التوراة: الله، الطوفان ودوافع تأليفها

متى تبلورت التوراة بنصوصها التي نعرفها اليوم، وما هي غايتها؟ ما هي طبيعة الله في النص التوراتي، وهل يعيش بين البشر؟ ما هو الطائر الذي أرسله نوح بعد انحسار الطوفان؟ ما هو سبب التناقضات في النص التوراتي، وماذا يقول الباحثون؟

التوراة: الله، الطوفان ودوافع تأليفها

تفند الدراسات النقدية للتوراة ألوهية هذا النص، الذي اعتبرته الحركة الصهيونية 'كوشانها' على أرض فلسطين. وتبيّن هذه الدراسات أن التوراة لم تبلور وحدة واحدة وأن نصوصها كُتبت لتحقيق غايات سياسية، بعد مرور قرون عديدة على القصص التي ترويها. ولأن النص التوراتي كُتب على مدار قرون، فإنه يوجد في قصصها تناقضات عديدة، حتى في وصف طبيعة الله. كما تنفي الدراسات، منذ القرن السابع عشر، مثلما شكك 'التلمود' من قبلها، بمعتقدات دينية وردت في التوراة وورد نقيضها في النص ذاته أيضا، مثلما ستبين السطور التالية. 

يعتبر التراث الديني اليهودي أن النبي موسى صعد إلى جبل طور سيناء، قبل حوالي 3500 عام، وتلقى من الرب مباشرة لَوحي العهد، اللذين حُفرت عليهما الوصايا العشر، وكذلك الأسفار الخمسة الأولى والتلمود والمِشنة والأحاديث الدينية المنقولة. ويحدد هذا التراث حدوث ذلك في السادس من شهر نيسان العبري، وهو التاريخ الذي يحتفل فيه اليهود بعيد 'شْفوعوت' أي عيد نزول التوراة، ويسمى أيضا عيد البواكير.

إلا أن البحث العلمي في التوراة وتاريخها توصل إلى أن موسى لم يكتب التوراة، ولا الأسفار الخمسة الأولى، وهي التكوين والخروج واللاويين والعدد والتثنية، وإنما كتبها أشخاص يحملون أفكارا مختلفة ومتنوعة.

وتبيّن نصوص التوراة نفسها أنها لم تنزل في سيناء. ورغم وجود وصف لقصة تلقف الوصايا العشر، لكن النص التوراتي لا يذكر أن موسى حصل على كتاب التوراة. وكلمة 'توراة' مذكورة في النص، إلا أن المقصود هو 'الأوامر'، بمعنى القوانين والشرائع. كذلك فإن الأسفار الخمسة لم تنحصر في جبل طور سيناء، وإنما تتحدث عن سنوات التيه كلها، التي استمرت 40 عاما، وقبل أن يصل 'أبناء إسرائيل' إلى طور سيناء.

وواضح من النص التوراتي أن أجزاء من التوراة لم يكتبها موسى، إذ أنه مذكور هناك أنه كتب مقاطع معينة، ما يعني أن هذه الملاحظة لم تكن ضرورية لو أن موسى كتب النص كله. إضافة إلى ذلك، فإن قصة موسى كتبها مؤلف يتحدث عنه من خلال ضمير الغائب، مثلما يتحدث عن الشخصيات الأخرى، ومثال على ذلك: 'وأما الرجل موسى فكان حليما جدا أكثر من جميع الناس الذين على وجه الأرض' (عدد 12، 3).

كذلك فإن كبار حاخامي اليهود، الذين وضعوا الأحاديث الدينية المنقولة (الشفهية) بحلول القرن السادس الميلادي، وكانوا يلتزمون بأن موسى كتب التوراة، واجهوا صعوبة في تصديق أنه كتب الآيات الثماني الأخيرة من سفر التثنية، التي تصف موت موسى ودفنه. ويعبر التلمود عن هذه الصعوبة: 'هناك من يقول إن موسى كتب هذه الآيات أيضا، وآخرون يقولون إنه كتبها خليفته، يهوشع بن نون'.

وكتب الفيلسوف الهولندي اليهودي باروخ سبينوزا، في مؤلفه 'رسالة في اللاهوت والسياسة'، عام 1670، أنه 'واضح كالشمس في الظهيرة أن موسى لم يكتب الأسفار الخمسة الأولى في التوراة، وإنما كتبها شخص عاش بعده بسنوات كثيرة'. كذلك توصل إلى نتيجة مشابهة الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز، الذي عاش في الفترة نفسها.

روايتان للخليقة والطوفان

سعى الطبيب والباحث الفرنسي، البروفيسور جان أستروك، إلى تفنيد 'كُفر' سبينوزا وهوبز، لكنه فوجئ عندما اكتشف، في العام 1753، أن سفر التكوين مؤلف من نصين مختلفين متداخلين ويشكلان نصا واحدا. وتوصل أستروك إلى قناعة، ويؤمن بها الباحثون اليوم، بأن التوراة لم يكتبها شخص واحد وإنما عدة أشخاص، وذلك بسبب أربعة مميزات في نصوص سفر التكوين والأسفار الأخرى، وهي: تكرار لا حاجة له، تناقضات داخلية، اختلافات في الأسلوب واللغة، اختلافات إيمانية وفكرية.

ومثال على ذلك أنه لا توجد في التوراة قصة خليقة واحدة، وإنما هناك قصتان: القصة الأولى تتحدث عن خلق العالم في ستة أيام وتنتهي باستراحة في اليوم السابع، حسبما ورد في سفر التكوين، في الإصحاح الأول والآيات 1- 3 في الإصحاح الثاني. وبعد ذلك هناك قصة خليقة مختلفة في سفر التكوين نفسه، في الإصحاحين الثاني والرابع، وهذا مثال على تكرار زائد. وترتيب الخليقة في القصة الأولى يبدأ بالنباتات ثم الحيوانات والإنسان في النهاية. بينما في القصة الثانية، يخلق الرب آدم أولا، ثم النباتات، وبعد ذلك الحيوانات، وفي النهاية يخلق حواء من ضلع آدم. وهذا مثال على التناقض.

في القصة الأولى يوصف الخالق بأنه 'الله' وتسمى الطيور بـ'طائر ذي جناح'، بينما في القصة الثانية يسمى الخالق 'الرب الإله' والطيور بـ'طيور السماء'. وهذان مثالان على تغيير في النص والأسلوب. والخالق في القصة الأولى غيبي ومنفصل عن العالم، لكنه في القصة الثانية هو إله مقيم في العالم ويتجول في الجنة ويتحدث مع البشر. كذلك فإن يوم السبت كيوم راحة مذكور في القصة الأولى فقط، وغائب عن القصة الثانية. وهذه أمثلة على تغيرات تتعلق بأركان الإيمان (قدسية يوم السبت، وطبيعة الله) تنعكس من خلال النص.

وبصورة مشابهة تتداخل روايتان في قصة الطوفان. ويصادف القارئ لقصة الطوفان الإشكاليات الأربع التي صادفها في قصة الخليقة، لكن في قصة الطوفان لا توجد روايتان الواحدة بعد الأخرى، وإنما تظهران كقصة واحدة مليئة بالتكرار والتناقضات والتغيرات اللغوية والفكرية.

على سبيل المثال، الطوفان يستمر 370 يوما ثم يقال إنه استمر 40 يوما، ويسمى الرب 'الله' أحيانا و'الرب الإله' أحيانا أخرى. ويؤكد ذلك على وجود روايتين تظهران بالكامل، من دون شطب تفاصيل من نصيهما. ففي إحدى الروايتين يرسل نوح حمامة، ويرسل في الثانية غرابا. وتسمي إحدى روايتي الطوفان الخالق بـ'الرب الإله' وتقول إنه يغلق السفينة ويشتم روائح ويندم، وهذا مشابه لـ'الرب الإله' الذي يتحدث مع البشر في قصة الخليقة. وفي الرواية الأخرى للطوفان، كما في قصة الخليقة الأولى، يتم تسمية الخالق بـ'الله'.

تشير الدراسات النقدية للتوراة إلى أن التوراة مكونة من أربع مخطوطات دمجها محرر، في فترة متأخرة، لتشكل وحدة واحدة. وتعبر المخطوطات عن المصدر اليهوي (يهوى)، الذي يستخدم تسمية 'الرب الإله'؛ المصدر الذي يستخدم تسمية 'الله'؛ المصدر التثنيوي، المسؤول عن سفر التثنية كله؛ المصدر الكهني، وهو المصدر الأكبر في التوراة، ويسمي الخالق بـ'الله' حتى ظهور الرب لموسى وعندها يبدأ هذا المصدر باستخدام 'الرب الإله'.

إن كتبة التوراة كثيرون، ويتجاوز عددهم الخمسة، كعدد مصادر التوراة. والاعتقاد السائد أن عزرا الكاتب، ويعرف أيضا باسم عزرا الكاهن، الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، هو الذي جمع وحرر نصوص التوراة. ويعتقد الباحثون أن نصوص التوراة لم تكتب كقطعة واحدة، وإنما هي ثمرة عمل أجيال من الكتبة، الذين أضافوا 'طبقات على ظهر طبقات' من النصوص. ولا يستبعد الباحثون احتمال استمرار تعديل النص التوراتي بعد تحريره حتى أصبح بالشكل الذي نعرفه اليوم.

هناك جانب آخر ينبغي الالتفات إليه، هو أن مفهوم الكتبة في العصور القديمة يختلف عن مفهومه اليوم. فقد كانت هناك مخطوطات يحتفظ بها في المعابد. كما أن عناصر القراءة والكتابة كانت مؤهلات نادرة جداً. وكان تأهيل الكاتب يستمر لسنة أو اثنتين، وشمل تعليما أساسيا فقط على الكتابة والقراءة، من خلال نسخ كتابات ونصوص قديمة وتعلم تفسيرها على أيدي كتبة متخصصين. كذلك تعلم الكتبة لغات أجنبية، وكتبة التوراة تعلموا اللغة الآرامية بالأساس. وبعد اكتساب هذه المهارات، كان الكتبة يتجهون إلى العمل في المعابد، أو كمستقلين، أو في خدمة أثرياء أو لدى الملك كمستشارين ووزراء ودبلوماسيين.

دوافع جمع المخطوطات وصنع التوراة

تم جمع المخطوطات وتحريرها وبلورة التوراة بعد سبي بابل، أو ما يسمى في التراث اليهودي بـ'شيفات تسيون'، أي 'العودة إلى صهيون'. في العام 538 قبل الميلاد، سمح ملك فارس، كورش، لليهود بالعودة إلى منطقة 'يهودا' وإقامة حكم ذاتي فيها. وكان هذا الحكم الذاتي بحاجة إلى قانون ومحاكم وتاريخ جامع، في الوقت الذي كانت فيه النخبة منقسمة ومتنازعة وتسود المنافسة بين تقاليد مختلفة. ومن أجل توحيد هذه النخبة، كانت هناك حاجة إلى التقاليد في قصة تاريخية واحدة وقانون موحد مقبول على جميع الأطراف.

ويبدو أنه تم تكليف عزرا الكاتب، وكتبة عملوا تحت إمرته، بتنفيذ هذه المهمة. وبموجب تعيين من ملك فارس أرتحششتا، جمع عزرا الكتابات العبرية (الكنعانية) القديمة، وصنع كتابا واحدا منح فيه الأولوية للمصدر الكهني، لأنه كان كاهنا بنفسه.

ويرجح الباحثون أنه لم يكن من قبيل الصدفة، أنه في مركز التاريخ اليهودي الذي صنعه عزرا، الذي يفترض فيه أن يجمّع العائدين من بابل، كانت قصة الخروج من مصر، على أنها قصة 'العائدين من الشتات'، والرحلة إلى فلسطين وتلقف القانون من زعيم لديه كريزما، ألا وهو موسى.

ووفقا للرواية التوراتية، فإنه عندما حضر عزرا، على رأس مجموعة من العائدين من بابل، إلى القدس، جرى استقبال كبير، عرض عزرا خلاله 'كتاب التوراة'. وجاء في سفر نحميا، الآية 2- 3 من الإصحاح الثامن: 'فأتى عزرا الكاتب بالشريعة أمام الجماعة... وقرأ فيها أمام الساحة التي أمام باب الماء من الصباح إلى نصف النهار أمام الرجال والنساء وكانت آذان كل الشعب نحو سفر الشريعة'. هكذا وُلدت التوراة كما نعرفها اليوم تقريبا.

لكن ثمة أهمية لهاتين الآيتين لسبب آخر، إذ فيما سُمي الكتاب الذي عرضه عزرا بأنه 'سفر الشريعة'، في الآية الثالثة، فإنه تم وصفه في الآية الثانية بـ'الشريعة'. ويرى باحثون أن هذا الأمر يدل على تغيير ذي دلالة طرأ على كلمة 'الشريعة'، أي التوراة، في بداية الفترة التي يطلق عليها في الأدبيات اليهودية تسمية 'الهيكل الثاني'. وهذه الكلمة التي كانت تعني في السابق 'الأمر'، بمعنى القانون والشريعة الدينية، بدأت تستخدم كاسم للأسفار الخمسة الأولى في التوراة، وبشكل مشابه لاستخدامها اليوم. ويعتقد باحثون أنه ربما يكون هذا التغيير هو الذي جعل القيادة الروحانية والتشريعية اليهودية بين القرنين الثالث قبل الميلاد والسادس الميلادي، والمعروفة باسم 'حَزَل'، تفسر خطأ الآية 'وهذه هي الشريعة التي وضعها موسى أمام بني إسرائيل' (تثنية 4، 44) على أنها دليل على أن موسى كتب التوراة كلها.

اقرأ/ي أيضا | التوراة والمكتشفات الأثرية: صدام الروايات التاريخية

التعليقات