العقلية السياسية الإسرائيلية ومفهوم "عدم وجود شريك"!/ أنطـوان شلحـت

تتمثل غاية مؤلفة هذه الورقة في السعي نحو نقض مفهوم "عدم وجود شريك فلسطيني" لـ "عملية السلام" مع إسرائيل، واستبداله بمفهوم أكثر دقة وواقعية ينطلق من مبدأ وجود شريك كهذا

العقلية السياسية الإسرائيلية ومفهوم

تعريف: صدر حديثًا عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار العدد رقم 57 من سلسلة "أوراق إسرائيلية"، ويحمل عنوان "المفهوم الإسرائيلي لعدم وجود شريك في عملية السلام (نظرة في العقلية السياسية الإسرائيلية)"، ويضم ورقة كتبتها الباحثة الإسرائيلية ياعيل باتير لمصلحة "المركز الدولي لدراسة الراديكالية والعنف السياسي" وترجمها عن الانكليزية ياسين السيد. وقدّم لهذه الورقة محرّر السلسلة أنطوان شلحت، وهنا نص التقديم:

تتمثل غاية مؤلفة هذه الورقة في السعي نحو نقض مفهوم "عدم وجود شريك فلسطيني" لـ "عملية السلام" مع إسرائيل، واستبداله بمفهوم أكثر دقة وواقعية ينطلق من مبدأ وجود شريك كهذا، ويستند أساسًا إلى ضرورة تفهم مطالب هذا الشريك وروايته التاريخية، ظنًا منها أن ذلك من شأنه أن يعيد إحياء الأمل المفقود إزاء إنجاز اتفاق سلام بين الشعبين على أساس "حل الدولتين".


وهي تقرّ بوجود مفارقة كبرى يتسم بها الرأي العام في إسرائيل، ناجمة عن واقع أن الإسرائيليين في معظمهم باتوا يؤيدون "حل الدولتين" وفقًا لما تدل عليه الاستطلاعات على مدار أعوام طويلة، إلا إنهم لا يرون أن هناك أي إمكانية لتحقيق هذا الحل جراء انعدام وجود شريك لدى الجانب الآخر على استعداد للمُضي به قدمًا بحسب رأيهم.


ومع أن المؤلفة تجاهر برفضها هذا المفهوم وتحث على عدم التمسك به، إلا إنها تشير إلى أنه سرعان ما وجد لدى تحريره تربة خصبة كي ينمو فيها في ظل المخاوف والشكوك الدفينة المتأصلة في عقلية الإسرائيليين ونفوسهم، ما أفضى إلى شلّ عملية بناء الثقة التي ترى أنها كانت قد شقت طريقها بين الجانبين منذ توقيع اتفاقيات أوسلو في العام 1993، وساهم في نهاية المطاف في نشوء الموقف الحالي الذي تتبناه إسرائيل، وفحواه تأييد الأغلبية الذي لم يسبق له مثيل لإقامة دولة فلسطينية بجوار دولة إسرائيل كوسيلة لوضع حد للصراع الإسرائيلي- الفلسطيني لكن إلى جانب تلاشي الاعتقاد بجدوى هذا الحل.


كما تشير إلى أن مفهوم "عدم وجود شريك" يمثل حالة خطرة بالنسبة إلى إسرائيل، ذلك بأن قبضته المُحكمة على عقلية المجتمع الإسرائيلي تتسبب بإقصاء مصلحة هذا المجتمع وتجاهلها، فضلاً عن أنه يدغدغ المخاوف العميقة المتأصلة لدى الإسرائيليين بشأن مستقبل دولتهم، بموجب ما يؤكد الواقع الذي يشير في الوقت ذاته إلى أن المفاوضات التي جرت حتى الآن "لم تتعامل مع هذه المخاوف الجوهرية" على الإطلاق.
إن الخلاصة المطلوب استنتاجها من ذلك في قراءتها هي أنه لا بُدّ من مواجهة هذا المفهوم بالانطلاق من أن الفلسطينيين هم شريك في عملية السلام أولا ودائمًا. وليس هذا فحسب، وإنما أيضًا لا مناص من التعامل بصورة مباشرة مع الدوافع التي تذكي أوار الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، والتي تعود في جذورها إلى ما شهده العام 1948 من أحداث، بما يفضي إلى وضعها في موقع الصدارة، وإلى إيلاء ما ترتب عليها من تطورات لاحقة الأولوية التي تستحق.


وتوجه المؤلفة إصبع الاتهام في كل ما يتعلق بهذا المفهوم إلى رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق إيهود باراك، الذي مُني خلال جولة المفاوضات التي جرت في كامب ديفيد في صيف العام 2000 بالفشل في إنجاز اتفاقية السلام التي وعد بالتوصل إليها مع الفلسطينيين، وساوره القلق إزاء إرثه أو ربما إزاء مسيرته السياسية في المستقبل، فعمد إلى تأطير الإخفاق الذي آل إليه على نحو ألحق الضرر والأذى الفادحين بمستقبل عملية السلام برمتها. فالرواية التي ساقها باراك أنحت باللائمة جراء فشل تلك المفاوضات، وجراء اندلاع أعمال العنف المتبادل، على الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات والفلسطينيين، حيث تم توصيفهما فيها بأنهما "ليسا شركاء". وبموجب هذا المفهوم الذي ابتدعه باراك، لم يقدم الفلسطينيون التنازلات المطلوبة منهم من أجل التوصل إلى حل وسط، وهم لم يتخلوا عن المقاومة التي انتهجوا فيها العنف حتى يتمكنوا من إقامة دولة فلسطينية على جميع تراب فلسطين التاريخية. وهذا الادعاء أدى إلى تلاشي الثقة بجدوى عملية السلام، وتلاشي الثقة مهّد بدوره الطريق لحقبة لجأت إسرائيل فيها إلى تنفيذ جملة من الإجراءات الأحادية الجانب التي ترمي إلى تصميم اللعبة النهائية من دون الحاجة إلى التفاوض بشأنها. وقد ساهمت هذه الإجراءات في إضفاء تحول على الخريطة السياسية في إسرائيل، حيث عملت على تعزيز القوى التي عارضت عملية السلام على حساب قوة معسكر السلام.


وتحاذر المؤلفة الوقوع في شراك الأوهام، حيث تشدّد على أن التعامل مع بواعث القلق والمخاوف الأساسية التي تكتنف الإسرائيليين والفلسطينيين سيبقى متسمًا بقدر كبير من التعقيد والإشكال. وما نعرفه الآن لا يزيد عن أن القادة يوظفون هذه المخاوف من أجل إبعاد شعبيهما والنأي بهما عن عملية السلام، من دون تقريب هذه العملية منهما. وكما كانت حال باراك في الجانب الإسرائيلي، فإن سائر الزعماء الإسرائيليين الذين أتوا بعده ظلوا يعبرون ظاهريًا عن رغبتهم في تحقيق السلام، لكنهم في الوقت نفسه عمدوا إلى توظيف المخاوف ذاتها من أجل الابتعاد عنه، تمامًا مثلما يفعل رئيس الحكومة الحالي بنيامين نتنياهو.


وبالنسبة إلى هذا الأخير فإنها ترى أنه في واقع الحال ليس هناك أي سبب وجيه واحد يحثه على استعجال التسوية السلمية مع الجانب الفلسطيني. فهَمّه الأول ما زال منصبًا على ناخبيه الذين لا يمارسون أي ضغوط عليه لاستئناف المفاوضات مهما تكن كلفتها. ويُضاف إلى ذلك أن الانتخابات الإسرائيلية العامة الأخيرة (في شباط 2009) أفضت إلى تأليف حكومة تسيطر عليها أحزاب اليمين (وتضم ممثلين عن المستوطنين في مناطق 1967). وهذه الحكومة لا ترغب مطلقًا في دفع ثمن أي تسوية مع الفلسطينيين من شأنها إلحاق الضرر بالمشروع الاستيطاني أو وقفه. ولذلك، فإن أي تقدم يحرزه نتنياهو من أجل تلبية مطالب الفلسطينيين سوف يؤدي إلى إضعاف ائتلاف حكومته.


لكنها في المقابل تؤكد أنه على الرغم من أن المخاوف المحلية تتيح الظروف المواتية لنهج رئيس الحكومة هذا، فإن الأمر لا يتعدى مسألة وقت حتى يكون في وسع الظروف الخارجية- ولا سيما بتأثير المبادرة التي أطلقتها السلطة الفلسطينية لدى الأمم المتحدة (في شهر أيلول 2011) والرامية إلى الاعتراف بإقامة دولة فلسطين المستقلة، وتحت وطأة الضغط الذي يمارسه المجتمع الدولي- أن تتسبّب باستنفاد الخيارات المتاحة له، ولن تترك أمامه سوى اتخاذ الخطوات الكفيلة باستئناف عملية السلام مع الفلسطينيين. كما أن هذه المستجدات يمكنها برأيها أن تغيّر الظروف السياسية الداخلية وأن تزيد مستوى الضغط المُمارس من الداخل، الأمر الذي قد يفضي إلى خسارة نتنياهو في الانتخابات العامة المقبلة.


وعلى الرغم من أن المؤلفة لا تتردّد في المجاهرة بأن الحل الوسط المنشود للصراع يجب أن يفضي في نهاية المطاف إلى إقامة دولتين على أساس حدود العام 1967، وإلى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، إلا إنها تشدّد على أن هذا الحل يجب أن يتأتى جوهريًا من سيرورة مختلفة وأن يحقق هدفًا مغايرًا، وهذا كله يمكن أن يتم من خلال عدم التركيز على إنهاء الاحتلال فحسب، بل التركيز أيضًا على الاستجابة للمخاوف الأساسية التي تخالج الشعبين، بما في ذلك اعتراف إسرائيل بمسؤوليتها عن مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، وعن الحيلولة دون نيل الفلسطينيين استقلالهم في دولتهم.


وهي تنوّه على نحو خاص بأن جميع جولات المفاوضات التي جرت بين الإسرائيليين والفلسطينيين على مدار الأعوام التسعة عشر الفائتة لم تتناول سوى القضايا التي برزت في العام 1967، وليس تلك القضايا التي أفضت إلى وقوع الأحداث في العام 1948 وفي الأعوام التي تلته. بيد أنها في سياق هذا تزج بموضوعة الدولة اليهودية، وتشدّد على وجوب قبول الفلسطينيين بها وتسليمهم بوجودها في نطاق ما تسميه "وأد المخاوف المعششة في نفوس الإسرائيليين"، كما لو أن خطوة كهذه يتعين أن تكون مسألة بديهية أو مفهومة ضمنًا ولا يجوز الاستغناء عنها، الأمر الذي يجعل مقاربتها ناقصـة، لكونها متنائية عن الدلالات الخطرة التي تنطوي عليها موضوعة الاعتراف بالدولة اليهودية بالنسبة إلى الشريك الذي تعي وجوده بقدر ما تعي شرعية مطالبه وروايته التاريخية.
 

التعليقات