الإعلام الإسرائيلي: سقوط إمبراطوريات وصعود ممالك اليمين

تعتبر السنوات الأخيرة أنها "عهد أدلسون"، الذي أسس صحيفة "يسرائيل هيوم" لخدمة نتنياهو وسياسته، وتحول الصحف والمواقع الإلكترونية إلى إعلام أيديولوجي، يخدم أيديولوجية نتنياهو بالأساس، ومن خلال ذلك اتساع العلاقة بين السلطة ورأس المال، وخاصة الشركات الاحتكارية

الإعلام الإسرائيلي: سقوط إمبراطوريات وصعود ممالك اليمين

'بسبب الانخفاض المتواصل في دخل الصحيفة من الإعلانات، انخفاض بنسبة 6% بين العامين 2013 و2014 وانخفاض آخر بنسبة 4% بين 2014 و2015، فإننا مضطرون لأسفنا إلى رفع ثمن الصحيفة، وذلك إضافة إلى خطوات نجاعة يجري اتخاذها'. نشرت صحيفة 'هآرتس' هذا الإعلان عدة مرات في الأسابيع الأخيرة، معلنة عن رفع ثمن الاشتراك الشهري في الصحيفة بسبب الأزمة الاقتصادية التي تواجهها.

لكن 'هآرتس' ليست وسيلة الإعلام التي تمثل حال الصحف في إسرائيل أيديولوجيا، التي باتت في معظمها بالسنوات الأخيرة تحمل أجندة أيديولوجية يمينية وتصب في خدمة رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو بالأساس، وخدمة اليمين الإسرائيلي عموما إلى جانب خدمة مصالح رؤوس الأموال، وخلافا لـ'هآرتس' الصحيفة التي تحمل أجندة ليبرالية، ومناهضة لليمين في بعض الجوانب، وحتى أنها تعتبر آخر معاقل اليسار الصهيوني وتصارع من أجل البقاء على قيد الحياة بعد تراجع مدخولاتها.

وتعرض المشهد الإعلامي في إسرائيل لهزة قوية قلبت حسابات الصحف القديمة والعريقة وتهدد استمراريتها، وأكثر المتأثرين هي صحيفة 'يديعوت أحرونوت'، التي كانت تحوز على أوسع انتشار وكانت تحصد النسبة الأكبر من الإعلانات، قياسا بالصحيفتين الأخريين، 'معاريف' التي كانت في المرتبة الثانية من ناحية التوزيع حتى صدور 'يسرائيل هيوم' وتوقفت عن الصدور لفترة قصيرة، و'هآرتس' التي تعتبر 'صحيفة نخبوية' ويملكها عاموس شوكين الذي اضطر إلى بيع 40 في المئة من أسهمها لملياردير روسي يهودي يدعى ليونيد نفزالين، ولدار النشر الألمانية 'ألفرد نيفين دوموند' لتجاوز الأزمة المالية قبل سنوات.

وطيلة عقود كانت إمبراطورية "يديعوت أحرونوت" مسيطرة على المشهد الصحافي والإعلاني فيما كانت  إمبراطورية "معاريف" بملكية عوفير نمرودي سابقا هي المنافس الأساسي، لكن دخول إدلسون للمشهد الصحافي قلب الموازين، ففيما تصارع "يديعوت" منافستها على المرتبة الأولى "يسرائيل هيوم"، فقد انهارت "معاريف" وتبدلت ملكيتها عدة مرات في السنوات الأخيرة.

وتتمثل الهزة الإعلامية بصدور صحيفة 'يسرائيل هيوم' المجانية في نهاية تموز/ يوليو العام 2007، واشتدت هذه الهزة في بداية العام 2011، عندما تجاوز انتشارها 'يديعوت أحرونوت' التي يملكها رجل الأعمال نوني موزس وعائلته. ولم تنجح كافة المحاولات التي بادرت إليها 'يديعوت أحرونوت' لطرح مشاريع قوانين في الكنيست غايتها منع إصدار صحف يومية مجانية وبملكية أجنبية.

وبما أن الانتشار الواسع ينعكس على سوق الإعلانات التجارية، وتأثر 'يديعوت أحرونوت' سلبا من الانتشار الأكبر لـ'يسرائيل هيوم'، فإنها شنت حربا ضد 'يسرائيل هيوم' ونتنياهو ومؤسس الصحيفة المليادرير اليهودي الأميركي شيلدون أدلسون، الذي يحمل مواقفا يمينية.

وتوزع 'يسرائيل هيوم' في نقاط توزيع في الأماكن العامة والمتاجر وأكشاف الصحف ومحطات القطارات، فيما بدأت 'يديعوت' بإصدار نسخة مجانية وكذلك 'معاريف' التي تصدر 'معاريف هبوكير' وهي نسخة مصغرة ومجانية، في محاولة لمنافسة 'يسرائيل هيوم'.

عهد أدلسون

تعتبر السنوات الأخيرة بكل ما يتعلق بالصحافة الإسرائيلية، المطبوعة والإلكترونية، أنها 'عهد أدلسون'، الذي أسس 'يسرائيل هيوم' لخدمة نتنياهو وسياسته، وهي تعيد بذلك إلى الأذهان عهد الصحف الحزبية، في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، والتي اندثرت في بداية الثمانينيات.

لكن ما يحدث الآن في المشهد الإعلامي الإسرائيلي، خلافا لعهد الصحف الحزبية، هو تحول الصحف والمواقع الإلكترونية إلى إعلام أيديولوجي، يخدم أيديولوجية نتنياهو بالأساس. ومن خلال ذلك، يكشف التعمق في هذه الناحية عن اتساع العلاقة بين السلطة ورأس المال، وخاصة الشركات الاحتكارية.

وبعد أن أسس أدلسون الذي يسيطر على قطاع واسع من سوق القمار في الولايات المتحدة، صحيفة 'يسرائيل هيوم' اشترى أيضا صحيفة 'ماكور ريشون' الأسبوعية، وهي صحيفة منتشرة في أوساط الصهيونية الدينية، وموقع nrg الإلكتروني، الذي كان تابعا لـ'معاريف'. وأصبحت الصحيفة والموقع ملكا لـ'يسرائيل هيوم'. وقد صادقت المحكمة المركزية في القدس على هذه الصفقة في نهاية آذار/ مارس العام 2014.

وفي أعقاب ذلك، ضاعفت 'ماكور ريشون' عدد النسخ التي تطبعها في نهايةالأسبوع ليصل إلى 80 ألف نسخة، تُطبع في مطبعة 'يسرائيل هيوم'. ويرأس تحرير 'ماكور ريشون' حغاي سيغال، الذي أدين في الثمانينيات بالعضوية في التنظيم الإرهابي اليهودي السري الذي نفذ اعتداءات أسفرت عن مقتل وجرح فلسطينيين.

وفيما يتعلق بمطبعة 'يسرائيل هيوم' التي كانت تتبع لصحيفة 'معاريف'، فإنه ينبغي الإشارة إلى أن صحيفة 'هآرتس' لم تصطدم مع 'يسرائيل هيوم' مثلما فعلت 'يديعوت أحرونوت'، لأن صحيفة 'يسرائيل هيوم' كانت تُطبع في مطبعة 'هآرتس' وتدر أرباحا عليها وتقلص أزمتها. لكن ما يحدث الآن هو أنه بسبب ضائقتها المالية، تدرس 'هآرتس' بيع مطبعتها الضخمة وطباعة الصحيفة في إحدى مطبعتين: 'يسرائيل هيوم' أو 'يديعوت أحرونوت'.

مقر صحيفة 'هآرتس' في تل أبيب

أما 'معاريف'، فقد اشترى هذه الصحيفة رجل الأعمال ايلي عازور، الذي يملك صحيفة 'جيروزاليم بوست'. ويبدو أن عازور مناوئا لنتنياهو، وزوجة نتنياهو رفعت دعوى قذف وتشهير ضد 'معاريف' ومحللها السياسي، بن كسبيت. وذكرت تقارير في شهر تشرين الأول الماضي أن نتنياهو أراد عقد لقاء مع عازور، وسط تقديرات بأن نتنياهو يريد استمالته وتجنيد صحفه لصالح سياسته.

السلطة ورأس المال

يبدو أن مالكي الصحف المؤيدة لنتنياهو لا يدعمونه بالمجان. فقبل شهور قليلة، صادقت الحكومة الإسرائيلية على ما يعرف بـ'خطة الغاز'، التي تمنح شركتي 'ديلك' الإسرائيلية و'نوبل إنرجي' الأميركية، احتكارا لاستخراج الغاز من آبار في البحر المتوسط. وقد بذل نتنياهو كل طاقته ووضع كل ثقله من أجل تمرير الخطة، رغم المعارضة الواسعة لهذه الخطة وآراء خبراء بأنها تلحق ضررا بإسرائيل في الأمد البعيد، إذ أنها لا تبقي احتياطي غاز لأن الشركتين يهمهما، بطبيعة الحال، بيع الغاز بأسرع ما يمكن، لدول أخرى، وتحقيق أكبر ربح ممكن.

وتبين من تقرير نشرته صحيفة 'هآرتس' أن نتنياهو تعرض لضغوط من أثرياء أميركيين لديهم مصلحة في تنفيذ 'خطة الغاز' لأنهم مساهمون في 'نوبل إنرجي'. وتبين أن بين الأثرياء الأميركيين الذين توجهوا إلى نتنياهو بهذا الخصوص كان أدلسون إياه مؤسس ومالك 'يسرائيل هيوم'. كذلك ذكرت تقارير صحفية إسرائيلية أن نتنياهو سعى لدى الحكومة اليابانية وخاصة رئيسها، خلال زيارة إلى طوكيو العام الماضي، من أجل أن تصادق على منح أدلسون ترخيص لفتح كازينوهات في اليابان.

موقع 'واللا'

وفي السنوات الأخيرة، تحول موقع 'واللا' الالكتروني، وهو أكبر موقع إسرائيلي وينافس موقع 'واينت' التابع لـ'يديعوت'، إلى الموقع الدعائي لعائلة نتنياهو. وقال تقرير نشرته 'هآرتس' في 29 تشرين الثاني الماضي، إن 'المقالات التي تهدد عائلة نتنياهو يتم إقصاؤها عن أماكن بارزة بالموقع، والعناوين اللاذعة تعاد صياغتها، بينما التقارير الإيجابية المتعلقة بزوجة نتنياهو تتقدم نحو مكان بارز في الموقع وترفق بها صور مطْرية، وكل هذا يتم بأمر من أعلى'.

وأردفت الصحيفة أنه 'في هذه الأثناء يساعد وزير الاتصالات نتنياهو، مالك موقع واللا، رجل الأعمال شاؤول ألوفيتش، من خلال المصادقة على صفقة وعرقلة إصلاحات من شأنها أن تصب في صالح الجمهور وتضر كثيرا شركة الاتصالات الأرضية والانترنت ’بيزك’ التي يملكها ألوفيتش نفسه'.

تراجع الأداء الإعلامي

يحاول نتنياهو، وعلى ما يبدو بقدر من النجاح، تقييد أداء الإعلام الإسرائيلي من خلال توليه منصب وزير الاتصالات وعدم الاعتماد على أي أحد آخر. وفعلا هذا الأداء تراجع في السنوات الأخيرة.

وقارن المحاضر في قسم الإعلام في جامعة بن غوريون في بئر السبع، البروفيسور تسفي رايخ، بين الأداء الإعلامي في الماضي والحاضر، وقال لصحيفة 'غلوبس' الاقتصادية، إن 'هذا ليس المنتج الصحفي نفسه. واليوم يفكرون كأعداء دمويين ولكن ليس على أساس مهني، وإنما على أساس سياسي وجودي. و’يديعوت’ تنظر إلى ’يسرائيل هيوم’ كعدو، ليس فقط أنه ينافسه مهنيا، وإنما يضغط اقتصاديا على شريان عنقها، وكمن تريد القضاء عليها'.

وقال الباحث في موضوع الإعلام والمؤرخ رافي مان، للصحيفة نفسها، إن 'الفرق هو أن الصحيفتين ('يديعوت' و'معاريف') كانتا في الماضي منظمتين إعلاميتين عريقتين، وكانت بينهما منافسة مهنية، مثلما تجري الأمور بين الصحف في أي مكان في العالم. وطوال معظم السنين كانت المنافسة مهنية بالمطلق. لم تكن تحركها أجندة سياسية أو دعم شخصية كهذه أو تلك، أو تتغذى على مصالح جهة خارجية (مثل أدلسون)'.

وأردف مان أن 'هذا المشهد يختلف عن مشهد الصراع الحالي. من جهة هناك صحيفة مثل ’يديعوت أحرونوت’، وهي صحيفة لديها عراقة مهنية منذ العام 1939، ومن الجهة الأخرى هناك صحيفة كان تأسيسها مرتبط بسياقات سياسية شخصية ولذلك فإن أجندتها يحركها الدعم لنتنياهو. و’يديعوت’ قررت شن حرب ضد ’يسرائيل هيوم’، خاصة العام الفائت، من خلال تبني أساليب ’يسرائيل هيوم’، ولذلك تحولت هذه الحرب إلى شيء يتجاوز المنافسة بين صحيفتين'.

ويشار إلى أن نتنياهو يشن حربا ضد سلطة البث الرسمية، أي القناة الأولى للتلفزيون الإسرائيلي والإذاعة العامة. ومرر العام الماضي قانونا يقضي بتفكيك سلطة البث وبناء أخرى. وعن ذلك، قال الباحث دان كاسبي إن ما يحدث في هذا السياق ليس واضحا 'ويرافقه فقدان كنز بشري نوعي. والذين سيبقون في عملهم يستوعبون قواعد اللعبة الجديدة وهي الخنوع أمام السلطة'.

وأضاف كاسبي أن 'الرقابة السياسية تشتد على وسائل الإعلام. ورغم التباكي كإستراتيجية، إلا أن السلطة نجحت في تشديد الرقابة على وسائل الإعلام. وعدا القضاء على سلطة البث، فقد اشتدت الرقابة على وسائل البث التلفزيوني الأخرى. وبعد قمع القناة العاشرة جاء دور القناة الثانية. والهدف هو إضعاف قنوات البث. والتكتيك هو وجود عدد من القنوات الضعيفة. لماذا لا تكون هناك 5 – 6 نشرات أخبار عند الثامنة مساء، بدلا من 3 نشرات اليوم؟ فهكذا تحصل كل واحدة من القنوات على نسبة مشاهدة أقل وإعلانات أقل، وتكون متعلقة بنِعم السلطة'.

ورأى كاسبي أن 'إخصاء الصحافة المطبوعة بواسطة ’يسرائيل هيوم’ غايته تحقيق الهدف نفسه. والمطلوب أن يكون هناك جيوب عميقة كالتي لدى أدلسون من أجل منافسة صحيفة توزع مجانا. فوسائل إعلام جائعة ومستضعفة لا تعض'.

وحول العلاقة بين رأس المال والصحيفة، لفت كاسبي إلى أن الادعاء بأن أصحاب رؤوس المال قادرون على ضمان دعم اقتصادي لوسائل الإعلام، هو ادعاء خاطئ لأن 'كل شيء متعلق بوضع الثري. فتغيّر ذوق الثري من شأنه أن يهدد وجود وسيلة الإعلام. هكذا حدث ل’معاريف’ والقناة العاشرة و’غلوبس’. ومن يعرف ماذا يخبئ مستقبل الآخرين؟ ويشار إلى أن المحررين والصحافيين ليسوا قادرين على ألا يأخذون بالحسبان المصالح الاقتصادية لأصحاب الوسيلة الإعلامية'.   

التعليقات