نُخـب إسرائيلية تعيد التفكير باحتلال 1967 وتطرح سيناريوهات للمستقبل (2 – 4)/ أنطـوان شلحـت

نُخـب إسرائيلية تعيد التفكير باحتلال 1967 وتطرح سيناريوهات للمستقبل (2 – 4)/  أنطـوان شلحـت

(*) إن التفكير بأزمة القيادة في إسرائيل، الذي بدأنا بتناوله في الحلقة السابقة، قد تعمّق، أكثر فأكثر، في إثر انتهاء حرب لبنان الثانية (في صيف 2006) وما أسفرت عنه من نتائج "كئيبة" أدّت، من ضمن أشياء أخرى، إلى قيام "لجنة فينوغراد"، التي تقصّت وقائع تلك الحرب، بتوجيه نقد حادّ إلى القيادة الإسرائيلية، وأساسًا جراء اعتمادها، شبه المطلق، على قوة الردع الإسرائيلية، وعدم تجريب بدائل أخرى، بما في ذلك العمليات السياسية. وللعلم فإن جوهر النقد كان بسبب الاعتماد على قوة الردع وعدم إعداد الجيش الإسرائيلي كما يجب لخوض حروب، بافتراض أنها لن تقع، لكن ذلك لم يمنع اللجنة من نقد القيادة الإسرائيلية جراء انعدام الرؤية السياسية البعيدة المدى لديها. وقد ورد في أحد الاستنتاجات المهمة لـ "تقرير لجنة فينوغراد" أن حرب لبنان الثانية "أعادت إلى مركز الجدل والتفكير أسئلة قاسية فضّل المجتمع الإسرائيلي، في أجزاء كبيرة منه، أن يتهرّب منها. فالجيش الإسرائيلي لم يكن جاهزًا للحرب لأنه، من ضمن أمور أخرى، تبلور لدى قسم من المسؤولين في المؤسستين السياسية والعسكرية التفكير بأن عصر الحروب قد انتهى، وأنه يوجد لدى إسرائيل والجيش الإسرائيلي ما يكفي من الردع في سبيل الحؤول دون أن تشنّ عليها حرب حقيقية. وبحسب هذا التحليل لم يكن هناك ضرورة للاستعداد للحرب، لكن لم يكن هناك ضرورة أيضًا للبحث بحماسة عن مسارات تفضي إلى اتفاقات ثابتة وبعيدة المدى مع جيراننا".

وعادة ما يتم التلميح، في غمرة ما ذُكر سابقًا، إلى أن جانبًا كبيرًا من انعدام الرؤية السياسية البعيدة المدى عائد إلى نوعية القيادة الإسرائيلية الحالية ومستواها. فمثلاً، عندما سُئل البروفسور أفينيري، في المقابلة نفسها مع صحيفة "معاريف"، عن مقدار رضاه من مستوى القيادة الحالية في إسرائيل، قال إنه غير راض بتاتًا من هذا المستوى.
وقد تبيّن من كلامه أن أشد ما يزعجه في هذا الصدد هو أمران:

الأول- أن طريقة اختيار لوائح المرشحين للكنيست لدى الأحزاب الإسرائيلية الكبرى، والتي تعتمد على الانتخابات التمهيدية العامة (برايميريز) في صفوف أعضاء الحزب، تؤدي إلى تدهور المؤسسة السياسية إلى الحضيض، حيث أنها تفتح المجال أمام هيمنة الشعبوية الرخيصة، وأمام معاقبة الأشخاص، الذين يقولون الحقيقة كما هي من دون رتـوش للجمهور العريض؛

الثاني- الحضور الفائض عن الحاجة للقادة العسكريين السابقين في النشاط السياسي المدني، والذي يخلّ بتوازن المؤسسة السياسية.

وقبل أن يدلي أفينيري باجتهاده هذا، كان البروفسور أفيعيزر رافيتسكي، وهو أحد أبرز المفكرين الإسرائيليين في السنوات الأخيرة، وباحث زميل كبير في "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية"، وباحث في قسم الفكر الإسرائيلي في الجامعة العبرية- القدس وسبق أن أشغل منصب رئيسه، كما أشغل منصب رئيس معهد الدراسات اليهودية في الجامعة نفسها، وحاصل على "جائزة إسرائيل"، قد تطرّق إلى أزمة القيادة الإسرائيلية، وذلك في مقابلة صحافية أدلى بها إلى النشرة الإلكترونية الصادرة عن "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية"، بعد انتهاء حرب لبنان الثانية، وقبل أن يتعرّض إلى حادث سير في شهر تشرين الأول 2006، أصيب نتيجته بجراح وصفت بأنها بالغة أدت إلى دخوله في غيبوبة لمدة شهرين.

وبحسب رأي رافيتسكي فإن هذه الأزمة عائدة، في أحد جوانبها، إلى ما يسميه بـ "روح العصر الراهن"، عصر ما بعد الحداثة، والانكشاف الإعلامي الواسع، فضلاً عن اختيار لوائح المرشحين للكنيست، بواسطة طريقة الانتخابات التمهيدية العامة في القواعد الحزبية. لكن يوجد عامل متراكم آخر خلق بالتدريج عدم الثقة بالزعماء، وهو ظاهرة التصريحات التي يطلقها كل رئيس حكومة في اتجاه معين، قبل انتخابه، ثم تجده "ينحرف يسارًا" بعد ذلك. فمناحيم بيغن دعا إلى الاستيطان والبقاء في صحراء سيناء، وبعد انتخابه أعادها كلها إلى مصر؛ وإسحاق رابين لم يخطر بباله أبداً الذهاب إلى أوسلو؛ كذلك فعل أريئيل شارون الذي لا داعي للتذكير بالتصريحات التي أدلى بها طوال حياته؛ حتى إسحاق شامير لم يعط أي إشارة إلى أنه سيذهب إلى (مؤتمر) مدريد؛ وهل كان أحد يتصوّر أن يوافق بنيامين نتنياهو (خلال ولايته الأولى في رئاسة الحكومة بين السنوات 1996- 1999) على اتفاقيات "واي ريفر" أو أن يعيد أجزاء من مدينة الخليل إلى الفلسطينيين؟؛ وهل كان متوقعاً أن يصل إيهود باراك إلى مرحلة يبدي استعداده فيها لتقسيم القدس؟. وهو يعتقد أن الزعماء المذكورين تصرفوا بشكل سليم، في معظم تلك الحالات، لكن أيًا منهم لم يملك الجرأة للإعلان عن ذلك مسبقًا، أو للإقرار بالحقائق الواقعية قبل انتخابه لرئاسة الحكومة.

كما أنه توقف عند أسباب أزمة السياسة الإسرائيلية بشكل عام.

ورأى أنه مهما تكن هذه الأسباب، فإن سببين منها يجب أن يكونا أساس الاهتمام:

الأول- منذ تسعة وثلاثين عاماً (والمقصود منذ سنة 1967) ومعظم الإسرائيليين منهمكون في موضوع واحد، هو مسألة الحدود. وكل شيء يدور حول هذه المسألة، فهي محور أي جدل سياسي أو عسكري، ثيولوجي أو أيديولوجي. كذلك فإن مفاهيم اليمين واليسار، والمسائل المرتبطة بالهوية الإسرائيلية وبماهية الصهيونية، تتحدّد كلها بناءً على هذه المسألة. وهذا الوضع غير صحي وغير طبيعي، فهو يولد صراعًا قاسيًا وانقسامًا داخليًا وشعورًا من الاغتراب ومن عدم الوفاق الأساسي اللازم.

الثاني- سادت في إسرائيل، كما هو معروف، ثلاث نظريات رئيسية مختلفة، فيما يتعلق بحل النزاع مع الفلسطينيين، هي: نظرية "أرض إسرائيل الكبرى"؛ نظرية "التسويات السلمية"؛ نظرية "الانسحاب الأحادي الجانب". وهناك من يعتقد أن جميع هذه النظريات قد مُنيت بالفشل، غير أنه يرى أن كلاً منها نجح في جانب، وفشل في جانب آخر. وبحسب رأيه لا يمكن القول إن نظرية "أرض إسرائيل الكبرى" فشلت تماماً، في الوقت الذي يعيش فيه مئات آلاف المستوطنين اليهود في "يهودا والسامرة" (الضفة الغربية المحتلة)؛ ولا يمكن القول إن نظرية التسويات السلمية فشلت تمامًا بينما توجد اتفاقيات سلام مستقرة مع مصر والأردن؛ كما لا يمكن القول إن نظرية التجميع (الانطواء) فشلت في الوقت الذي لم تُجرَّب أو تُختبر بعد. وأضاف: في السابق كان لكل واحد منا تقريبًا موقف راسخ وشامل، فيما يتعلق بالحل المرغوب فيه، أما اليوم فقد بات الكثيرون منا يعون النواقص والثغرات في موقفهم، والجزئية الموجودة التي ينطوي عليها كل حل. غير أننا الآن لا نعرف بوضوح إلى أين نحن ذاهبون.

وعلى النسق ذاته يقول البروفسور إفرايم عنبار، أستاذ العلوم السياسية ورئيس "مركز بيغن- السادات للدراسات الإستراتيجية" في جامعة "بار إيلان"، إن "تاريخ شعب إسرائيل قد أثبت أن لزعامة الدولة دورا في منتهى الأهمية. ويجدر بنا أن نتذكر بأن الدولة اليهودية تعرضت للهلاك والخراب مرتين في الماضي ("الهيكل الأول" و"الهيكل الثاني") وذلك بالأساس بسبب زعامة سيئة، لم تقرأ الواقع الدولي بشكل سليم. ويبدو لي أن الذي يتابع الوضع السياسي الداخلي في إسرائيل يمكنه أن يلاحظ بدرجة كبيرة من اليقين أن لدينا أزمة زعامة. بناء على ذلك، فإن آليات تجنيد القيادات السياسية القائمة في الوقت الحالي يجب أن تخضع إلى تطوير مهم، كي يتم ضمان نشوء قيادة إسرائيلية يكون في وسعها أن تواجه التحديات الصعبة الماثلة أمامها".

بطبيعة الحال، في وسعنا أن نورد أمثلة كثيرة أخرى تدعم التقويمات والأحكام السالفة، في معظمها، بقدر ما إنها تتقاطع مع منطلقها الرئيس، وهو تلمّس الطريق أو الوجهة التي تتيح إمكان تحرير السياسة الإسرائيلية الرسمية من أزماتها المستعصية.

وليس من الصعب الخروج باستنتاج عام مفاده أن تفكير هذه النخب جميعًا يتميّز بقاسم مشترك واضح جدًا، هو إدراج غاية الحفاظ على شرعية الدولة اليهودية فوق أي اعتبار سياسي وأخلاقي آخر، ولذا فإن أصحابه يخلطون عمدًا بين السبب والنتيجة، وبكلمات أخرى ينظرون إلى الاحتلال باعتباره سببًا يؤدي إلى تفريخ الأزمات، لا باعتباره نتيجة للسياسة التي سبقته، واستمرت بعده أيضًا.

وفي هذه النقطة المهمة بالذات، فإن المقاربات السالفة تفارق، من حيث الجوهر، اجتهادات إسرائيلية أخرى تغلب على مقارباتها السمة النقدية، ولا تلهيها النتائج عن الإشارة إلى السبب.

عند هذا الحدّ لا بُدّ من التذكير بأن تشخيص انعدام الرؤية السياسية البعيدة المدى لدى القيادة الإسرائيلية كان محورًا مركزيًا في الرؤى، التي ميّزت النخب الأكاديمية الإسرائيلية النقدية، في أعقاب تطورات سنة 2000. وكان في طليعة الذين طرحوا هذا التشخيص البروفسور زئيف شطيرنهيل، المؤرخ الإسرائيلي اليساري والحاصل أيضًا على "جائزة إسرائيل"، والذي تعرّض في 25 أيلول 2008 إلى محاولة اغتيال على خلفية الأفكار السياسية التي يتبناها. فقد رأى، في سياق مقال له ظهر إلى جانب مقالات لآخرين غيره في كتاب بعنوان "الوضع الآن" صدر سنة 2003، أن جذور ذلك تعود إلى أداء القيادة الإسرائيلية على وجه العموم. ووفقًا لما كتبه فإن القيادة الصهيونية التي تولت عملية إقامة دولة إسرائيل في سنة 1948 لم تفلح في أن تتفوّق على نفسها، فتبادر إلى تأسيس مجتمع سياسي ذي أجندة ليبرالية عامة، وبذا فقد ظلت القيم القومية اليهودية في مرتبة متقدمة، من ناحية الأفضلية، على القيم العالمية، وخصوصًا قيم حقوق الإنسان. وبسبب انقياد تلك القيادة وراء القيم القومية اليهودية أصبحت فاقدة القدرة على اعتبار سنة 1949 (التي وُقعت خلالها اتفاقيات الهدنة مع الدول العربية المجاورة) بمثابة نهاية ما يسميه "مرحلة الاحتلال"، أو مرحلة التوسّع الإقليمي.

بناء على ذلك، كما يؤكد شطيرنهيل، فإن "الحروب التي خاضتها إسرائيل حتى الآن لم تكن ناجمـة عن الرفض العربي المستمر للاعتراف بشرعية الحركة القومية اليهودية فحسب، وإنما أيضًا عن عدم توفر القدرة والرغبة في إسرائيل في تحديد الوجهة التي يتعين المضي فيها قدمًا". ولذا، فإن "الانتصار الإسرائيلي في حرب 1967 اعتبر استمرارًا للانتصار في حرب الاستقلال" (حرب 1948).

بعد هذا ينتقل شطيرنهيل كي يعيد إلى الأذهان أنه طبقًا للمفهوم الصهيوني التقليدي، فإن حدود الدولة الإسرائيلية هي نتاج الظروف المتغيرة، التي تخضع بدورها إلى ميزان القوى والقوة العسكرية. علاوة على ذلك فإنه في سنة 1948 لم يتم حسم سؤال أساسي كان لا بُدّ من حسمه، مرة واحدة وأخيرة، وهو: هل يعني إقامة الدولة في جزء من "أرض إسرائيل" (فلسطين) وضع حدّ نهائي لعملية احتلال البلد؟. كذلك لم يتم الهجس بجواب عن سؤال آخر كان مطروحًا بحدّة في ذلك الوقت، وفحواه: هل ستستند إسرائيل إلى تفوقها العسكري والتكنولوجي من أجل السعي إلى السلام، على أساس الإنجازات (العسكرية) التي تمّ تحقيقها، أم أنها ستبقى راغبة، كلما سنحت الفرصة للتوصل إلى سلام، في مواصلة عملية الاحتلال، أو التوسع الإقليمي؟.

بالعطف على ما يقوله شطيرنهيل، نلاحظ أن طابع المجتمع الذي ينبغي التطلع إلى بنائه في إسرائيل هو أيضًا مثار جدل يستقطب اهتمام النخب الأكاديمية الإسرائيلية النقدية. وبغية توضيح بعض جوانب هذا الجدل، الآخذة في التبلور أكثر فأكثر في الآونة الأخيرة، سنتوقف في الحلقتين المقبلتين عند ما يقوله آخرون سواه بين صفوف النخب الأكاديمية الإسرائيلية النقدية في هذا الشأن.

التعليقات