نُخـب إسرائيلية نقدية تطرح سيناريوهات للمستقبل (4 – 4)/ أنطـوان شلحـت

نُخـب إسرائيلية نقدية تطرح سيناريوهات للمستقبل (4 – 4)/  أنطـوان شلحـت

(*) إذا كان المبدأ الأول (الاستعمار)، الذي اتبعته إسرائيل إزاء المناطق المحتلة منذ 1967، كما أشير في الحلقة السابقة، يمثل مبدأ الاحتلال، فإن المبدأ الثاني (الفصل) يقترح، كما يزعم، حلاً للاحتلال، وفقًا لما يقوله الدكتور نيف غوردون، رئيس قسم العلوم السياسية في جامعة بن غوريون في بئر السبع. بعبارة أخرى، فإن صيغة "نحن هنا، هم هناك" (التي قالها إيهود باراك) لا تعني انسحاب القوات الإسرائيلية من المناطق المحتلة (مع أن الأمر فُهم على هذا النحو لدى الجمهور الإسرائيلي في معظمه)، وإنما هي تؤدي إلى طمس حقيقة أن إسرائيل أعادت انتشار قواتها في المناطق (المحتلة) بهدف مواصلة السيطرة على مواردها. وإن قراءة متأنية لاتفاقيات أوسلو، والتي كانت نتاجًا مباشرًا للانتفاضة الأولى، وكذلك التغييرات التي طرأت على الظروف الاقتصادية والسياسية في الساحة الدولية، تثبت أن الحديث يدور على إعادة تنظيم للقوة لا على سحبها. من هنا يجب فهم هذه الاتفاقيات باعتبارها استمرارًا للاحتلال بوسائل أخرى، أو كما قال الباحث الإسرائيلي ميرون بنفينستي قبل سنوات طويلة: "أوسلو هي نوع من الاحتلال، بواسطة التحكم عن بعد". بناء على ذلك فإن مغزى مبدأ الفصل هو ليس إنهاء السيطرة، وإنما استبدالها من طريقة تقوم على إدارة حياة السكان الخاضعين للاحتلال إلى طريقة لا تهتم بحياة السكان الفلسطينيين مطلقًا. ولعل أحد التجليات المهمة لهذا التغيير يمكن ملاحظته في عمل "مكتب الإحصاء المركزي" الإسرائيلي، الذي توقف عن متابعة ورصد التطورات المتعلقة بالسكان الفلسطينيين في المناطق المحتلة. وثمة تعبير آخر يمكن إيجاده في موقف إسرائيل إزاء القانون. ففي الوقت الذي سيطرت فيه إسرائيل، لغاية أيلول 2000، على السكان الخاضعين للاحتلال بواسطة تطبيق عدة منظومات قانونية - والتي شملت في الحقيقة قوانين تعسفية أجازت اعتقال واحتجاز آلاف الأسرى والمعتقلين السياسيين إضافة إلى تنفيذ عمليات طرد وهدم منازل وتعذيب وفرض إغلاقات طويلة وأشكال أخرى من العقوبات الجماعية- فإن إحدى السمات البارزة للانتفاضة الثانية ولمبدأ الفصل، تتمثل في التعليق الواسع للقانون، الذي تحول إلى قاعدة. وأحد الأمثلة على هذا التعليق، هو الحجم الواسع لعمليات الإعدام من دون محاكمة. وتدل حقيقة أن أي جندي إسرائيلي لم يحاكم بسبب عمليات القتل هذه وتحولها إلى جزء من سياسة علنية، على أن جزءًا من السكان الخاضعين للاحتلال تحول إلى أناس يمكن قتلهم من دون أن يعتبر الأمر جريمة. بالإضافة إلى ذلك، فإن جسد الفلسطيني لم يعد، في ظل مبدأ الفصل، يعتبر موضوعًا يجب التدخل فيه أو العمل على صوغه وتشكيله. وعليه فإن استخدام إسرائيل اليوم لعنف أكثر فتكًا، ليس ناتجًا عن تكتيك محلي يتبع بغرض تحقيق أهداف معينة، من قبيل قمع الانتفاضة الثانية. كذلك لا يمكن تفسير عنف إسرائيل وبطشها كردة فعل على مقاومة أكثر عنفًا. إن التغيير في توليفة أو هيكلية وسائل العنف يعكس الانتقال أو التحول من مبدأ الاستعمار إلى مبدأ الفصل، وهذا التحول هو نتيجة مباشرة للظواهر الجانبية والتناقضات الناجمة عن وسائل السيطرة التي طبقتها إسرائيل في المناطق (الفلسطينية المحتلة).

ويرى أكاديمي إسرائيلي نقدي ثالث، هو البروفسور أورن يفتاحئيل، أستاذ الجغرافيا السياسية في جامعة بن غوريون في بئر السبع، أن أفضل توصيف للحالة السياسية الراهنة السائدة في الرقعة الجغرافية المسماة إسرائيل/ فلسطين، أي ما بين نهر الأردن والبحر المتوسط، هو "الأبرتهايد الزاحف". ويؤكد هذا الباحث، في مقالة كتبها خصيصًا للعدد 35 من مجلة "قضايا إسرائيلية" المذكورة في السطور السابقة، أنه خلال السنوات الخمس عشرة الماضية، حدث تغير ملموس في الخطاب الذي يتبناه قادة إسرائيل، سواء إزاء إدارة الصراع الصهيوني- الفلسطيني أو إزاء حلّه. وقد جاء ذلك بعد عقود تميزت بالرفض المتعنت لحقّ الفلسطينيين في تقرير مصيرهم وفي إقامة دولتهم، كما تميزت بدعم التوسع اليهودي في المناطق الفلسطينية المحتلة، والمناطق الفلسطينية داخل إسرائيل. ويبدأ الخطاب الجديد من استعداد (رئيس الحكومة الأسبق) إسحاق رابين الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية و"الحقوق السياسية القومية الفلسطينية"، التي تكرّست في اتفاقيات أوسلو، وفي كامب ديفيد باراك، وفي مفاوضات طابا، من أجل دولة فلسطينية، بالإضافة إلى الانسحاب من لبنان. وقد أصبح التغيير أكثر وضوحا عندما حظي بدعم قادة قوميين يمينيين مثل أريئيل شارون وإيهود أولمرت وبنيامين نتنياهو، قاموا ببناء سيرهم السابقة على تشجيع الاستعمار الصهيوني والعدوان العنيف في محاولة لتحقيق ما أسماه عالم الاجتماع الإسرائيلي باروخ كيمرلينغ "الإبادة السياسية" (politicide) للفلسطينيين. أما في السنوات الأخيرة، فقد غيّر هؤلاء القادة لغتهم (وليس بالضرورة أفعالهم دائما). على سبيل المثال، خلال سنوات حكم أولمرت كرئيس للحكومة، 2006 ـ 2009، سعى إلى التفاوض مع السلطة الفلسطينية على حلّ الدولتين، وفي لحظة من صراحة نادرة أعلن: "إن إقامة دولة فلسطينية هي مصلحة إسرائيلية حيوية... والفشل في التوصل إلى حلّ سلمي وإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة قد يجرّ إسرائيل إلى صراع أبرتهايد على طريقة جنوب أفريقيا... مثل هذا السيناريو، سوف يعني أن دولة إسرائيل قد انتهت".

وكان هذا الموقف مدعوما من وزيرة خارجيته تسيبي ليفني، التي تقود الآن حزب كديما، أكبر الأحزاب الإسرائيلية، وهو الحزب الذي ركزت حملته بقوة على أفق الدولتين في انتخابات 2009. وفي وقت أقرب عمد رئيس الحكومة الجديد/ القديم بنيامين نتنياهو ـ الذي ظلّ معارضا صلبا لسنوات ـ إلى تغيير الاتجاه، ووافق على إقامة دولة فلسطينية (منزوعة السلاح). وهذا التحول كان جليا بقوة خلال فترة حكم أريئيل شارون، 2001 ـ 2005، وهو "الأب الروحي" للاستيطان اليهودي في الأراضي الفلسطينية، والقائد العسكري العديم الرحمة، المصمم على تدمير القومية والحقوق الفلسطينية. لاحظوا، على سبيل المثال، تصريحيه التاليين:

"في ظل قيادتي لن تكون هناك تنازلات فارغة للفلسطينيين... ومصير نيتساريم وكفار داروم (أكثر المستوطنات انعزالا في قطاع غزة- الباحث) سيكون شبيهًا بمصير تل أبيب" (أريئيل شارون، 11 كانون الأول 2002).
"من المستحيل الإبقاء على ثلاثة ملايين ونصف مليون فلسطيني تحت الاحتلال ـ أجل، إنه احتلال، وهو سيء لإسرائيل... إن السيطرة على ثلاثة ملايين ونصف مليون فلسطيني لا يمكن أن تستمرّ إلى الأبد" (أريئيل شارون، 26 كانون الأول 2003).

إن هذين التصريحين ـ اللذين أطلقا كما هو مبيّن في ظرف فترة زمنية قصيرة مدتها اثنا عشر شهرا ـ يشكلان تماما صدى وجهات نظر متعارضة حول نيات إسرائيل إزاء الأراضي الفلسطينية المحتلة. وفوق ذلك ـ وبعكس معظم القادة الإسرائيليين ـ فإن شارون حوّل نواياه إلى فعل ملموس، بواسطة قيادة انسحاب عسكري من طرف واحد، وبإخلاء خمس وعشرين مستوطنة يهودية في قطاع غزة وشمال الضفة الغربية. وكانت تلك هي المرة الأولى التي أجلت فيها إسرائيل طوعًا مستوطنين من أراض تعتبرها وطن اليهود، وهي، فلسطين/ أرض إسرائيل، بين نهر الأردن والبحر المتوسط.

ويتساءل الباحث: كيف يمكن النظر إلى هذا التحوّل؟ هل هذه التحركات من طرف سلسلة من رؤساء الحكومة اليمينيين، تتجه نحو ممرّ السلام الذي طال انتظاره؟ هل نحن متجهون الآن نحو نهاية الاستعمار الإسرائيلي، كجزء من حلّ الدولتين؟. وسرعان ما يجيب بالسلب، مؤكدًا أن التحول الأخير يعرض ظهور مرحلة جيو- سياسية جديدة، ويبرز غياب أجندة "أرض إسرائيل الكبرى".

كما يؤكد أن هذا التغيير ليس في إمكانه أن يفضي إلى إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة في المدى المنظور، ولا إلى إقامة دولة ديمقراطية واحدة بين نهر الأردن والبحر المتوسط، بل إنه يميل أكثر إلى تعميق عملية مأسسة واقع الأبرتهايد، وإلى جعله شرعيا.

ويختم بالقول إنه ربمـا تقام دولة فلسطينية نتيجة للضغوط الدولية، التي تقودها إدارة باراك أوباما. مع ذلك، فإن مثل هذه الدولة لن تتمتع بالسيادة الكاملة ولا بالتواصل الإقليمي، لأن ما هو مقترح من الدوائر الإسرائيلية والدولية، لا يحلّ الصراع الصهيوني- الفلسطيني، وسيكون جزءا من عملية "فصل عنصرية" معدّلة.

وهو يعتقد أن إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة وكاملة السيادة كتطبيق للقانون الدولي وحقوق الفلسطينيين (من دون التضحية بالحقوق الإسرائيلية المشروعة) يمكنها أن توصل المنطقة إلى الاستقرار. مع ذلك، فإن مسيرة سلمية كهذه تتطلب من الإسرائيليين والفلسطينيين، وخصوصا الإسرائيليين، أن يتعاملوا مع الموضوعات الأساسية التي تشكل لبّ الصراع، مثل تداعيات النكبة، ومحنة اللاجئين، والقدس، والتحكم بالأرض، ومستقبل الفلسطينيين داخل إسرائيل. ولا يبدو أن هناك احتمالات كبيرة لوجود قوة سياسية، بما في ذلك أميركا، الشريك الإمبريالي لإسرائيل، وأوروبا المتردّدة، والدول العربية، تملك سلطة تدفع إسرائيل إلى التعامل مع هذه القضايا، وتوقف الانحدار نحو جغرافيا الأبرتهايد.


لا يجوز أن ننهي هذا العرض من دون التوقف عند الخلاصات المثيرة، التي يتوصل إليها الأكاديمي الإسرائيلي الراديكالي البروفسور يهودا شنهاف، وهو عالم اجتماع وأستاذ جامعي، ورئيس تحرير مجلة "نظرية ونقد" الإسرائيلية الفصلية، التي تحتضن مقالات وأبحاث تيار "المؤرخين الجدد" وتيار "علماء الاجتماع النقديين"، في كتاب جديد له يصدر قريبًا يقدّم فيه تحليلاً لدوافع الخطاب الإسرائيلي بشأن احتلال 1967 وإحالاته، وقد نُشر فصل منه في العدد 34 من مجلة "قضايا إسرائيلية"، الذي اشتمل على محور خاص بعنوان "رؤى إسرائيلية حول مشاريع التسوية السياسية".

وسنكتفي بذكر ما يلي من تلك الخلاصات:

أولاً- إن تركيز الجدل على ما حدث في سنة 1967 يهدف أساسًا إلى صرف الأنظار عما حدث في سنة 1948. وإن العودة إلى مسألة 1948 سوف تطرح على الأجندة حقيقة أن حرب 1948 لم تنته بعد، وكذلك الحقيقة المؤلمة بشأن وجود ملايين اللاجئين الذين ما زالوا ينتظرون البت في مصيرهم ومصير أراضي وممتلكات آبائهم التي سلبتها دولة إسرائيل.

ثانيًا- إن الاقتراح بإرساء أسس لتفكير سياسي يستند إلى نموذج 1948 لا يشكل محاولة للتنكر لحق تقرير المصير لليهود كمجموعة قومية، بل على العكس، فإنه يرى فيه اقتراحا للرجوع إلى زمن تاريخي وفلسفي يمكن الانطلاق منه في سبيل صوغ نظرية سياسية جديدة تهتم بمكانة ومستقبل اليهود في المنطقة. وينبغي لليهود أن يصوغوا نظرية سياسية جديدة تأخذ في الحسبان شعوب المنطقة، وتحدد في الوقت ذاته الحقوق السياسية لليهود، وهو ما كان ينادي به في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي مثقفون يهود كثيرون.

ثالثًا- إن صوغ حقوق اليهود هو ضرورة لا مفر منها، ذلك لأن الحقوق المستندة إلى العنف والأبرتهايد لا يمكن أن تبقي مضمونة إلى الأبد. والدرس المستخلص من التاريخ العالمي يبين أن دولة من هذا النوع لا بد أن تُهزم، أو أن تهزم نفسها. وقد تجد إسرائيل نفسها ذات يوم في خضم انقلاب سياسي، مثلما حصل في جنوب أفريقيا أو زيمبابوي، وفي أتون حمام دماء لا يُحتمل. وسيكون من الصعب في ظل عنف من هذا القبيل صوغ خطاب حقوق، وخاصة حقوق اليهود، التي يمكن أن تبدو مع الأسف صورة طبق الأصل عن حقوق الفلسطينيين حاليا، ونحن بالتأكيد لا نرغب في مستقبل كهذا. حتى لو كان الفلسطينيون قد رفضوا قبل سنة 1948 خيارًا مغريا مثل مشروع التقسيم- وهو تصرف لا يوجد إجمـاع بشأنه- فإن هناك اليوم إمكانية متاحة لحوار مثمر بشأن تقسيم جديد للحيز عبر المحافظة على حقوق اليهود. ويعتقد الباحث بأن العودة إلى إجراء نقاش منطقي متزن حول مسألة سنة 1948 ستتيح إلقاء نظرة مقرونة بأفق سياسي بعيد النظر، بما يفضي إلى إفراز تحالفات سياسية جديدة في المنطقة، وبما يهيئ إمكان التفكير بمنأى عن القوالب الجامدة.

التعليقات