في إسرائيل: تغيرات سياسية دون تغير في المواقف السياسية../ مطانس شحادة

-

في إسرائيل: تغيرات سياسية دون تغير في المواقف السياسية../ مطانس شحادة
منذ العام 1992 وحتى العام 2008 شهدت إسرائيل 6 دورات انتخابية للكنيست وواحدة لانتخاب رئيس وزراء في العام 2001، وقد فاق عدد الحكومات الإسرائيلية في الفترة ذاتها عن 12 حكومة، تناوبت على تشكيلها احزاب العمل والليكود وكديما.

عدم الاستقرار السياسي هذا ووتيرة انتقال سدة الحكم بين أحزاب ذات ايديولوجية مختلفة، الى حد ما، قد يولد انطباعا بوجود تقلبات سريعة في مواقف المجتمع اليهودي من القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية الاساسية، تمكن من حصول التغييرات الحزبية وتداول السلطة.

لكن في حقيقة الأمر لا يوجد تغيير جوهري في مواقف المجتمع اليهودي في إسرائيل من القضايا الأساسية، وهناك إجماع صهيوني واضح في القضايا السياسية الأسياسية هو أبعد ما يكون عن قبول الحلول السلمية.

ومصدر تداول السلطة والتغييرات الحزبية ينبع من أسباب أخرى، منها، على سبيل المثال لا الحصر، أداء الحكومات ورؤساء الحكومات. سوف نستعرض في سلسلة مقالات مواقف المجتمع اليهودي من القضايا السياسية الأساسية وكيفية تأثيرها على أنماط التصويت والحراك الحزبي داخل المجتمع اليهودي في إسرائيل وتأثير ذلك على نتائج الانتخابات الإسرائيلية.

تستعرض المقالة الحالية القيم والمواقف الشّائعة لدى المجتمع اليهوديّ في إسرائيل في ما يتعلق بقضية السلام والانسحاب الإسرائيلي من المناطق المحتلة في العام 1967، بواسطة تحليل استطلاعات الرأي العام التي يعدها المعهد الاسرائيلي للديمقراطية قبيل كل انتخابات إسرائيلية، منذ العام 1996 وحتى العام 2006.

اعتقد بعض علماء الاجتماع المتخصصين في دراسة المجتمع الإسرائيلي ان مرحلة التسعينيات حملت مخاض تحول نوعي في الثقافة السياسية الجمعية داخل المجتمع، اذ احتدم الصراع على طابع ومستقبل إسرائيل بين النخب التقليدية المسيطرة تاريخيا (الغربية-الاشكنازية) وبين مجموعة اليهود الشرقيين.

أرادت الأولى اللحاق بركب العولمة الاقتصادية والثقافية والانتاج العالمي بغية الحفاظ على قياداتها للمجتمع الاسرائيلي، وجني الثمار الاقتصادية والمالية. وتحقيق ذلك تطلب دفع ثمن للمنظومة الدولية، بصيغة انهاء الاحتلال، وتغيير داخلي بصيغة لبرلة المواطنة في الدولة والتخلي عن صيغة المواطنة الجمهورانية التي نظمت مكانة المجموعات المختلفة في الدولة.

في المقابل سادت القناعة لدى مجموعة اليهود الشرقيين ان تعزيز المواطنة الاثنية، والتشديد على الطابع اليهودي للدولة، يمكن أن يساهم في تحسين مكانتهم الجمعية في سياق المواطنة المتعددة والمركبة في إسرائيل. من هنا حاول هؤلاء عرض خطاب ورؤية مغايرة لمستقبل الدولة، وعارضوا انهاء الاحتلال وتغيير الايديولوجيا الاقتصادية في الدولة.

وقد اعتقد آخرون أن عملية السلام كانت مبادرة من قبل مجموعات اقتصادية نافذة في الدولة ارادت جني ثمار الاندماج في اقتصاد المنطقة والعالم ومن هنا تحالفت مع رجال السياسة وسعوا لعرض خطاب ثقافي سياسي لدعم عملية السلام. الا ان هؤلاء فشلوا في تحويل ذلك الخطاب الى ثقافة مهيمنة (بالمفهوم الغرامشي) داخل المجتمع الإسرائيلي، وبقي السواد الاعظم من المجتمع الإسرائيلي رافضا لهذا الخطاب بل وان اجزاء منه عرضت خطابا "اثنيا قوميا" منافسا. وكانت الغلبة للخطاب المنافس نتيجة نفور طبقات كثيرة من خطاب المجموعات الاقتصادية والشركات الكبرى.

من هنا يمكننا الادعاء ان التحولات في السياسات الإسرائيلية لم تكن نتيجة تغيير ما في الأسس المكونة للعقلية الإسرائيلية، ولم تأت لتعالج الغبن التاريخي الناتج عن الاحتلال والاستعمار الإسرائيلي، انما نتيجة حسابات الربح والخسارة. ولا نقصد ان التحولات التي حصلت في تلك الفترة كانت هشة او سطحية، ولكن هدف النخب الإسرائيلية من ذلك التحول كان محددا، على عكس المبالغة الدولية والعربية في قراءة التحول السياسي في إسرائيل والذي ظهر في مرحلة رابين. فالإستعداد للتفاوض ومنح الفلسطينيين حكما ذاتيا لم يتناقض مع فهم إسرائيل لذاتها ومع اهداف المشروع الصهيوني، وعكس براغامتية واضحة للتعامل مع المتغيرات الدولية واقتناص فرصة ذهبية لشرعنة الكيان الصهيوني في المنطقة، نتيجة تراكم عدة تحولات في لحظة زمنية حاسمة. مراجعة مواقف المجتمع الإسرائيلي كما وردت في استطلاعات الرأي تعزز هذا الاستنتاج. مواقف المجتمع الإسرائيلي من "إرجاع أراض مقابل السلام".

من متابعة مواقف المستطلعين في قضية " إرجاع أراض مقابل السلام" يمكن الملاحظة انه لم يكن في أي فترة من الفترات إجماع إسرائيلي يتضمن موافقة مؤكدة لإرجاع أراض مقابل السلام، وان معظم المُستَطلَعين، قرابة الـ 50 %، يفضل تبني موقف وسطي. وقد بلغت اكبر نسبة دعم لإرجاع الأراضي (34%) قبيل انتخابات العام 1999، اي في المعركة الانتخابية بين باراك ونتنياهو.

ومن المفيد بمكان مراجعة مواقف المجتمع اليهودي في العام 1996، اذ أن نسبة الموافقة المؤكدة للانسحاب بلغت 31 %، مع ان نتيجة الانتخابات كانت مختلفة. في العام 1996 فاز حزب الليكود وفي العام 1999 فاز حزب العمل، على الرغم من عدم وجود تغيير كبير في مواقف المجتمع اليهودي.

اما بالنسبة لحجم المعارضين بشكل قاطع لإرجاع أراض، نلاحظ انه حتى العام 2003 كانت نسبة هؤلاء متقاربة جدا، قرابة الـ 22 %، وقد ارتفعت في العام 2006 وبعد الانسحاب الاحادي الجانب من غزة الى 25.4 %. ويمكن تفسير ذلك بالتهويل الاعلامي والمبالغة في تصوير "المأساة" التي رافقت عملية الانسحاب واخلاء المستوطنين، وتسويق صعوبة العملية ومخاطرها على الوضع الداخلي بغية اقناع العالم بصعوبة الانسحابات الإسرائيلية وعدمية الالحاح على ذلك.

وقد يكون العامل النفسي اثر على مواقف الجمهور الإسرائيلي، وزاد الرفض لتكرار تلك المشاهد والرغبة في الحفاظ على اجماع داخلي. لكن بالرغم من هذه المواقف فقد فاز في الانتخابات حزب كديما الذي نفذ عملية الانسحاب من غزة وخاض المعركة الانتخابية تحت شعار "الانكفاء الى داخل إسرائيل" والانفصال الديمغرافي عن الفلسطينيين، بغية الحفاظ على الدولة اليهودية.



- على إسرائيل ان توافق على إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة في إطار اتفاق سلام شامل؟

إقامة دولة فلسطينية، بالمفهوم والشروط الإسرائيلية، بات أمرًا مقبولا على غالبية المجتمع الإسرائيلي في العام 2006. اذ يؤيد قرابة 62 % من المستطلعين، بدرجات متفاوتة، إقامة دولة فلسطينية على قسم من أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، بعد ان عارض ذلك نحو 50 % من المستطلعين على امتداد الفترة ما بين 1996 و 2003.

لكن هذه الموافقة يجب أن لا تخدع القارئ العربي، وعلينا ربطها بالشروط الإسرائيلية، أي أن الموافقة تكون دائما مشروطة بالشروط الإسرائيلية المعهودة. وعلينا ربط هذه الموافقة مع رفض قرابة الـ 50 % من المستطلعين لإرجاع الاراضي مقابل السلام. من الواضح ان الجمهور الإسرائيلي يوافق على إقامة دولة فلسطينية نظريا فقط دون أن تترسخ تلك على الأرض. كما أن معظم المستطلعين، كما سنوضح لاحقا، يرفضون إخلاء كافة المستوطنات القائمة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، مما يعبر عن تناقض إضافي مع الموقف العلني الموافق على إقامة دولة فلسطينية.

جزء صغير جدا من المستطلعين يخرج عن الاجماع الإسرائيلي القائل بعبثية النقاش حول اخلاء المستوطنات الإسرائيلية في الاراضي الفلسطينية. فالمطالبة بذلك من قبل الفلسطينيين والعالم العربي هي ضرب من الخيال.

وعلى مدار الفترة الممتدة من العام 1996 وحتى العام 2006، ورغم اختلاف البيئة السياسية والأمنية واختلاف هوية الحزب الحاكم في الدولة، وبمعزل عن الوضع الدولي، نجد رفضا كبيرا من قبل المجتمع الإسرائيلي لإخلاء مستوطنات، أو على الأقل إجماعا حول ابقاء كتل استيطانية كبيرة تحول دون خلق تواصل جغرافي في مناطق السلطة الفلسطينية. ولم تتعد نسبة الموافقين على اخلاء مستوطنات على مدار الفترة الـ 17 %. بمعنى أن الاجماع القائم داخل المجتمع الإسرائيلي عابر للمشارب الفكرية ويتخطى الانتماءات الحزبية والتقسيمات العرقية. وان هذا الرفض غير مرتبط بالضرورة بانتفاضة الأقصى، اذ ان حجم المعارضين لم يتغير كثيراً منذ العام 1996، على العكس فقد حصل تغيير إيجابي طفيف في حجم الموافقين على إخلاء كافة المستوطنات في العام 2006.

1- اخلاء المستوطنات الإسرائيلية من الضفة الغربية وقطاع غزة (بالنسبة المئوية):

في العام 1996 قال 35.2% إنهم لا يوافقون على الانسحاب، وانخفض هذا العدد إلى 30.8% في العام 2003، وارتفع 37.7% في العام 2006.

وفي العام 1996 قال 49.6% إنهم يوافقون على إخلاء قسم من المستوطنات لأسباب أمنية وإبقاء كتل استيطانية كبيرة، وارتفع هذا العدد في العام 2003 إلى 52.6%، ليتراجع إلى 45.6% في العام 2006.

في العام 1996، قال 15.2% إنهم موافقون على إخلاء المستوطنات الإسرائيلية، وارتفعت النسبة في العام 2003 إلى 16.6%، مقابل 16.8% في العام 2006.


تناولنا حتى الأن ابرز مواقف الجمهور الإسرائيلي تجاه عملية السلام والحلول المطروحة في الشأن الفلسطيني. ولاحظنا أن المواقف تعكس إجماعا إسرائيليا واضحا يمتد منذ العام 1996 وحتى 2006، دون علاقة بهوية الحزب الحاكم ودون علاقة بالاحداث على أرض الواقع، ودون علاقة بما يقوم به الطرف الفلسطيني. الا اننا لا يمكن ان نهمل الشطر الثاني من الاحتلال الإسرائيلي، ونقصد هنا احتلال الأراضي السورية وعملية السلام مع سوريا. اذ توفر استطلاعات الرأي ذاتها معطيات عن مواقف الناخب الإسرائيلي تجاه إرجاع الجولان المحتل لسورية مقابل إتفاقية سلام وترتيبات أمنية.

المعطيات الواردة في الاستطلاعات توفر صورة جلية لا لبس فيها حول الاجماع الصهيوني في قضية السلام مع سورية مقابل إرجاع الجولان المحتل، اذ يرفض السواد الاعظم من الجمهور الإسرائيلي إرجاع الجولان المحتل لسوريا، دون تغيير يذكر منذ العام 1996 وحتى العام 2006.

2- إرجاع اراض من هضبة الجولان الى سورية مقابل اتفاقية سلام (بالنسبة المئوية)

لا تتعدى نسبة الموافقين على إرجاع الجولان كاملا اربعة بالمئة في العام 2006، بينما بلغت 7.5% عام 1996. نسبة ضئيلة توافق على إرجاع قسم كبير من أراضي الجولان، تتراوح بين 10.2 % في العام 2006 و 16.5% في العام 1996. وقد ابدى 21.4 % من المستطلعين في العام 2006 موافقة على إرجاع جزء صغير من الجولان، مقابل 36.8 % في العام 1999 (وهي أعلى نسبة موافقة على مدار العقد الأخير) و 27.9 % في العام 1996.

وعلى ما يبدو فإن القصد من الموافقة على إرجاع جزء من الجولان، كبيرا كان او صغيرا، يعكس رفضا إسرائيليا للعودة الى حدود الرابع من حزيران 1997. والابرز في هذا المجال رفض 64.4 % من المستطلعين في العام 2006 إرجاع اراض من الجولان المحتل مقابل اتفاقية سلام وترتيبات أمنية مقبولة على الجيش الإسرائيلي، وهي اعلى نسبة للرافضين منذ العام 1996، من المهم الاشارة ان الانتخابات الإسرائيلية والاستطلاع كانا في آذار 2006 أي قبل حرب إسرائيل على لبنان في العام 2006.

قد يعكس رفض غالبية المستطلعين إرجاع الجولان المحتل، حتى مقابل اتفاقية سلام، عدم وجود عدد كبير من السكان السوريين في الجولان، أي لا وجود لمخاوف ديمغرافية لدى المجتمع اليهودي من الاستمرار في السيطرة على الجولان، كما لا وجود لتهديد أمني وثمن عسكري تدفعه إسرائيل مقابل الاستمرار في السيطرة على الجولان، وتوصف الجبهة الشمالية على أنها من اهدأ الحدود الإسرائيلية منذ 1967.

بينما تعكس المواقف تجاه احتلال المناطق الفلسطينية رغبة في "التخلص" من السكان الفلسطينيين، وابقاء اكبر قدر ممكن من الأراضي تحت السيطرة الإسرائيلية، بعد ان اثبتت الانتفاضة الاولى ان صيغة الاحتلال لا يمكن لها الاستمرار، واثبتت الانتفاضة الثانية عدم جدوى سياسات الاملاءات وفرض الحلول من طرف واحد دون التعامل مع الامور الجوهرية والاساسية. ففي الحالة الفلسطينية وبسبب اجبار المجتمع الإسرائيلي دفع ثمن للاحتلال، تقوم الحكومات الإسرائيلية بمحاولات لفرض حلول، تتناقض في بعض الحالات ظاهريا مع الاجماع الإسرائيلي، لكنها تتماشى باطنيا مع مواقف المجتمع ومع الركائز الاساسية الجامعة لشرائح المجتمع اليهودي.

في ضوء هذه المواقف والمعطيات نستطيع القول ان الجمهور الإسرائيلي، على غرار القيادة الإسرائيلية، غير مهيأ بعد لقبول مبدأ السلام العادل. فالتحولات السياسية والاجتماعية التي مر فيها المجتمع الإسرائيلي في التسعينيات هدفت الى تطبيع علاقات إسرائيل مع معظم دول العالم وقسم من الدول العربية، باستثناء تلك الدول المُحّتَلة اراضيها وشعوبها تقع تحت الاحتلال الإسرائيلي.

بالاضافة، تحققت رغبة إسرائيل في ركوب قطار العولمة والانخراط في الاقتصاد العالمي وجني ثمارها، بواسطة استقطاب الاستثمارات الأجنبية، والشركات العالمية، وانهاء المقاطعة العربية، وفتح اسواق بعض الدول العربية للمنتجات والاستثمار الإسرائيلي. اي انها جنت الثمار الإقتصادية دون تقديم مقابل سياسي جوهري. جل ما قدمتة يتلخص في مناورات سياسية وعلاقات عامة دولية وعربية حول رغبتها في إحلال السلام.

كما تشير المعطيات ان التغيرات السياسية، بالأساس تداول السلطة بين الأحزاب، لم تكن وليدة غلبة ثقافة سياسية على أخرى ولم تعكس تحولا في مفاهيم ومواقف الجمهور الإسرائيلي، ولم تكن ثمة تغيرات جوهرية في الاجماع الإسرائيلي. انما يعود تداول السلطة والتغيرات في الاحزاب الحاكمة لمنافسات داخل النخب الإسرائيلية، وبشخصية المرشحين لرئاسة الحكومة، وعلى وجه الخصوص معاقبة او مكافأة الحزب الحاكم على أداء الحكومة. في المقالات القادمة سوف نتناول الجوانب تلك.

التعليقات