هل يتأثر جوهر المنظور الإسرائيلي لـ"التسوية السياسية"؟/ أنطوان شلحت

هل يتأثر جوهر المنظور الإسرائيلي لـ
بلهجة الواثق من نفسه قال شمعون شيفر، المراسل السياسي لصحيفة "يديعوت أحرونوت"، المقرّب جدًا من الدوائر الحكومية الإسرائيلية، في تعقيبه على القرار المرتقب في مجلس الأمن الدولي بشأن الحرب على لبنان، عشية اتخاذ هذا المجلس قراره النهائي (عدد الصحيفة، يوم 11/8/2006)، إن الأمين العام لحزب الله، السيّد حسن نصر الله، "لن يحصل على أسرى فلسطينيين مقابل الجنديين الإسرائيليين" المأسورين.

وألمح "شيفر"، خلال ذلك، إلى أن الدافع من وراء ذلك هو دافع مزدوج:
أولاً- عدم إضعاف المجهود الرامي إلى "تقزيم" إسهام نصر الله في المنظومة السياسية داخل لبنان بصورة كبيرة، كنتيجة متدرّجة لوقف إطلاق النار، ويمكن أن نضيف كنتيجة مرغوبة للتعويض عن الإخفاق العسكري الإسرائيلي.
وثانيًا- عدم تحويل نصر الله إلى "بطل دون منازع لدى الفلسطينيين"، موضحًا أن ذلك هو قرار "عقد العزم عليه رئيس حكومة إسرائيل، إيهود أولمرت، منذ بداية الحرب على لبنان". ونضيف هنا أيضًا على خلفية موقفه المتبلور من تسوية "المشكلة الفلسطينية".

ملاحظة "شيفر" هذه لم تكن في واقع الأمر الوحيدة، التي مدّت خيطًا يصل بين الحرب على لبنان، من حيث وقائعها ومآلاتها، وبين مستقبل النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني، سواء في الأفق المنظور أو على المدى البعيد.

غير أنه فضلاً عن ذلك اشتملت الحرب الإسرائيلية على لبنان عمومًا وعلى المقاومة اللبنانية خصوصًا، كما اشتملت قبلها الحرب على قطاع غزة، على إشارات فيها ما يحيل إلى المنظور الإسرائيلي لـ"عملية السلام" مع الفلسطينيين، على المستجدات التي طرأت على هذا المنظور، والمتزامنة أقرب شيء مع نتائج الانتخابات التشريعية الفلسطينية الأخيرة، وما أسفرت عنه من فوز لحركة المقاومة الإسلامية "حماس".

وسأتوقف في هذه المقاربة عند بعض الأمور الجوهرية التي ميّزت إلى الآن، المواقف الإسرائيلية في هذا الشأن:

1. في مقالة بعنوان "المواجهة مع حزب الله، المواجهة مع "حماس" وما بينهما"، يحاول الباحث مارك هيلر، وهو متخصص في الشؤون الفلسطينية من "مركز يافه للدراسات الإستراتيجية" في جامعة تل أبيب، أن يحدّد نقاط الالتقاء ونقاط الافتراق "بين الأزمة على حدود إسرائيل الشمالية" وبين "التصعيد في العنف الإسرائيلي- الفلسطيني الذي طرأ في الفترة الأخيرة". ويشير إلى أنه في الحالتين كانت الشرارة التي أشعلت النار هي مقتل واختطاف عدد من الجنود الإسرائيليين على أيدي عناصر إسلامية ليست دولة (حماس وحزب الله)، تتلقى الدعم من سوريا وإيران، تسللت عبر الحدود الدولية المعترف بها في مناطق انسحبت إسرائيل منها بصورة أحادية الجانب. في الحالتين سبقت أو رافقت الهجمات وحوادث الاختطاف، عمليات إطلاق صواريخ في اتجاه الأراضي الإسرائيلية (صواريخ قسّام من غزة وصواريخ كاتيوشا من لبنان). وفي الحالتين أيضاً أثارت الحوادث المذكورة ردود فعل عسكرية على نطاق واسع، لم تكن غايتها فقط ضمان تحرير الجنود المخطوفين دون تقديم أية تنازلات مقابل ذلك، وإنما أيضاً "إحداث تغيير جذري في الواقع السياسي على امتداد الحدود المذكورة وفي ما ورائها". وأخيراً فقد وجدت أعمال تلك العناصر (المنظمات)- التي لا تمثل دولة- صدى إيجابياً متبادلاً في أوساط كل جانب من الجانبين ذاتهما (حماس وحزب الله) وكذا في أوساط جمهور كل منهما.
وفي الحقيقة فقد نُسب جزء من المبررات والمسوغات لعملية "حزب الله" إلى ما وصف على أنه "دعم للقضية الفلسطينية"، وذكر بشكل واضح وصريح أن أية صفقة تبادل أسرى يمكن أن تتم بين إسرائيل وحزب الله سوف تشمل إطلاق سراح معتقلين فلسطينيين.

بعد ذلك يؤكد أن تفحصًا أكثر عمقًا سيظهر أن الرابطة أو العلاقة بين الحالتين تتلاشى كلياً، ويعرض قرائنه المخصوصة، التي يمكن إرجاء الخوض فيها.

على الرغم من ذلك يرى "هيلر" أن هناك ارتباطًا مهمًا واحدًا (بين الحالتين). فنتائج المجابهة في لبنان ستكون لها انعكاسات ملموسة على مستقبل حركة "حماس" بشكل خاص وعلى علاقات الفلسطينيين مع إسرائيل، بشكل عام. ومن المحتمل أن يؤدي تضافر عوامل معينة، نتيجة للعملية العسكرية في لبنان، إلى زعزعة الثقة بما يمثله "حزب الله"، وتحقيق استجابة إقليمية ودولية لمتطلبات الفلسطينيين السياسية مقابل عملهم، إن لم يكن في اتجاه استبدال حركة "حماس" فعلى الأقل في اتجاه دعم وتأييد دفع الحركة نحو تغيير نهجها.

ومن الواضح، في رأيه، أنه سيكون من الصعب على نصر الله و"حزب الله" الخروج من "الأزمة" مع إسرائيل دون أن يلحق بهما نهائياً أي أذى أو خسارة. لكن في ضوء الكيفية التي يُنظر فيها إلى المسألة في المنطقة، فإنه سيكون في وسع الحزب وزعيمه حسن نصر الله، إذا لم تلحق بهما هزيمة مُذلَّة، الإدعاء بالنصر. "إذا حدث ذلك- وفرص هذا الاحتمال ليست أقل، بل ربما هي أكثر منطقية من فرص الاحتمال الآخر- فإن خطاب ومنطق المقاومة سينالان عندئذٍ زخماً جديداً، وسينظر لأي إدعاء أو طرح، يرجح تحوّل حماس نحو طريق الاعتدال أو البرغماتية وقطعاً في المستقبل المنظور على الأقل، بعدم ثقة. على العكس فإن الدافع نحو السير في طريق "حزب الله"، سيزداد قوة، وسيكتسب أهمية أكبر من ذي قبل".

2. بيد أن باحثًا آخر من "مركز يافه للدراسات الإستراتيجية" يتناول الموضوع من زاوية عامل الردع الإسرائيلي، وهو عامل لا يجوز التقليل من شأنه في أية تسوية، ناجزة أو مستقبلية مع إسرائيل.

يرى هذا الباحث، يائير عفرون، أن معادلة الردع، من جانب إسرائيل، إزاء الفلسطينيين لا تنفك تستند حتى الآن إلى مركبين رئيسيين:

* الأول- مستوى الإنجازات السياسية الذي يتوقعه الفلسطينيون، والإحباط المرتبط بذلك في ظلّ غياب أي تقدّم سياسي.
* الثاني- الردّ الإسرائيلي الشديد على "الإرهاب" و"حرب العصابات" الذي يلحق أضرارًا واسعة ومستمرة بالمجتمع الفلسطيني.

يمكن أن يكون هذا الاستحصال غير بريء من الغائية، أساسًا في ضوء تطورات الحرب على لبنان. لكن جوهر ما يقول به هذا الباحث هو أن أية عملية تسوية مع الطرف الفلسطيني لا بدّ، من وجهة النظر الإسرائيلية، أن تبقى محكومة بقدرة القوة الإسرائيلية، خصوصًا إذا ما أضفنا إلى ذلك أن المتحكمين بهذه القدرة، من ساسة إسرائيل وعسكرييها على حدّ سواء، غير مقتنعين البتة منذ فشل القمة في كامب ديفيد في صيف 2000 بأن وجهة الشعب الفلسطيني وقيادته المنتخبة والتمثيلية هي صوب التسوية وعقد السلام مع إسرائيل. وقد لا يكون مهمًا كثيرًا هنا فيما إذا كان هذا السلام هو وفق المفهوم الفلسطيني القائم على قدر نسبي من العدل، أو بحسب الإملاءات الإسرائيلية. فالقناعة ترتبط بالجماعة أكثر من طموحاتها، وأي مفهوم ينأى عن الإملاءات الإسرائيلية يمكن أن يكون كل شيء، سلبي بطبيعة الحال، سوى أن يكون مفهومًا للسلام.

و"عدم الاقتناع" هذا هو أحد العناصر التي تسوّغ إسرائيل من خلالها سياستها الأحادية الجانب حيال الفلسطينيين على الصعد كافة.

ومعروف أن هذه السياسة الأحادية الجانب تواصل حكومة إيهود أولمرت التمسّك بها منذ تشكيلها في أيار/ مايو 2006، بعد أن كان 2005 العام الذي رسّخت فيه إسرائيل، بقيادة حكومة أريئيل شارون، لمسًا ورؤية، ما اصطلحنا على تسميته بـ "المقاربة الأحادية الجانب" لتسوية النزاع الفلسطيني- الإسرائيلي، وذلك من خلال تطبيق خطة الانفصال عن قطاع غزة وبعض أجزاء من شمال الضفة الغربية، والتي سبق أن وضعها شارون ذاته واشتبك من أجلها مع حزبه "الليكود"، إلى حدّ الانفصال عنه أيضًا وتأسيس حزب يمين- وسط جديد هو "كديما" (إلى الأمام)، كما اشتبك من أجلها مع اليمين الإسرائيلي المتطرف.

وبقطع النظر عما أحدثته تلك الخطة والسياسة الأحادية الجانب عمومًا من تداعيات على المشهد السياسي- الحزبي الإسرائيلي الداخلي إلى الآن، فإن أبرز إسقاطاتهما على المستوى الخارجي تجلّت في ركل أشدّ "إصرارًا" لما يعرف باسم "عملية السلام"، من جهة وفي استمرار تجاهل الطرف الفلسطيني كشريك ذي صلة في المفاوضات، من جهة أخرى موازية ومكملة. وبينما كانت الحجة الرئيسة لهذا التجاهل، قبل ذلك، متخفية وراء شعار "غير ذي صلة" حيال الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات فإنها سرعان ما أصبحت متخفية وراء شعار "الأداء الضعيف والواهن" حيال الرئيس محمود عباس (أبو مازن). وانسحب هذا التجاهل أيضًا، من بين أمور أخرى، حتى على دور السلطة الوطنية الفلسطينية ورئيسها في إنجاح خطوة الإخلاء والانسحاب من غزة وشمال الضفة.

وحتى من قبل ظهور نتائج الانتخابات الفلسطينية، وتحديدًا في أواخر 2005، ومع اقتراب موعد هذه الانتخابات الفلسطينية التي جرت في 25 كانون الثاني/ يناير 2006، بدأ الجانب الإسرائيلي بالحديث علنًا عن رفض التعامل مع "حماس" في حال فوزها في الانتخابات التشريعية، ورفضه التعامل مع أية حكومة فلسطينية تشارك فيها "حماس". وهددت الحكومة الإسرائيلية الشعب الفلسطيني وسلطته علنا بوقف تحويل المستحقات المالية الفلسطينية من الجمارك والضرائب للسلطة الوطنية ولأية حكومة تشارك فيها "حماس"، واتخذت الإدارة الأميركية ودول الاتحاد الأوروبي الموقف ذاته علنًا.

مع ذلك لم تكف إسرائيل عن الترويج بأنها ستبقى ترى في السلطة الوطنية الفلسطينية، قبل أي شيء، عنوانًا في نزع سلاح الفصائل الفلسطينية وفي حماية حدودها مع قطاع غزة من القصف الصاروخي المستمر.

كما سبقت الإشارة هناك الآن، ارتباطًا بالحرب على لبنان، دعوات إلى العودة لرؤية الجانب الفلسطيني، بسلطته الوطنية وأحيانًا بحكومته، شريكًا في "التسويات المطروحة"، وبالأخص "خطة التجميع" لرئيس الحكومة الإسرائيلي وخطة "خريطة الطريق" للرباعية الدولية. وهي دعوات لا تزال في الهامش السياسي الإسرائيلي، حسبما عبّر عن ذلك مثلاً الكاتب أ. ب. يهوشواع ("يديعوت أحرونوت"، الفاتح من آب 2006)، الذي برّر ذلك بالأهمية القصوى للفصل "من ناحية الوعي ومن الناحية السياسية" بين المشكلة الفلسطينية وبين المشكلة اللبنانية. وأضاف: "حزب الله وإيران لا يقاتلان من أجل الفلسطينيين. وإنما على العكس، فإن حرب "الجهاد" الأيديولوجية للمتطرفين الشيعة في سبيل "الموت لإسرائيل" و"إعادة اليهود إلى أوروبا"، كما أقوال رئيس إيران، تلحق ضررًا فادحًا بإمكانية حلّ المشكلة الفلسطينية وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي".

وسواء وجدت هذه الدعوات آذانًا صاغية لدى أصحاب القرار أو لم تجد، وهي كما هو بيّن تقع على آذان صمّاء، فإنها في العمق دعوات تنطلق بصورة رئيسة من رؤية وظيفية للسلطة الوطنية والحكومة الفلسطينية. وهي رؤية تشكل الوجه الآخر من المعادلة التي تسعى فقط إلى بلوغ الغايات المندرجة في خدمة المصالح الإسرائيلية من "عملية السلام" المركولة.

وللتذكير فإنه خلال الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة، التي ما زالت نتائجها تتردّد وتتداعى إلى أيامنا، برز أن هناك موضوعًا واحدًا طغى دون ما عداه على الأجندة العامة لمعظم الناخبين، وهو الموضوع نفسه الطاغي على الخطاب الشعبي والحزبي الإسرائيلي، ولا سيما في أعقاب فشل محادثات "كامب ديفيد" وإعلان ألـ"لا شريك" الذي أطلقه إيهود باراك. هذا الموضوع هو: كيف يمكن التخلص من العرب، أو على الأقل كيف يمكن التخلص من غالبيتهم، لا كيف يمكن مفاوضتهم أو حتى التحاور معهم على أقل تعديل?.

وفي هذا الخصوص أظهرت نتائج تلك الانتخابات للقاصي والداني ما يلي:

- حزب "العمل" برئاسة عمير بيرتس حاول عبثاً أن يطرح على الأجندة العامة مواضيع (بالأساس اقتصادية- اجتماعية) تبدو ذات أهمية خاصة، لكن هذه المواضيع اعتبرت ليست ذات صلة بالنسبة لهواجس ورغبات غالبية الجمهور. وهي تظهر الآن عديمة الأهمية تمامًا بعد "بلائه" في الحرب وآثامها.
- الأحزاب الحريدية ليست لديها تقريباً مثل هذه المشكلة، فـ "كل شيء في يدي الله" من ناحيتها.
- "شينوي" و"المفدال" ("القومي- الديني") ليسا مؤهلين لطرح وتزعم مثل هذا الحل ولذلك فقد اختفى الحزب الأول من الخريطة في حين دفع الثاني ثمناً باهظاً.
- الليكود أيضاً لا يستطيع اقتراح شيء- لا إعادة تقسيم للبلاد ولا ترانسفير للعرب والذي ما زال يعتبر غير لائق من ناحية سياسية- ما عدا الخيار الأسوأ وهو استمرار وتصعيد النزاع.
- اليمين المتطرف، المتجسّد في حزبي "يسرائيل بيتينو" (إسرائيل بيتنا، بزعامة أفيغدور ليبرمان) و"هئيحود هليئومي" (الاتحاد الوطني)، يتعهد من جهته باقتلاع غالبية العرب مما يسمى "أرض إسرائيل".
- أما حزب "كديما" فيتعهد بتنفيذ الخيار، الذي يعتبره غالبية المعلقين وعلماء السياسة الأكثر واقعية اليوم، وهو الفصل التدريجي، الذي يخدم قبل أي شيء بقاء إسرائيل دولة ذات غالبية يهودية..

التعليقات