الأكاديميا الإسرائيلية: من التوجه الجمهوراني إلى النيوليبرالي../ مهند مصطفى

الأكاديميا الإسرائيلية: من التوجه الجمهوراني إلى النيوليبرالي../ مهند مصطفى
يعود تاريخ التعليم العالي الصهيوني إلى فترة الانتداب البريطاني، حيث أقيمت الجامعة العبرية في العام 1925، والتي كانت في البدء مؤسسة بحثية للدراسات اليهودية بالإضافة إلى معهد للكيمياء، ومعهد "التخنيون" عام 1924، ومعهد "فايتسمان" الذي أقيم عام 1933، وعرف آنذاك بمعهد "زيف" حتى العام 1949، وكلية الاقتصاد والحقوق في تل أبيب، والتي أقيمت عام 1935.

وقد ساهمت الاكاديميا الإسرائيلية كمؤسسة علمية وتمكينية وبحثية في المشروع الصهيوني وفي صياغة الهوية الإسرائيلية الجديدة. وفي خضم دراسة المجتمع الإسرائيلي وتطوره وعملية بناء الدولة، لم يتم التطرق بشكل مستفيض لدور الاكاديميا الإسرائيلية في عملية بناء الدولة، إلا القليل من الدراسات التي نشرت باللغة العبرية، وتقريبا بدون أي اهتمام من الباحثين العرب لهذا الجانب في دراسة المجتمع الإسرائيلي.

جرت في الأشهر الأخيرة نقاشات كثيرة في الصحف الإسرائيلية حول أوضاع التعليم العالي في إسرائيل، ويمكن القول من قراءة لمضمون هذا النقاش انه يتجاذبها توجهان يتزاحمان في فرض المواقف في الحيز الأكاديمي؛ الأول محافظ جمهوراني الذي لا يزال يؤمن بأهمية وضرورة تدخل الدولة في التعليم العالي من حيث مدها بالموارد المادية والتدخل بالأجندات البحثية، وبين توجه نيو- ليبرالي ازداد قوة في عقد التسعينيات، إلا أن بدايته كانت أبعد من ذلك وتعود، باعتقادي، إلى بداية عقد السبعينيات من القرن الماضي. ويؤمن بأن على مؤسسات التعليم العالي التنافس في "السوق" الأكاديمي العولمي وتحويل المؤسسات الأكاديمية إلى مؤسسات ربحية أيضا، ويعتقد التوجه النيوليبرالي غير المحافظ أن هذا الاندماج سوف يطور الأجندات البحثية كما ونوعا وسوف يجذب عقولا أكاديمية من الخارج (في هذه الحالة يهودية طبعا)، وسوف يفتح أبواب الجامعات والكليات أمام الطلبة الأجانب.

ومن بين هذه النقاشات الكثيرة، لفت انتباهي خبرين هذا الأسبوعين في صحيفة "هآرتس"، الخبر الأول، يخبر عن انتقال كلية إدارة الأعمال في "التخنيون" من استعمال اللغة العبرية إلى استعمال اللغة الانجليزية في التدريس، المكاتبات داخل الكلية، المواد التعليمية والاتصال مع المحاضرين (هآرتس، 18/3)، أما الخبر الثاني فقد كان توجه وزارة المالية من الجامعات برفع القسط التعليمي في كليات الحقوق إلى 31 الف شاقلا (هآرتس، 20/8).

إن هذين التطورين هما جزء من توجهات نيوليبرالية واضحة، حيث أن التوجه النيوليبرالي يؤمن بالمنافسة، باختيار الأفضل، والأفضل في هذه الحالة هم بلا شك القادمين بالأساس من خلفيات اجتماعية- اقتصادية مرتفعة، التوجه النيوليبرالي يؤمن بالتصنيف، والوجه الآخر للتصنيف هو الإقصاء، لأنه عندما يتم اختيار الأفضل، وهم عادة ذوو الخلفية الاجتماعية الاقتصادية الأفضل، فان ذلك يعني إقصاء الآخرين، ليس لأنهم اقل بداهة أو ذكاء، بل لأن الظروف لم تسمح لهم بان يكونوا الأفضل، وهم عادة أبناء الأقليات، وأبناء المناطق المهمشة والنائية في الدول، كما ويؤمن هذا التوجه بضرورة انسحاب الدولة (ليس بشكل مطلق) من التدخل المادي والمهني في مؤسسات التعليم العالي.

إن الوصول إلى نقطة إلغاء تعليم اللغة العبرية في كليات معينة في الجامعات الإسرائيلية هو ليس مجرد حادثة بسيطة في التطور الأكاديمي نحو الخصخصة والعولمة، بل هو ضربة في الصميم لأهم انجاز للمشروع الصهيوني، وهو إحياء اللغة العبرية، كانت عملية إحياء اللغة العبرية كلغة قومية وكلغة تعبر عن هوية جماعية قبل مائة عام، الانجاز الصافي الذي لا تعكره شائبة في المشروع الصهيوني، حيث أن باقي الجوانب في المشروع الصهيوني كانت إما جزئية أو حتى فاشلة (الاستيطان، الهجرة، بوتقة الصهر وغيرها).

لا ادعي أن الجامعات والمؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية أصبحت نيوليبرالية في الصميم، ولكنها لم تعد مؤسسات جمهورانية بجدارة كما كانت في سنوات الخمسينيات والستينيات، وكانت بدون مبالغة أكثر المؤسسات الأكاديمية جمهورانية وتجندا على مستوى الدول الحديثة.

يؤمن التوجه الجمهوراني بمجانية التعليم أو حتى بتدخل كبير للدولة في هذا الجانب، يؤمن بان الجامعات هي مشروع قومي ومؤسسات مجندة لخدمة هذا المشروع، وأن الأجندات البحثية عليها أن تكون مجندة وجزءا من عملية بناء الدولة وإنتاج هوية جماعية، والأهم من كل ذلك أن التوجه الجمهوراني يؤمن أن التعليم العالي الرسمي هو الذي ينتج المعرفة وليس خصخصته، فتطغى الاعتبارات الربحية على الاعتبارات المعرفية في الصرف على البحث العلمي، وهو باعتقادي توجه فيه الكثير من الصحة إن لم يكن كلها.

لقد استبدل التوجه النيوليبرالي الذي يتحدث عن استقطاب طلاب أجانب من دول العالم التوجه الجمهوراني الذي يتحدث عن استقطاب الطلاب اليهود في الخارج، واستبدل التفكير النيوليبرالي في استقطاب العقول الأكاديمية المميزة في الجامعات الخارجية التوجه الجمهوراني الذي يتحدث عن استقطاب العلماء اليهود كمهمة قومية، واستبدل التفكير النيوليبرالي الذي يتحدث عن قبول الأفضل إلى الجامعة، التوجه الجمهوراني بتعميم متناولية التعليم العالي بدون قيود، وغيرها الكثير.

لا يتبنى الكاتب أيضا الادعاء بان هنالك خطا فاصلا واضحا يمثل عملية الانتقال من التوجه الأول إلى التوجه الثاني، أو أن حضور التوجه النيوليبرالي ألغى وغيب التوجه الجمهوراني الذي لا يزال حاضرا في الاكاديميا الإسرائيلية حتى الآن، إلا أنه يتنازع مع قوى نيوليبرالية وعولمية بدأت تفرض نفسها من حيث الفكر والسياسات على المؤسسة الأكاديمية الإسرائيلية، وبدأت تضيق الحيز على هذا التوجه بحيث انعكس على مبنى الاكاديميا الإسرائيلية وتوجهاته البحثية.

على كل حال هذا الانتقال ليس محصورا في المؤسسات الأكاديمية، بل يشمل كافة المجالات قي المجتمع والسياسة الإسرائيلية، وطبعا التوجهان الأول والثاني هما مضران للطلاب العرب بكل الأحوال.

التعليقات