"وعد بلفور": تلبية لمصالح استعمارية ورغبة أقلية يهودية

عارض صدور "وعد بلفور" شخصيتان بريطانيتان يهوديتان رفيعتان، هما الوزير إدوين مونتيغيو وعضو البرلمان فيليب ماغنوس، وحاولا منع صدوره، فالأول خشي من طرد اليهود من دول العالم والثاني لم يكن يؤمن بأن اليهود أمة وإنما ديانة وحسب

بلفور ونص "وعده" المشؤوم

يحيي الفلسطينيون ذكرى مرور 100 عام على "وعد بلفور" المشئوم، التي تصادف يوم الخميس المقبل – الثاني من تشرين الثاني/نوفمبر، بمظاهرات ووقفات احتجاجية، تتبع مطالبة الحكومة البريطانية بالإعلان عن إلغائه وتقديم الاعتذار للفلسطينيين. وفي المقابل يحتفل الإسرائيليون بهذه الذكرى، التي يعتبرونها شبيهة بـ"الوعد الإلهي" التوراتي الأسطوري لليهود بالبلاد. ولم يكن عدد اليهود حينذاك قد تجاوز 5% من مجموع سكان فلسطين.

لقد أرسل وزير الخارجية البريطاني، اللورد آرثر جيمس بلفور، في الثاني من تشرين الثاني/نوفمبر العام 1917، رسالة إلى القيادي في الحركة الصهيونية، اللورد فولتير روتشيلد، تضمنت ما بات يعرف باسم "وعد بلفور"، كي يسلمها إلى حاييم وايزمان والقيادة الصهيونية.

وكتب بلفور في هذه الرسالة أنه "يسرني جداً أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالته، التصريح التالي الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود والصهيونية، وقد عرض على الوزارة وأقرته: إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة وطن قومي في فلسطين للشعب اليهودي، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية"، مشترطا "على أن يفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر. وسأكون ممتناً إذا ما أحطتم الاتحاد الصهيوني علماً بهذا التصريح".

وبمناسبة الذكرى المئوية لـ"وعد بلفور"، تنظم "الأكاديمية الوطنية للعلوم" و"المكتبة الوطنية" في إسرائيل معارضا في القدس، حسبما ذكرت صحيفة "يسرائيل هيوم" اليوم، الجمعة.

واعتبرت المسؤولة عن المعرض، الدكتورة نيريت شاليف كاليفا، وهي تعبر عن موقف صهيوني سائد، أنه "عندما نبحث عن الأيقونات السائدة في تلك السنوات (قبل تأسيس إسرائيل) تظهر أمام أعيننا شخصيتان: شخصية المتنبئ بالدولة اليهودية ثيودور هرتسل، وبعدها شخصية بلفور الذي حقق النبوءة".

وأشارت إلى أن الكثير من اليهود الصهاينة في الييشوف اليهودي في فلسطين كانوا ينظرون إلى يوم صدور "وعد بلفور" على أنه بداية تقويم. وكان الكثيرون في الييشوف يسجلون في مراسلاتهم التاريخ وفق هذا "التقويم". وفي موازاة ذلك شبّه الكثيرون من الصهاينة بلفور بكورش ملك الفرس، الذي سمح لليهود بالعودة إلى البلاد بعد سبي بابل ومن أجل بناء "الهيكل الثاني"، وفقا للأسطورة التوراتية.

واعتبرت الصهيونية "وعد بلفور" على أنه "كوشانا" يعزز المزاعم الصهيونية "بملكية الشعب اليهودي على أرض إسرائيل". وعلى مدار 30 عاما تقريبا، حتى تأسيس إسرائيل، كان يوم الثاني من تشرين الثاني/نوفمبر يوما احتفاليا في الييشوف.

ويقول المحاضر في الجامعة العبرية في القدس، البروفيسور إيلي بوديه، إن الاحتفالات بـ"وعد بلفور" في المدارس اليهودية في الييشوف كانت تشمل قصة الملك كورش المذكورة في التوراة، وأن هذا "الوعد" كان يشبه أحداثا مؤسِسة وهامة من التوراة. لكن بعد قيام إسرائيل تلاشت هذه الذكرى من الحيز العام، خاصة وأن العلاقات بين الانتداب البريطاني والحركة الصهيونية، وخاصة عصاباتها المسلحة، شابها التوتر.

الوضع بين الفلسطينيين كان معاكسا تماما. فقد انطلق الفلسطينيون، في أعقاب الإعلان عن "وعد بلفور"، بتظاهرات وإضرابات واحتجاجات وخطابات منددة ورفع رايات سوداء، احتجاجا على المس بحقوقهم في البلاد، التي منحها الأجنبي بلفور لمهاجرين غرباء، ليؤسس بلفور بذلك لنكبة فلسطين، بعد ثلاثين عاما.

ويرى مؤرخون إسرائيليون أن صدور "تصريح بلفور" كان متحفظا ومقلصا قياسا بالصيغة التي اقترحها وايزمان، وأن مردّ ذلك يعود إلى أن إصدار التصريح نبع من اعتبارات سياسية واقتصادية وإستراتيجية. فقد أرادت بريطانيا أن تفكك الإمبراطورية العثمانية، وأن تستند في استعمارها في المنطقة إلى دولة عربية وأخرى يهودية وثالثة أرمينية. لكن بلفور عمل في هذا الصدد انطلاقا من معتقدات دينية، واعتبر أن "الديانة والثقافة المسيحية مدينة للغاية لليهودية". وقد أيده رئيس حكومته، ديفيد لويد جورج، في ذلك.

ينبغي التأكيد في هذا السياق على أن الحركة الصهيونية منذ نشوئها وحتى قيام إسرائيل، على الأقل، لم تكن تحظى ولا تمثل أغلبية اليهود في العالم، بل كانت أقلية بينهم. وخلافا لجورج وبلفور، عارض صدور "وعد بلفور" شخصيتان بريطانيتان يهوديتان رفيعتان، هما الوزير إدوين مونتيغيو وعضو البرلمان فيليب ماغنوس، وبذلا كل ما في وسعهما من أجل منع صدوره، كما تبين ذلك مراسلاتهما مع حكومتهما.

من جانبه، عبر مونتيغيو عن تخوفه من "وعد بلفور" سيدفع دولا إلى طرد اليهود لديها وسلب حقوقهم، وصرح بأنه "لماذا يتعين على الروس منح اليهود مساواة في الحقوق إذا كان موطنهم في فلسطين؟". ومن الجهة الأخرى، كانت أغلبية بين اليهود في العالم، ربما باستثناء الصهاينة، لا ينظرون إلى اليهودية كأمة وإنما كديانة، وبينهم ماغنوس، الذي دعا إلى "إقامة مركز ثقافي يهودي في فلسطين" واستخف بقوة الحركة الصهيونية وحذر من اندلاع أعمال عنف في فلسطين.

وزار بلفور فلسطين في العام 1925، حيث استقبله الصهاينة بالترحاب. وكتب المؤرخ الإسرائيلي توم سيغف، في كتابه "أيام شقائق النعمان" (شقائق النعمان وصف للجنود البريطانيين إبان الانتداب)، أن بلفور غادر البلاد متجها بالقطار إلى دمشق، لكنه نزل منه قبل وصوله إلى دمشق لأسباب أمنية، حيث كانت جماهير غفيرة بانتظاره في محطة القطار في دمشق للاحتجاج والتظاهر ضد وعده المشئوم. وأضاف سيغف أن آلاف المتظاهرين انتقلوا من محطة القطار إلى منطقة فندق فيكتوريا الذي نزل فيه بلفور، وتظاهروا هناك وألقوا الحجارة باتجاه الفندق.

التعليقات