلاع الأزمة الأكبر في تاريخ العلاقات مع تركيا أدى إلى أن يتوصل رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، إلى استنتاج مفاده أن إسرائيل لا يمكن أن تسمح لنفسها، في المستقبل، إلا بخوض حروب قصيرة، وربما قصيرة جدًا. وبناء على ذلك ثمة احتمال بأن يؤدي هذا الاستنتاج إلى تداعيات عسكرية بعيدة المدى.

وعلى ما يبدو فإن نتنياهو يتماشى مع الخطّ الذي يتبناه وزير الدفاع الإسرائيلي، إيهود باراك، أيضًا. وقد سبق أن طالب هذا، في إبان عملية „الرصاص المصبوب” في غزة، بأن يتم التوصل إلى ما أسماه „اتفاق وقف إطلاق نار إنساني”، غير أن [رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق] إيهود أولمرت و[وزيرة الخارجية السابقة] تسيبي ليفني أصرّا على مواصلة العملية العسكرية. ويدعي باراك، خلال أحاديث مغلقة، بأنه لو تم قبول اقتراحه في حينه لما كانت قامت „لجنة غولدستون”، ولما كان هناك غضب كبير على إسرائيل في أوساط الرأي العام في تركيا ودول أخرى في العالم كافة.

ثانيًا، أدى التقرير إلى اتساع نطاق الجدل فيما يتعلق بشرعية الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1967، وذلك في ضوء تقويم ميّز بعض القراءات الإسرائيلية، وانطلق في صلبه من التركيز على حقيقة أن البُعد الأكثر إثارة في التقرير كامن في اعتباره وقائع الحرب على غزة حلقة في سلسلة الممارسات الإسرائيلية المستمرة إزاء الفلسطينيين منذ ذلك الاحتلال. ومع أن هذه القراءات لم تتفوّق على نفسها، أو على الأصح لا قبل لها بذلك، ولذا فقد تغاضت عما سبق احتلال 1967 من وقائع أدّت إليه، إلا أنها جعلت جانبًا من هذا الجدل متجوهرًا حول السياسة الإسرائيلية العامة التي تتمسك بالاحتلال والاستيطان، إلى درجة اعتبارهـا بمثابة خطر يتهدّد شرعية إسرائيل ذاتها.

فمثلاً أكد الكاتب آري شافيط، أحد أصحاب الأعمدة في صحيفة „هآرتس”، أنه إذا لم تجد إسرائيل، على وجه السرعة، الطريق الصحيحة لمواجهة الاحتلال، فإن هذا الاحتلال سيدفنها. وإذا ما كانت إسرائيل مضطرة، من الآن فصاعدًا، إلى استعمال القوة فستتعرّض للإدانة الكبيرة، وإذا لم تعالج قضية المستوطنات بصورة جادة، فستصبح مثل جنوب أفريقيا [في إبان نظام الأبرتهايد].

وقارن كاتب آخر، من الصحيفة نفسها، بين الاحتلال الأميركي في العراق والاحتلال الإسرائيلي، مشيرًا إلى أنه في حين أن الاحتلال الأول هو „ذو جدول زمني محدّد”، فإن الإشارات الصادرة من إسرائيل توحي بأن احتلالها في المناطق الفلسطينية هو احتلال أبديّ!.

وتجدر الإشارة إلى أن هذا الربط الجدلي بين الحرب على غزة وبين السياسة الإسرائيلية العامة إزاء الفلسطينيين أصبح، في إثر تقرير „لجنة غولدستون”، حجر الزاوية في الموقف الأوروبي أيضًا. وقد باءت محاولات نتنياهو، الهادفة إلى إلصاق تبعة الحرب على غزة بتسيبي ليفني، بالفشل الذريع، فهو الموجود الآن في سدة الحكم، والعالم يعتبره هو المسؤول، وليس الحكومة السابقة التي لم تعد في السلطة، بل إن بعض القادة الأوروبيين استخدموا التقرير من أجل معاقبة نتنياهو جراء رفضه تجميد البناء في المستوطنات.

عند هذا الحدّ لا بُدّ من طرح السؤال التالي: هل ستصبح إسرائيل، عقب الزوبعة الثائرة في ضوء ما ذُكر أعلاه، أقل عدوانية وأكثر امتثالاً للإرادة العالمية والشرعية الدولية؟.

من الصعب التكهن بجواب محدّد عن هذا السؤال، بل ربما ليس من المبالغة التكهن بأن يحدث عكس ذلك تمامًا، إذا ما أخذنا في الاعتبار مسألتين متصلتين:

الأولى- أن هناك شبه إجماع في إسرائيل على أن التقرير ينتقص، في التحصيل الأخير، من حق الدولة العبرية الشرعي في الدفاع عن نفسها وعن أمنها، وهو إجماع يحيل إلى جوهر „سياسة الأمن الإسرائيلية” التي ما زالت مرهونة بالقوة فقط، كما أثبتت الحرب على غزة.

الثانية- أن إضافة عنصر الدفاع إلى ركائز „سياسة الأمن الإسرائيلية”، تحت وطأة تعرّض جبهتها الداخلية، في الآونة الأخيرة، إلى قصف الصواريخ، لم يخفّف من الوزن الثقيل لعنصر الردع في هذه السياسة. وقد كانت الحرب على غزة بمثابة إيذان بإتباع إسرائيل سياسة استعمال القوة المفرطة لتحقيق الردع، بغض النظر عن الثمن الباهظ الذي يتكبده الطرف الخصم، في بناه التحتية ومنشآته وأحيائه الآهلة بالسكان المدنيين.

وهناك تلميحات كثيرة إلى أن هذه السياسة مرشحة لأن تزداد قسوة، لأسباب كثيرة في مقدمها احتمالات تفاقم الخطر الصاروخي، الذي يتهدّد الجبهة الإسرائيلية الداخلية، سواء من جانب سورية أو حزب الله أو إيران، بصورة يصعب معها توقع أن „تلتزم” الآلة الحربية الإسرائيلية بمسّ الأهداف العسكرية فقط، إلى درجة أن أحد كبار المعلقين العسكريين اعتبر أن مثل هذا „الالتزام” من طرف إسرائيل يعني انتحارهـا.

التعليقات