النخب الإسرائيلية و"الربيع العربي"/ أنطوان شلحت (2-3)

من المجلة الفصلية "قضايا إسرائيلية" الصادرة عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار، عدد 41- 42، صيف 2011

النخب الإسرائيلية و

من المجلة الفصلية "قضايا إسرائيلية" الصادرة عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار، عدد 41- 42، صيف 2011

 

ما هي خريطة "الجبهات الساخنـة" التي اتسعت

 

يجوز أن الجبهات الساخنة التي يقصدها أشكنازي، لدى تصديه لاستشراف سيناريو الحرب المقبلة المتوقع أن تخوضها إسرائيل، تشمل الجبهة الجنوبية مع مصر، غير أنه بالتأكيد يأخذ في الاعتبار أنها قبل ذلك تشمل الجبهة الشمالية (سورية ولبنان)، والجبهة مع قطاع غزة. وعلى صلة بهذا الموضوع، لوحظ أيضًا أن نتنياهو يلوّح كثيرًا في الآونة الأخيرة بـ "فزاعّـة" جديدة هي "الجبهة الشرقية"، والتي كانت قد رأت النور لأول مرة عقب حرب حزيران 1967، وجاءت لتسويغ مفهوم إستراتيجي في "نظرية الأمن الإسرائيلية" فحواه أن نهر الأردن يجب أن يكون جزءًا من "حدود إسرائيل الأمنية"، لكونه يضمن لها "حدودًا يمكن الدفاع عنها"، وفقًا لما ورد في حينه في ما عرف باسم "خطة يغئال ألون" (التي اقترحت أن يظل غور الأردن في يد إسرائيل، وكذلك منطقة غوش عتصيون وجزء من جبال الخليل والقدس الموحدة). وفي جولة جديدة قام بها في غور الأردن يوم 8 آذار/ مارس 2011 تعهد نتنياهو بأن يبقى الجيش الإسرائيلي مسيطرًا على الغور في أي تسوية يتم التوصل إليها مع الفلسطينيين في المستقبل، مؤكدًا أنه إذا كان هذا الأمر صائبًا قبل الزلزال العربي الذي ضرب المنطقة فإنه أصبح ضروريًا أكثر بعده، في ظل حالة من عدم الاستقرار لا يدرك أحد نهايتها، وتستلزم ضمان وجود أسس أمنية صلبة، وحدود آمنة يمكن الدفاع عنها. كما شدّد على أنه في حال بقاء الخط الحدودي في غور الأردن مخترقا فهذا يعني أنه يمكن تهريب صواريخ وقذائف صاروخية والوصول بها إلى أي مكان في إسرائيل، إلى تل أبيب والقدس، ولذا فإنه لا يوجد أي بديل من خط الدفاع الذي يوفره الجيش الإسرائيلي. 

ووفقًا لصحيفة هآرتس (9 آذار/ مارس 2011) فإن رئيس الحكومة بدأ حملة خاصة لدى زعماء دول مركزية في العالم تهدف إلى الحصول على تأييدهم الاحتفاظ بوجود عسكري إسرائيلي في منطقة غور الأردن في نطاق أي اتفاق سلام يتم التوصل إليه مع الفلسطينيين في المستقبل. وهو ما يتسّق مع مسعاه لجعل "السلام مستندًا إلى الأمن". ونشير هنا إلى أن رئيس هيئة الأركان العامة الأسبق موشيه يعلون (ليكود)، الذي يشغل حاليا منصب النائب الأول لرئيس الحكومة ووزير الشؤون الإستراتيجية، أكد في سياق سابق أن أول خطاب سياسي ألقاه نتنياهو كرئيس للحكومة في جامعة بار إيلان في حزيران/ يونيو 2009 عكس تحولا مهما في سياسة إسرائيل يتمثل في "العودة إلى المفاهيم التقليدية المعتمدة على الأمن مفتاحًا لتحقيق سلام دائم".

وكان نتنياهو قد أفلح في "إنجاز" إقرار بصريح العبارة من جانب أوباما، في أثناء اللقاء الذي جمع بينهما في تموز/ يوليو 2010، أن "لإسرائيل متطلبات أمنية خاصة، بالنظر إلى حجمها وتاريخها وموقعها والمخاطر التي تواجهها..."، ما حدا بالأول خلال جلسة حكومته المنعقدة يوم 11 تموز/ يوليو 2010 إلى تأكيد أنه خرج بانطباع مؤداه "أن الرئيس (الأميركي) يصيخ السمع إلى الاحتياجات الأمنية الخاصة لدولة إسرائيل ويتفهّمها".

وطبقًا لخطابات نتنياهو الأخيرة فإن "أسس الأمن" بحسب رؤيته تنطلق من إدراك حقيقة ما يعرّض إسرائيل إلى الخطر، ذلك بأنه منذ اتفاق أوسلو (1993) تضافر كقوله "عنصران قويان في المعادلة الراهنة ويجب أن تأخذهما أي معاهدة سلمية بعين الاعتبار وتتجاوب معهما: العنصر الأول هو صعود إيران وتوابعها، والعنصر الثاني صعود مفهوم حرب الصواريخ والقذائف". وتابع قائلاً: "يجب علينا تحقيق تسويات سلمية تقدّم الحلول لكل من هذه التهديدات، إذ إننا لا نريد العودة إلى ما جرى سواء عند إخلائنا لبنان حيث كانت النتيجة نشوء قاعدة إيرانية إلى الشمال من أراضينا وإطلاق الكثير من القذائف الصاروخية عليها والتعاظم العسكري داخل هذا الجيب، أو ما جرى في غزة (عقب خطة الانفصال في العام 2005) حيث نشأ جيب إيراني جنوبي مع إطلاق الكثير من القذائف الصاروخية على إسرائيل وثمة تسلّح بوتيرة متزايدة. وبالتالي يجب علينا ضمان عدم تغلغل الصواريخ والقذائف والوسائل القتالية الأخرى أو العناصر الإرهابية إلى أي مناطق يُطلب من إسرائيل إخلاؤها ضمن التسوية السلمية. كما أضيف إلى هذه التهديدات المحتملة عنصر ثالث توارى عن الأنظار خلال العقد الأخير منذ هزيمة صدام حسين في العراق وهو عدم تكوّن ما يُعرف بالجبهة الشرقية مجددًا. ولا أقول إنها سوف تتكوّن حتمًا لكن أؤكد ضرورة أن نضمن في إطار اتفاقيات سلمية واقعية، وحرصاً على احتياجاتنا الأمنية الواقعية، وجود تدابير أمنية ميدانية تقدم الحلول لمجمل هذه المخاطر... فضلاً عن أخذ احتمال حدوث تغير داخلي في نظام الحكم، كما خبرنا ذلك في الماضي، في الحسبان أيضًا" (من الخطاب الذي ألقاه في 27 تموز/ يوليو 2010 في حفل تخريج دورة "كلية الأمن القومي").

تجدر الإشارة إلى أنه في الأسبوع الأخير من العام 2009، وخلال خطاب له أمام اجتماع السفراء الإسرائيليين، شرح نتنياهو موقفه إزاء الترتيبات الأمنية الفعالة التي ينبغي تطبيقها في حال التوصل إلى تسوية سلمية مع الفلسطينيين. وفي إطار ذلك أكد أنه ومن أجل المحافظة على بقاء الضفة الغربية منطقة منزوعة السلاح لا بد للجيش الإسرائيلي من الاحتفاظ بوجود عسكري على امتداد نقاط الدخول من الشرق، وذلك بغية إحباط عمليات التسلل والتهريب التي يمكن أن تغرق المنطقة بالأسلحة والذخيرة. ومن ناحية عملية فقد أكد لسفرائه أهمية منطقة غور الأردن الحاسمة بالنسبة لأمن إسرائيل. ويمكن القول إنه بذلك واصل تقاليد مديدة لرؤساء حكومات إسرائيليين سابقين رأوا في غور الأردن خط الدفاع المتقدم لدولة إسرائيل. وكان إسحق رابين قد استعرض في آخر خطاب له أمام الكنيست، في الخامس من تشرين الأول/ أكتوبر 1995، أي قبل شهر واحد من اغتياله، رؤيته فيما يتعلق بالحدود المستقبلية، معلنا أن إسرائيل لن تعود إلى خطوط الرابع من حزيران/ يونيو 1967. وأضاف أن "حدود الأمن للدفاع عن دولة إسرائيل ستقام في غور الأردن وفق التفسير الأوسع لهذا المفهوم". ويبدو أن رابين لم يقصد الدفاع عن إسرائيل على امتداد المسار الضيق لنهر الأردن ذاته، وإنما خطط لاستغلال المنحدرات الشرقية لسلسلة الجبال المطلة على منطقة غور الأردن. وفي مقابلة أدلى بها إلى صحيفة هآرتس في 14 نيسان/ أبريل 2005 أكد أريئيل شارون أيضًا وجوب سيطرة إسرائيل على منطقة غور الأردن من مرتفعات الجبال المطلة عليها.

فضلاً عن ذلك، تحيط بنتنياهو مجموعة من كبار المسؤولين العسكريين الإسرائيليين السابقين، التي تنكب بدورها على كتابة نصوص لشرح احتياجات إسرائيل الأمنية في ظل السلام بمقتضى جعلها تتصدّر واجهة جدول الأعمال العام. وشارك بعض هؤلاء في مؤتمر سنوي نظمه مركز الأبحاث الإسرائيلي "المركز المقدسي لشؤون الجمهور والدولة" الذي يترأسه دوري غولد في شهر حزيران/ يونيو 2010، وصدرت مداخلاته في كتاب باللغة الانكليزية تحت عنوان "احتياجات إسرائيل الأمنية الحاسمة لصنع سلام قابل للتطبيق". واستأثرت مسألة "الحدود التي يمكن الدفاع عنها"، باعتبارها في طليعة تلك الاحتياجات الأمنية، بحصة الأسد من أعمال هذا المؤتمـر.

ويعتقد هؤلاء أن مستقبل غور الأردن تعرّض للإغفال في الجدل العام المتعلق بالعملية السياسية، ولا بُدّ من أن يعود إلى صدارة هذا الجدل الآن. وقد عزوا هذا الإغفال إلى بضعة أسباب أهمها واقع أنه في الخطاب العام بشأن هذا الموضوع، كان الاعتبار المركزي المتعلق بأي انسحاب واسع من الضفة الغربية هو المستوطنات الكبيرة والكتل الاستيطانية. وبعد تنفيذ خطة الانفصال عن غزة (2005)، تطلعت الحدود التي رسمت في اتفاقيات وخطط السلام المختلفة إلى إدخال أقصى عدد من المستوطنين إلى أدنى حد من الأرض. أما متطلبات إسرائيل الأمنية فقد أهملت، أو إنها استندت إلى الفرضية القائلة بأنه إذا أطلقت صواريخ (قسام) من داخل الضفة الغربية فسيكون في وسع الجيش الإسرائيلي السيطرة مجددًا على أراضي الضفة الغربية كلها في ظرف ساعات معدودة. لكن هذه الفرضية سقطت عقب حرب لبنان الثانية وعملية "الرصاص المصبوب" في غزة (شتاء 2009) واللتين برهنتا على التعقيدات والصعوبات الكامنة في عمليات عسكرية داخل مناطق آهلة، ولا سيما إذا ما أضيف إلى ذلك تقارير من نوع تقرير غولدستون. وفي قراءة بعضهم، بات واضحا الآن لدى الجمهور الإسرائيلي أن "الخطأ الإستراتيجي الأشد خطورة للانفصال" كان التخلي عن محور فيلادلفي، والذي مكن حركة حماس من إنشاء شبكة أنفاق وتهريب ترسانة أسلحة ضخمة إلى داخل قطاع غزة.  وفي الفترة بين العامين 2005 و2006 ازداد إطلاق الصواريخ على إسرائيل بنسبة 500 بالمئة، كما أطلقت للمرة الأولى صواريخ غراد على مدينة عسقلان. وبالتالي "لا حاجة لخيال واسع من أجل إدراك ما سيحدث إذا ما تخلت إسرائيل عن منطقة غور الأردن، والتي يمكن اعتبارها بمثابة محور فيلادلفي للضفة الغربية".  واستعاد هذا البعض أنه في التقرير السنوي الأخير لجهاز الأمن العام الإسرائيلي (شاباك) ورد أنه في الوقت الذي انحسر فيه بشكل عام "تهديد الإرهاب" ضد إسرائيل، فإن الأمر الذي شذّ عن هذا الاتجاه تمثل في الضلوع المتزايد لمجموعات "الجهاد العالمي" في قطاع غزة؛ "ولا شك في أن هذه المجموعات كانت ستفعل الشيء نفسه في الضفة الغربية أيضا فيما لو تتوفر لها الإمكانية لذلك".

إجمالاً،  يمكن القول إن التلويح بـ "فزاعة الجبهة الشرقية" يهدف إلى تمرير رسالة إلى الفلسطينيين والعرب فحواها أن خطوط العام 1967، وكذلك خط الجدار الفاصل، لا يمكن أن يشكلا خط حدود يمكن الدفاع عنه، ولذلك فإن السيطرة الإسرائيلية الكاملة على غور الأردن بأكمله، كمنطقة أمنية تستند إلى نهر الأردن كخط حدودي، هي الكفيلة فقط بـ "ضمان الأمن لإسرائيل".

 

"السلام الإسرائيلي" يتجـرّد من "أهم أرصدته"!

 

على صلة بالاستنتاجات السالفة التي تراكمت في البداية، عاد السفير الإسرائيلي الأسبق في مصر تسفي مازائيل، الذي يعمل حاليًا باحثًا كبيرًا في "المركز المقدسي لشؤون الجمهور والدولة"، أخيرًا، وأبدى الامتعاض الشديد جراء المسار الذي تنحو فيه الثورات الشعبية في العالم العربي، وخصوصًا في مصر، بسبب كونه مسارًا متنائيًا عن توقعاته بالتأدية إلى "نشوء ديمقراطيات تُقدم على الاعتراف بإسرائيل دولة قومية للشعب اليهودي"، على حدّ قوله.

وقد حاول مازائيل، في سياق مقالة نشرها في الموقع الإلكتروني التابع للمركز الذي يعمل فيه في أوائل شهر حزيران/ يونيو 2011، أن يوهم قراءه أن هذا المسار نجم في الأساس عما أسماه تعاظم النفوذ الإيراني في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك عن ازدياد قوة حركات الإخوان المسلمين وشعبيتها، كما لو أن معارضة قبول إسرائيل كدولة يهودية حكر على إيران والحركات الإسلامية، أو أنها إحدى محصلات تأثيرهما المتنامي في حلبة السياسة الإقليمية.

كما أنه لفت إلى ارتفاع الأصوات داخل مصر التي تطالب بإلغاء اتفاق السلام مع إسرائيل أو تجميده، وبوقف تزويدها بالغاز الطبيعي، مشددًا على أنه في حال حدوث ذلك فإن مصالح إسرائيل الإستراتيجية ستتعرّض إلى أضرار فادحة.

وفي وسعنا أن نرى في قوله الأخير هذا دليلاً آخر من دلائل كثيرة ما انفكت تتراكم منذ اندلاع ثورة 25 يناير المصرية على أن "اتفاق السلام الإسرائيلي- المصري" يشكّل بالنسبة لإسرائيل بمنزلة "الرصيد الأهم" الذي بات عرضة لخطر التلاشي، لأنه كان على مدار ثلاثة عقود ونيّف مضت على توقيعه بمثابة ركن رئيس لـ "الباكس إزرائيلي" (السلام الإسرائيلي)، وفقًا لما أكده مثلاً غيورا أيلاند، وأشرنا إليه في السطور السالفة.

وبموجب ما كرّره رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو أكثر من مرّة أخيرًا فإن "اتفاق السلام القائم منذ أعوام طويلة بين إسرائيل ومصر عاد بفوائد جمّة على الدولتين، كما أنه حجر الزاوية للسلام والاستقرار في الشرق الأوسط  كله".

وفي إمكاننا أن نحدّد الغاية الحقيقية لـ "الباكس إزرائيلي" في المعادلة التالية: فرض استمرار "الوضع القائم" بالوسائل كلها للحفاظ على المصالح الإستراتيجية والاقتصادية الإسرائيلية، ما يعني استخدام القوة العارية وشنّ الحروب الدائمة من جهة، واستخدام القوة الناعمة من جهة أخرى لضمان إخضاع شعوب الشرق الأوسط إلى إملاءات المصالح الإسرائيلية وشروطها، من دون أخذ مصالح هذه الشعوب في الاعتبار. وهذا ما عبّر عنه، بكيفية ما، رئيس هيئة الأركان العامة السابق أشكنازي في آخر اجتماع عقد لهذه الهيئة برئاسته في شهر شباط الفائت والذي خُصّص لتقدير الموقف إزاء آخر التطورات في العالم العربي حين أكد أن "الاستقرار في الشرق الأوسط (يقصد استمرار "الوضع القائم") أهم كثيرًا من الديمقراطية". 

ولم تكف التحليلات الإسرائيلية عن التلميح الصريح إلى أن الثورة المصرية فاقمت ضائقة إسرائيل الإستراتيجية في الشرق الأوسط، وذلك لأنها زادت احتمالات أن  تبقيها وحيدة من دون حلفاء.

ووفقًا لهذه التحليلات فإن هذه الضائقة بدأت في أيار/ مايو 2010 عندما انهار التحالف الإستراتيجي مع تركيا عقب حادثة السيطرة على أسطول الحرية الذي كان متجهًا إلى غزة. وأشار بعضها إلى أن نتنياهو ومنذ أن تسلم مهمات رئيس الحكومة الإسرائيلية قبل أكثر من عامين بادر إلى معانقة الرئيس المصري السابق حسني مبارك، ونجح في عقد تحالف معه على أساس الخشية المشتركة من تغلغل إيران في المنطقة، كما أنه نجح في إقناعه برغبته في التوصل إلى السلام مع الفلسطينيين. ولا شك في أن سقوط مبارك سيجعل نتنياهو من دون أي حليف عربي، في وقت ستكون مصر في المرحلة القليلة المقبلة مهتمة أكثر من أي شيء آخر بشؤونها الداخلية، ولن تكون ضالعة في "عملية السلام" كما كانت ضالعة إلى الآن. وفي موازاة هذا فإن إسرائيل في الجبهة الشرقية ستظل في مواجهة سلطة متشككة للعاهل الأردني عبد الله الثاني الذي لا يكف عن تحميلها مسؤولية الجمود المسيطر على العملية السياسية، ويرفض عقد لقاء مع نتنياهو، في حين أنه قامت في جبهتها الشمالية حكومة لبنانية يسيطر عليها حزب الله. أمّا في المناطق الفلسطينية فإن الرئيس محمود عباس يبدو منشغلا أكثر شيء في دفع عملية تنفيذ اتفاق المصالحة بين حركتي فتح وحماس، وفي تحقيق استحقاق أيلول بإعلان الجمعية العامة في الأمم المتحدة تأييد إقامة دولة فلسطينية مستقلة في حدود 1967. وإذا لم يكن ذلك كله كافيًا، فإنه لا بُدّ من القول إن الشرق الأوسط برمته سيبقى مع إدارة أميركية ضعيفة توحي بأنها قد رفعت يدها عنه.

وقد حدّد دوف فايسغلاس، المدير العام لديوان رئيس الحكومة الأسبق أريئيل شارون، "خسارة" إسرائيل جراء الثورة المصرية بأن أشار إلى أن مبارك لم يجعل مآل العلاقات الإسرائيلية- المصرية رهن التقدّم نحو اتفاق إسرائيلي- فلسطيني، وفي أكثر من لقاء مع هذا الأخير كان فايسغلاس مشتركًا فيه سمعه يؤكد أن اتفاقًا كهذا سيدفع السلام الإسرائيلي- المصري قدمًا، لكنه لم يسمعه مطلقًا يلمح إلى أن الطريق المسدودة بين إسرائيل والفلسطينيين تهدّد بإلغاء اتفاق السلام بين مصر وإسرائيل.

وأضاف: لا يمكن الآن معرفة جوهر السلطة المقبلة في مصر. ومع أن الإدارة الأميركية الحالية تطالب بإجراء انتخابات حرّة في أقرب فرصة ممكنة إلا إنها تتمنى في قرارة نفسها أن يظل الجيش المصري مسيطرًا إلى الأبد على السلطة هناك، نظرًا إلى كونه الجهة الوحيدة التي يمكنها أن تواصل "طريق مبارك". غير أن هذا لن يحدث طبعًا، والتوقعات لدى إسرائيل في معظمها تؤكد أن حركة الإخوان المسلمين لن تتولى مقاليد السلطة المقبلة في مصر، لكنها ستكون جزءًا مهمًا منها. وفي ضوء ذلك فإن من المتوقع أن يكون اتفاق السلام مع إسرائيل موضع خلافات حادة بين هذه السلطة وبين حركة الإخوان المسلمين، كما أن من المتوقع أن يطرح الإخوان مطلب إلغاء هذا الاتفاق في ظل الجمود المسيطر على عملية السلام بين إسرائيل والفلسطينيين. ومع أن هناك أسبابًا وجيهة لدى مصر تستلزم عدم إقدامها على إلغاء هذا الاتفاق، إلا إن هناك خشية كبيرة من أن تقدم (أي مصر) على رهن الاتفاق بدفع العملية السياسية الإسرائيلية- الفلسطينية قدمًا. وفي حال حدوث ذلك فإن إسرائيل ستواجه وضعًا صعبًا. ولذا من الأفضل للحكومة الإسرائيلية أن تسارع إلى استئناف المفاوضات مع الفلسطينيين على أساس الاقتراحات والمبادئ المعروفة سابقًا، وذلك قبل أن تتبلور السلطة المقبلة في مصر بصورة نهائية.

وختم فايسغلاس قائلاً: إن سلطة مبارك لم تعد موجودة، وعلى الحكومة الإسرائيلية أن تدرك أن الوقت لا يعمل لمصلحتها بعد سقوط هذه السلطة (يديعوت أحرونوت، 28 شباط/ فبراير 2011).

مؤدى ذلك كله أن "الباكس إزرائيلي" يواجه حاليًا أصعب امتحان له، لكنه في هذا الخضم يتجرّد أيضًا من رتوشه كلها، ولا يجوز إلا أن نقرأ في هذا السياق دلالة "إصرار" نتنياهو على طرح ركنين لهذا "السلام" هما "الشرعية والأمن"، وعلى أن استمرار "النزاع مع الفلسطينيين" ناجم عن سبب واحد هو عدم اعترافهم حتى الآن بحق دولة إسرائيل في الوجود، ذلك بأن هذا النزاع "ليس على حدود 1967 وإنما على ما جرى العام 1948"، والمقصود إقامة دولة إسرائيل.

ومن هذين الركنين يشتق نتنياهو "مبادئ ذلك السلام" الذي لا بُدّ برأيه من أن يكون مرتبطًا بالأمن أولاً ودائمًا، وهي المبادئ التالية: أولاً، اعتراف الفلسطينيين بإسرائيل دولة قومية للشعب اليهودي؛ ثانيًا، أن تؤدي التسوية الدائمة إلى نهاية النزاع ووضع حد للمطالب؛ ثالثًا، أن يتم حل قضية اللاجئين الفلسطينيين خارج تخوم دولة إسرائيل؛ رابعًا، أن تُقام الدولة الفلسطينية عن طريق اتفاق سلام وأن تكون منزوعة السلاح وأن تحتفظ إسرائيل بحق المرابطة العسكرية لفترة طويلة على طول نهر الأردن؛ خامسًا، أن تبقى الكتل الاستيطانية الكبرى (في الضفة الغربية) خاضعة للسيادة الإسرائيلية؛ سادسًا، أن تبقى القدس الموحدة عاصمة لإسرائيل. وهذا ما يمكن استشفافه من خطاباته الأخيرة بما في ذلك خطابه في الكونغرس الأميركي يوم 24 أيار/ مايو 2011 والذي ضمنه مقاربته إزاء الثورات العربية.

وقبل أكثر من ثمانية أعوام كتب عوزي أراد، المستشار الأقرب من نتنياهو والرئيس السابق لمجلس الأمن القومي، مقالة في صحيفة هآرتس بالتزامن مع بدء الحديث عن إمكان شنّ الولايات المتحدة حربًا على العراق، رأى في ثناياها أن "مقامرة الحرب" تُعدّ ضرورة إمبريالية بالنسبة للإمبراطوريات بهدف فرض سلامها، وأن الإمبراطوريات تغيب حين لا تتبقى لديها قوة لمواجهة التحديات الماثلة أمامها.

وأضاف أنه إذا ما حققت الولايات المتحدة أهدافها في العراق، فإنها ستعزّز مكانتها وترسخ النظام العالمي الخاضع لوصايتها، وإذا ما فشلت، فستترتب على فشلها نتائج قاسية وخطرة بالنسبة للمنطقة وستتزعزع مكانتها الإمبريالية. ولذا فإن المعركة في العراق هي ليست فقط حول التهديد الذي يشكله كدولة مارقة تتزود بأسلحة غير تقليدية، وإنما هي أيضًا معركة على مكانة الولايات المتحدة. وحرص على تأكيد أن ما يقف على كفتي الميزان هو مصير السلام الأميركي، وأنه برؤية تاريخية ليس هناك خيار حقيقي أمام الولايات المتحدة سوى مواجهة التحدي.

وربما تكمن أهمية ما كتبه أراد الآن في كونه يشفّ عن تبنّي مقاربة غربية في سياق سياسي إسرائيلي جعل نفسه صدًى لمثل هذه المقاربات، التي يبدو أن إحداها تنشأ في الآونة الأخيرة نتيجة طرح أسئلة شبيهة إزاء "تحديات" مماثلة تعرضها الحالة الراهنة عربيًا وإقليميًا برسم الثورات الشعبية الأخيرة المرشحة عاجلاً أم آجلاً لأن تواجه الغاية الحقيقية لـ "السلام الإسرائيلي" الذي بنى مخططاته على أساس تعويلات مستقطرة من "السلام" مع مصر من دون أن يأخذ في الاعتبار إمكان تعرّضه لزلزال مدمّر بفعل عوامله الباطنية.

 

عن هزيمة العقل الإسرائيلي

 

إن أحد محاور التعاطي الإسرائيلي مع الثورة المصرية تمثّل في توجيه نقد حادّ إلى مؤسسة الاستخبارات الإسرائيلية جراء عدم استشراف إمكان اندلاعها، وكذلك جراء توقعاتها في بدايتها بأن لا تفضي إلى نتائج شبيهة بتلك التي أفضت إليها "ثورة الياسمين" في تونس وإن بدا أنها متأثرة بها.

وبالتزامن مع انطلاق تلك الثورة كتبت الصحف الإسرائيلية وفي مقدمها معاريف في 26 كانون الثاني/ يناير 2011 ما يلي: تتابع إسرائيل عن كثب ما يحدث في مصر في الأيام القليلة الفائتة، ويتوقع المسؤولون فيها أن تنجح السلطة في القاهرة في أن تجتاز الأزمة التي تعصف بها بسلام. وقالت مصادر إسرائيلية استخباراتية رفيعة المستوى إن "مصر ليست لبنان أو تونس، والأوضاع فيها مستقرة حتى الآن، ولا يوجد أي داع للقلق. كما أن الأوضاع في مصر ما زالت بعيدة عن احتمال اندلاع عصيان مدني، وخلافًا للرئيس التونسي وشاه إيران اللذين أطيحا بهما واضطرا إلى الهرب من بلديهما، فإن الرئيس المصري حسني مبارك غير منعزل عن شعبه ويدرك نبض الشارع ويتخذ الاحتياطات اللازمة". ووفقًا لتقدير هذه المصادر الاستخباراتية نفسها فإن السلطة المصرية هي التي سمحت بإجراء التظاهرات الكبرى وذلك "كي تتيح للجمهور العريض إمكان تنفيس غضبه". وقال أحد هذه المصادر إن "مصر هي دولة كبيرة مقارنة بكل من تونس ولبنان، وحتى بالمقارنة بدول أوروبا الشرقية التي اندلعت فيها ثورات في الماضي، فضلاً عن ذلك فإن مؤسسات الدولة المصرية، بما في ذلك الجيش، خاضعة كليًا لسلطة الرئيس مبارك، التي تملك تجربة غنية في مجال مواجهة مشاعر الجمهور العريض، وتعرف كيف تحافظ على الاستقرار". وأضاف هذا المصدر أن "تظاهرة يشترك فيها 20 - 30 ألف شخص لا تعد كبيرة في مصر على الإطلاق، وتوجد لدى السلطة هناك قوات أمنية بأعداد تفوق هذا العدد كثيرًا".

مع ذلك فإن المصادر الإسرائيلية الاستخباراتية تؤكد أن "عيون العالم كله، بما في ذلك إسرائيل، تتابع ما يحدث في مصر بقلق بالغ، وذلك لكونها دولة كبيرة ومهمة للغاية وذات تأثير هائل في العالم العربي كله. كما أن ما يحدث في مصر في موازاة ما يحدث في كل من لبنان وتونس يجب أن يثير القلق الشديد، خاصة وأن هذه هي أول مرة يكون فيها معظم المتظاهرين من الشبان الذين جرى تجنيدهم عبر الشبكات الاجتماعية والانترنت". وتضيف هذه المصادر أن ما يجب فعله الآن "هو الانتظار ريثما يتبين ما إذا كان المتظاهرون سيخلون الساحات العامة بإرادتهم أو سيتم إخلاؤهم منها بالقوة. وتجربة الماضي تدل على أن السلطة في مصر تعرف كيف تواجه الاحتجاجات الشعبية بصورة صحيحة وحازمة، وكيف تحول دون أن تتسبب هذه الاحتجاجات بزعزعة الاستقرار الداخلي".

من ناحيتها ذكرت صحيفة يديعوت أحرونوت (26 كانون الثاني/ يناير 2011) أن الخبراء والمحللين في أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية يكتفون الآن بمتابعة حركة الاحتجاج في الشارع المصري ساعة بساعة، وأن الأمر الوحيد الذي حرصوا على تأكيده هو أن "مصر ليست تونس"!.

أمّا صحيفة هآرتس (26 كانون الثاني/ يناير 2011) فلفتت إلى أن أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية لم تتوقع أبدا حدوث انتفاضة شعبية في مصر، بل إن الرئيس الجديد لشعبة الاستخبارات العسكرية (أمان)، الجنرال أفيف كوخافي، قال أمام لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست، قبل أسبوع من اندلاع الانتفاضة، إن النظام المصري مستقر. وأشارت إلى أن أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية توقعت حدوث انقلابات في دول عربية خلال العام 2011 الحالي لكنها لم تتوقع أبدا اندلاع انتفاضات شعبية.

وفي السياق ذاته كتب كبير المعلقين السياسيين في صحيفة يديعوت أحرونوت، ناحوم برنياع، أنه عشية الزيارة التي قام بها نتنياهو لمصر في 6 كانون الثاني/ يناير 2011 تمت مطالبة مسؤول كبير جدا في جهاز الموساد، وعلى ما يبدو فإنه رئيس الجهاز السابق مئير داغان، بتقويم الوضع في مصر. ونقل برنياع عن المسؤول في الموساد قوله "إنني لا ألاحظ وجود خطر فوري يتهدّد السلطة، وأقدر بأن قدرة القيادة الحالية على البقاء في السلطة معقولة حتى بعد رحيل مبارك، وثمة ثلاثة تحديات ماثلة أمام مصر وهي السنّ المتقدّم لمبارك وحالته الصحية، والأوضاع في السودان، والجدل حول تقاسم مياه النيل. وثمة مشكلة رابعة هي الاقتصاد". ورأى برنياع أن المتحدث لم يكن في إمكانه أن يتكهن مسبقا أن يحدث ما حدث في تونس وأن الحريق الذي اشتعل سينتقل بسرعة إلى مصر "لأنه لم يول اهتماما كافيا للضائقة الاقتصادية، ولم يتطرق مطلقًا إلى مشاعر الغليان لدى الجمهور (المصري) إزاء فساد المقربين من النظام".

ولدى متابعة ما نُشر في المحور المتعلق بالاستخبارات لا مفر من ملاحظة أن النقد كان صارمًا للغاية، لا سيما في ضوء واقع أن مؤسسة الاستخبارات نفسها ارتكبت في الآونة الأخيرة إخفاقات كثيرة في مجال استشراف التطورات في الشرق الأوسط، بدءًا بنتائج الانتخابات للمجلس التشريعي الفلسطيني في العام 2006، وانتهاء بإسقاط حكومة سعد الحريري في لبنان قبل بضعة أسابيع من الثورة المصرية، مرورًا بترسانة الأسلحة لدى حزب الله عشية حرب لبنان الثانية، والمظاهرات المدنية في إيران... والقائمة طويلة.

ولتخفيف وطأة "الجلد الذاتي" فإن كبار المحللين العسكريين والإستراتيجيين استعادوا حقيقة أن احتمالات نجاح الاستخبارات في استشراف سلوك الجماهير الشعبية تبقى ضئيلة للغاية، فضلاً عن أن استخبارات دول أخرى أقوى نفوذًا من إسرائيل واجهت الإخفاق في هذا المجال، بل وفي مجالات محدّدة وقابلة للاستشراف أكثر، ولعل أشهرها- إذا ما نأينا بأنفسنا عن نظرية المؤامرة- كامن في "إخفاق الاستخبارات الأميركية في معرفة عدم امتلاك الرئيس العراقي السابق صدام حسين أسلحة دمار شامل". وفي هذا السياق فإن البعض استعاد، بقدر من السخرية السوداء، كيف أن وزير الدفاع الأميركي الأسبق، دونالد رامسفيلد، قال عندما سُئل في مؤتمر صحافي عن إخفاقات استخبارات بلده قبيل غزو العراق: "يبدو أننا لا نعرف أننا لا نعرف"!.

مع ذلك فإن القضية في العمق لم تعد منحصرة في معادلة أن "إسرائيل لا تعرف أنها لا تعرف"، بقدر ما إنها تعبر عن هزيمة أخرى لـ "العقل الإسرائيلي" الذي كان ولا يزال أسير مفهوم متكلس أجاد المعلق السياسي والعسكري الإسرائيلي عوفر شيلح وصفه حين قال: المشكلة ليست كامنة في رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية أو في رئيس هيئة الأركان العامة، وإنما هي مشكلتنا جميعًا حينما نسألهما. والمشكلة أيضًا هي أننا لا نزال، بعد كل أخطاء تنبؤهما وتنبؤ آخرين، نفكر أنه في الأمور التي تتصل بإرادة الجمهور العريض وليس بالمعلومات التكتيكية، ثمة أحد يعرف أكثر من الجميع لا لشيء إلا لأنه يحمل درجات ورُتبًا (عسكرية) وفي مقدوره أن يتنصّت سرًّا، مؤكدًا أنه فقط الدولة التي تنظر إلى كل شيء عبر فوهة المدفع بمقدورها أن تجعل أفرادها العسكريين مسؤولين بصورة حصرية عن "تقدير المواقف الوطنية العامة". 

ورأى آخرون أنه حان الوقت للتحرّر من التفكير القائل إنه إذا كانت لدى إسرائيل استخبارات جيدة، فإن في مقدورها أن تتغلب على كل المشكلات الخارجية والأمنية.

وكان أستاذ الإعلام د. يورام بيري قد أشار قبل خمسة أعوام في سياق مماثل آخر إلى أن هذا التفكير يشكل قدمًا واحدة لمفهوم أعوج تحيا إسرائيل معه طوال أعوام كثيرة على الرغم من أنه يقلب لها ظهر المجّن المرة تلو الأخرى، أمّا القدم الثانية فهي الاعتقاد بأنه إذا كانت لديها دعاية أفضل لكانت قد أصبحت ملكة العالم.

وأعاد هؤلاء إلى الأذهان أن نظرة متبصرّة إلى أعوام وجود إسرائيل المنقضية من شأنها أن تبيّن بسهولة أن أكثر الأحداث أهمية في تاريخها، التي أثرّت كثيرًا على مسيرتها، لم يتم توقعها مسبقًا، لا من طرف شعبة الاستخبارات العسكرية، ولا من طرف "أنبياء" آخرين.

وقد تمّ ذكر الأحداث التالية على سبيل المثال:

-          شكلت الهجرة الجماهيرية من دول شمال إفريقيا في أوائل الخمسينيات من القرن العشرين الفائت الحدث الذي بلور، أكثر من أي شيء آخر، طابع المجتمع الإسرائيلي، فهي التي أوجدت التصدّع الطائفي وواجهت ما بين "الجنوبيين" الفقراء و"الشماليين" الأغنياء، وضفرت ما بين الأصل الطائفي والانتماء السياسي. وقد حدث هذا كله من دون أن يتوقعه أحد ومن دون قدرة تنبؤ ذلك مسبقًا.

-         لم يتوقع أحد أيضًا أن تنفجر حرب "الأيام الستة" (حرب حزيران/ يونيو) في صيف 1967. وفقط قلائل جدًا كان في إمكانهم تقدير التطورات الدراماتيكية التي ستجلبها على السياسة الإسرائيلية عامة. ولقد مضت نحو 44 سنة ولم يحل بعد "اليوم السابع" لهذه الحرب، التي ما زالت تبتز أغلبية الموارد الروحية والمادية وتزيد تشوّه النفوس.

-         في أواخر الثمانينيات لم يقدّر أحد أن الاتحاد السوفياتي سينهار، أو كيف ستؤثر تصفية "الحرب الباردة" على ميزان القوى في الشرق الأوسط، أو أنه خلال أقل من عشرة أعوام على هذا الانهيار سينضم إلى المجتمع الإسرائيلي أكثر من مليون ناطق باللغة الروسية، وأن "الثورة الثقافية" التي أحدثتها هذه الهجرة- والتي كان من ملامحها تصفية مفهوم "بوتقة الصهر" وتبلور تعددية ثقافية وسياسة هويات- ستغيّر الثقافة الإسرائيلية على نحو كبير.

ولم يفت بعض ثالث أن يشير إلى أن البشر وكذلك المجتمعات ليسوا على استعداد للعيش في عدم يقين، لكن في إسرائيل ثمة سبب آخر للاعتقاد الساذج بأنه إذا ما جرى استثمار جهد أكبر فإن بالإمكان توقع التطورات فيما وراء الحدود بالضبط.

ووفقًا لما أكده يورام بيري في حينه فإن هذا الأمر ناجم عن إيمان أعمى بأن ما يحول دون إنهاء النزاع "هو ليس نحن- ذلك بأننا نرغب في السلام- وإنما غياب شريك في الطرف الثاني. ولذا فإن ما يبقى علينا فعله هو أن نكون سلبيين وأن نكتفي بالإصغاء إلى الأصوات الصاعدة من هناك. إذا كانت هناك نيّة لمحاربتنا، فسنكون مستعدين لذلك. وإذا عبّر أحد ما، بمجيء اليوم الموعود، عن الرغبة في السلام فإننا نتحادث معه". وهو ما اعتبره بمثابة خداع ذاتي واضح، لأنه يتغاضى عن حقيقة أن وجود أو عدم وجود شريك في الطرف الثاني مثلا هي، بقدر كبير جدًا، نتيجة لأفعال إسرائيل أيضًا، إذا لم يكن أساسًا.

ولقد تمثل استنتاجه آنذاك في ما يلي: "بدلاً من تنمية الوهم/ الخداع الذاتي بأنه ينبغي أن تكون لدينا استخبارات جيدة كي تتنبأ بما يحدث لدى جيراننا، فإن من المفضل تبنّي سياسة جيدة من أجل أن تؤثر في ما يحدث هناك إزاءنا".

وهو بدون أدنى شك استنتاج صحيح للحالة الراهنة حيال ما حدث في مصر، والتي جاءت وقائعها بمنزلة إنبـاء مدو بأن إسرائيل لم تتعلم أي شيء بعد عشرات الأعوام من أخطائها السياسية، ومن استنكافها عن الإقرار أن في الشرق الأوسط أشياء يمكن أن تكون غابت عن عقل استخباراتها مثلما يمكن أن تغيب عنه أشياء أخرى في المستقبل أيضًا.

وفي سياق متصل حاولت تعليقات أخرى أن تعزي نفسها بأن دوافع "ثورات الربيع العربي" لا تحيل إلى إسرائيل، ذلك بأن الشرق الأوسط يُعتبر منطقة معرّضة على الدوام للقلاقل والاضطرابات وعدم الاستقرار، وأن أسباب ذلك لا تعود إلى الصراع مع إسرائيل، وإنما إلى "الفقر والشقاء وإلى السلطات التي تحكم أقطاره والمفتقرة إلى الكفاءة"، كقول وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان وغيره من كبار المسؤولين، أو كقول زلمان شوفال، أحد كبار مستشاري رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، أن هتافات المتظاهرين في ميدان التحرير "لم تكن من أجل فلسطين وإنما من أجل الخبز والحرية"، وأن في مجرّد ذلك ما يثبت أن السبب الحقيقي لعدم الاستقرار في الشرق الأوسط لا يعود إلى الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني أو إلى سياسة الاستيطان الإسرائيلية، وإنما إلى التناقضات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية داخل المجتمعات العربية. ومع ذلك فإن معلقة الشؤون العربية في صحيفة يديعوت أحرونوت، سمدار بيري، رأت أن هذه الثورات حملت في ثناياها رياحًا جديدة في ما يتعلق بإسرائيل، وذلك حين أعربت عن "امتعاضها" الشديد جراء تغييب وسائل الإعلام الإسرائيلية من مراسم توقيع اتفاق المصالحة الفلسطينية بين حركتي فتح وحماس التي جرت في العاصمة المصرية القاهرة، على الرغم من أن هذا الحدث "يخصّها في الصميم"، وأكدت أن هذا الأمر ينطوي، فيما ينطوي عليه، على تلميح فظّ إلى أن وسائل الإعلام هذه باتت غير مرغوب فيها في مصر الجديدة. وربطت بين هذا التغييب وبين تعاظم الأصوات المطالبة بطرد السفير الإسرائيلي من القاهرة، وإلغاء اتفاق السلام مع إسرائيل، ووقف كل مظاهر التعاون بين الدولتين، لتخلص إلى القول: هذه الخطوات كلها إن دلت على شيء فإنها تدل على جوهر الرياح الجديدة التي تهب على مصر في الوقت الحالي (يديعوت أحرونوت، 4 أيار/ مايو 2011).

وقبل أن تنطق بيري بهذه الخلاصة كان تعليق ظهر في صحيفة هآرتس عقب تكليف عصام شرف بتأليف الحكومة المصرية الجديدة، وإظهار استطلاعات للرأي العام المصري أن عمرو موسى سيكون المرشح الأوفر حظًا للفوز بمنصب رئيس الجمهورية في الانتخابات المقبلة، قد توصل إلى استنتاج فحواه أن "على إسرائيل التسليم بواقع أن أي سلطة مقبلة في مصر ستكون أقل ودّية من سلطة الرئيس السابق حسني مبارك". وبرأي صاحب التعليق  فإن ما يمكنه أن يُحسن عزاء إسرائيل في آخر ما هو مستجد على الساحة المصرية من تطورات يظل كامنًا في استقرار مكانة الجيش من جهة، وفي تضاؤل احتمالات وقوع السلطة في قبضة حركة الإخوان المسلمين من جهة أخرى، مع أن إمكان أن تتحوّل هذه الحركة إلى عنصر مؤثر في هذه السلطة، على غرار الأحزاب الدينية المتشددة في إسرائيل (الحريدية)، ما زال واردًا بقوة.

 

[للبحـث صلـة]

 

التعليقات