إسرائيل ونظام الأبارتهايد: علاقات عسكرية وتعاون نووي (2)

العلاقات العسكرية بين إسرائيل ونظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا طالت كافة المجالات الأمنية. وبعد لقاءات وزيارات سرية، اشترت إسرائيل ما مجموعه 600 طن يورانيوم، وباعت جنوب أفريقيا مادة التريتيوم لزيادة قوة انفجار القنبلة النووية وصنعها

إسرائيل ونظام الأبارتهايد: علاقات عسكرية وتعاون نووي (2)

مركز بليندابا للأبحاث النووية

العلاقات العسكرية بين إسرائيل وجنوب أفريقيا لم تكن معلنة، وسعى الجانبان إلى إخفاء طبيعتها وحجمها. ورغم ذلك، نشرت صحف تقارير تحدثت في البداية عن علاقات في المجال العسكري البحري، مثل بناء سفن حربية تحمل صواريخ بحر – بحر إسرائيلية من طراز "غابريئيل"، وأطلق عليها في جنوب أفريقيا اسم "سكوربيون".

واتسعت هذه الصفقات لتشمل عتادا عسكريا بريا وجويا، وفقا للدبلوماسي الإسرائيلي ألون ليئيل في كتابه "عدالة سوداء: الانقلاب الجنوب أفريقي"، الصادر في العام 1999. وقامت إسرائيل بتحسين دبابات من طراز "سنتوريون"، التي يستخدمها الجيش في جنوب أفريقيا، من خلال تغيير مدافع هذه الدبابات بمدافع أكبر، وأصبح اسم هذه الدبابات "أوليفانت"، التي استخدمتها جنوب أفريقيا في جبهتها مع أنغولا. ونقلت إسرائيل إلى جنوب أفريقيا منظومة إطلاق نار وأجهزة للرؤية الليلية، شكلت أساسا لتطوير نظام "تايغر" لمراقبة إطلاق النار.

كذلك زودت إسرائيل جنوب أفريقيا بقذائف لمدافع الطائرات الحربية وقنابل للطائرات. وشملت هذه العلاقات إرسال مستشارين إسرائيليين إلى المدرسة الحربية في جنوب أفريقيا، إقامة مطارات، تحسين طائرات حربية جنوب أفريقية – وبينها تحسين 50 طائرة مقاتلة من طراز "ميراج".

وباعت إسرائيل طائرات من دون طيار لجنوب أفريقيا، وبعد ذلك منحتها تصريحا بصنعها. كما باعت إسرائيل جنوب أفريقيا طائرة تجسس كبيرة من طراز "بوينغ 707" مزودة بنظام "فالكون" الإسرائيلي الصنع.

كذلك زودت إسرائيل شرطة جنوب أفريقيا بمدرعات لتفريق المظاهرات ووسائل أخرى. كما اتسعت العلاقات الاستخبارية. وأشار ليئيل إلى "حقيقة أن السلاح الجنوب الأفريقي، الذي جرى تطويره بواسطة خبرات إسرائيلية، تم بيعه أحيانا إلى دول ثالثة، على حساب بيع الصناعات العسكرية الإسرائيلية لهذه الأسلحة، تسبب باحتكاكات بين الجانبين، لكن ذلك لم يتسبب بتراجع العلاقات الجيدة مع الزبون الجنوب أفريقي العملاق، الذي شكل مصدر رزق لآلاف عائلات العاملين في الصناعات العسكرية الإسرائيلية".

كذلك زودت إسرائيل جنوب أفريقيا بصواريخ مضادة للدبابات من طراز "نيفتس"، التي أطلقت جنوب أفريقيا عليها اسم "سويفت"، وصواريخ باليستية متوسطة المدى من طراز "فايتون"، وكانت تقنيتها تستند إلى صاروخ "ياريحو 2"، وتم إجراء تجارب عليه في موقع أرنيستون في جنوب أفريقيا. وكشف تقرير بثته شبكة NBC الأميركية عن صور لتجارب على صواريخ باليستية إسرائيلية في جنوب أفريقيا، في العام 1989، وتبع ذلك انتقادات دولية، بينها تصريح أطلقه الرئيس الأميركي، جورج بوش الأب، بأن "العلاقات النووية" بين إسرائيل وبريتوريا من شأنها أن تعقد العلاقات الأميركية – الإسرائيلية.

لقاء بين رابين وبيرس وبين فورستير في إسرائيل (مكتب الصحافة الحكومي)

يشار إلى توطد العلاقات العسكرية بدأ في السنوات 1974 – 1976، وجاءت حسب الادعاءات الإسرائيلية على خلفية مصالح جيو إستراتيجية وعسكرية واقتصادية. ووفقا لمحلل الشؤون الأمنية في صحيفة "هآرتس" في حينه، يوسي ميلمان، "شعرت إسرائيل بأنها عرضة لتلقي ضربات ومذلة بعد حرب يوم الغفران، التي فوجئت بها، وتعرضت لخسائر وأضرار اقتصادية كبيرة. بينما جنوب أفريقيا كانت قلقة من قيام نظام مؤيد للشيوعية في موزمبيق وأنغولا المجاورتين، بعد حصولهما على الاستقلال من البرتغال. ونتيجة لذلك، صعّدت جنوب أفريقيا قمعها للأغلبية السوداء في الدولة، الأمر الذي زاد من عزلتها الدولية".  

تجربة نووية

تطورت العلاقات العسكرية بين الدولتين إلى المجال النووي. وقد طوّرت جنوب أفريقيا سلاحا نوويا بمساعدة إسرائيل. وكشفت شبكة CBS الأميركية، في 20 شباط/فبراير العام 1980، عن أن قمرا اصطناعيا أميركيا لأغراض التجسس فوق الفلبين التقط هزات بحرية، في أيلول/ سبتمبر العام 1979، وأعقب ذلك وميض فوق المحيط الهندي. وقدّرت الاستخبارات الأميركية أن ذلك كان نتيجة تجربة نووية، لكنها ادعت في حينه أنها لم تتوصل إلى استنتاجات أكيدة.

مركز بليندابا للأبحاث النووية ، غرب بريتوريا (Gallo Images / The Times / Alon Skuy)

 لكن مجلة "فورين بوليسي" الأميركية نشرت، في 22 أيلول/سبتمبر الماضي، أن الرئيس الأميركي، جيمي كارتر، تستر على هذه التجربة النوويّة الإسرائيليّة مع نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وجرت في 22 أيلول/ سبتمبر عام 1979.

وسبق هذه التجربة النووية اتصالات مكثفة بين مسؤولين في الدولتين. ففي نيسان/ أبريل العام 1975، التقى وزير الأمن الإسرائيلي، شمعون بيرس، مع وزير الدفاع الجنوب أفريقي، بيتر ويليم بوتا، في مدينة زيوريخ السويسرية، وتباحثا في تفاصيل اتفاق سري بين الدولتين حول تعاون أمني، يشمل المجال النووي. وبين الأمور التي ناقشاها، صفقة بيع صواريخ "ياريحو" الإسرائيلية، القادرة على حملة رؤوس حربية نووية، لجنوب أفريقيا. وقال بوتا لنظيره الإسرائيلي إن جنوب أفريقيا مهتمة بشراء هذه الصواريخ إذا كان سيتم تزويدها بما وصفه بـ"الشحنة الصحيحة".

وكشف هذه التفاصيل كتاب "التحالف المسكوت عنه - علاقة إسرائيل السرية مع نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا"، الذي صدر في العام 2010، وهو من تأليف ساشا بولاكوف – سورنسكي، وهو يهودي جنوب أفريقي هاجر إلى الولايات المتحدة ويعمل في مجلة "فورين بوليسي". ويلقي الكتاب الضوء على تفاصيل كثيرة من تلك الفترة، بالاستعانة بوثائق من أرشيفات في جنوب أفريقيا ومقابلات مع مسؤولين تولوا مناصب ذات علاقة بهذا الموضوع.

ووفقا لهذا الكتاب، فقد زار بيرس جنوب أفريقيا سرا، في تشرين الثاني/ نوفمبر العام 1974، وتبع ذلك لقاء، في آذار/مارس 1975، بين موظفين من وزارة الأمن الإسرائيلية ووزارة الدفاع الجنوب أفريقية، واقترحت إسرائيل خلاله بيع جنوب أفريقيا صواريخ أرض – أرض من طراز "ياريحو" القادرة على حمل رؤوس حربية نووية.

صاروخ "ياريحو" (الصناعات العسكرية الإسرائيلية)

وكتب رئيس أركان جيش جنوب أفريقيا، ر.ب. أرمسترونغ، مذكرة تضمنت تحليلا، في 31 آذار/ مارس، حول الأفضليات التي سيمنحها تحسين البرنامج الذري في جنوب أفريقيا من أجل تطوير سلاح نووي، وبضمن ذلك ردع روسيا والصين في حال حاولتا توسيع تأثيرهما في جنوب القارة الأفريقية. وبعد ذلك بثلاثة أسابيع، عُقد الاجتماع السري بين بيرس وبوتا في زيوريخ، ووقعا على اتفاق للتعاون العسكري. ونص الاتفاق على أن تخزّن الدولتان الواحدة لدى الأخرى أسلحة وقطع غيار. وتقرر أن يبقى الاتفاق سريا وحظر نشر وجوده، وأن الوحيدين الذين يعلمون بوجود هذا الاتفاق هم مسؤولو الأمن والاستخبارات في إسرائيل وجنوب أفريقيا فقط.

إلا أن قائد قاعدة سلاح الجو "سيمنستاون" في جنوب أفريقيا، ديتر غرهارد، الذي أصبح لاحقا مدير مكتب وزير الدفاع بوتا، سرّب وجود الاتفاق السري مع إسرائيل إلى السوفييت. وفي العام 1982 ألقي القبض عليه وعلى زوجته واتهما بالتجسس للاتحاد السوفييتي. ووفقا لبولاكوف – سورنسكي، فإنه بعد مرور ثلاثين عاما على هذا الاتفاق، وفي نيسان/ أبريل 2006، حاول المسؤول عن الأمن في وزارة الأمن الإسرائيلية، يحيئيل حوريف، منع نشر الاتفاق. وتوجه حوريف إلى السلطات في جنوب أفريقيا طالبا عدم تسليم نص الاتفاق لبولاكوف – سورنسكي. إلا أن السلطات الجنوب أفريقية قررت تسليم الاتفاق للصحافي، ولكن بعد شطب بنود معينة منه.

"الشحنة الصحيحة"

التقى بيرس وبوتا مرة أخرى في زيوريخ، في حزيران/ يونيو 1975. وناقشا مجددا صفقة بيع إسرائيل صواريخ "ياريحو" لجنوب أفريقيا. ووفقا لبروتوكول اللقاء، أبدى بوتا اهتماما بشراء هذا الطراز من الصواريخ، مشترطا بأن تكون مزودة بـ"الشحنة الصحيحة". وأجاب بيرس أن "الشحنة الصحيحة متوفرة بثلاثة أحجام". ولفت بولاكوف – سورنسكي إلى أنه "واضح من مذكرة رئيس أركان الجيش أرمسترونغ وبوتا أنهما قصدا الحصول على صواريخ ياريحو مسلحة بسلاح نووي".  

في نهاية المفاوضات لم تخرج هذه الصفقة إلى حيز التنفيذ بسبب تكلفتها الباهظة. لكن الجانبين أبرما صفقات أسلحة كثيرة أخرى، بحيث باتت جنوب أفريقيا ممولة لمشاريع أبحاث وتطوير أسلحة إسرائيلية وسوقا هاما بالنسبة لإسرائيل، حتى سقوط نظام الأبارتهايد، في العام 1994.  

وبعد أقل من سنة على زيارة رئيس حكومة جنوب أفريقيا، جون فورستير، لإسرائيل في العام 1976، بدأت جنوب أفريقيا استعدادات لإجراء تجربة نووية تحت سطح الأرض. وعلم غرهارد بهذه الاستعدادات ونقلها إلى السوفييت، الذين أبلغوا الرئيس الأميركي كارتر بذلك، والذي بدوره مارس ضغوطا على النظام في جنوب أفريقيا. إثر ذلك، تعهد فورستير بوقف الاستعدادات للتجربة وعدم تكرارها في المستقبل. لكن فورستير لم يف بوعده وأوعز، على الفور، للجنة الطاقة الذرية والجيش بتسريع برنامج نووي سري وكامل.

مفاعل ديمونا (أرشيف)

وأشار بولاكوف – سورنسكي إلى زيارة سرية لوزير المناجم في جنوب أفريقيا، ستيفانوس بوتا، إلى إسرائيل، في العام 1976، من أجل إجراء مباحثات حول مصير 500 طن من اليورانيوم، كانت جنوب أفريقيا زودتها لإسرائيل، في العام 1965. وقبيل هذه الزيارة، تحدثت تقارير صحفية عن تقلص كمية اليورانيوم في إسرائيل وحاجتها إلى كمية أخرى. ولم يكن بإمكان إسرائيل استخدام اليورانيوم الجنوب أفريقي في مفاعل ديمونا النووي، لأنه كان يخضع لرقابة جنوب أفريقية ورقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، التي كانت تعلم بوجود المفاعل وأنشطته.  

وأكد بولاكوف – سورنسكي على أنه بمساعدة الـ500 طن يورانيوم، بإمكان إسرائيل إنتاج بلوتونيوم يكفي لصنع 12 قنبلة نووية، ولكن تعين عليها أولا إزالة الرقابة الجنوب أفريقية. وقد صادق بوتا على ذلك، ووافق على بيع إسرائيل 100 طن أخرى من اليورانيوم المخصب، الذي يسمى "كعكة صفراء". وحول ذلك، قال بوتا في مقابلة لكتاب بولاكوف – سورنسكي إنه "عملنا معا طوال عدة سنوات، وكأصدقاء كان من السهل علينا التعاون في هذا المجال".

وشارك بوتا في هذه الخطوة تاجر الأسلحة يان بلاو، الذي لديه علاقات وثيقة في إسرائيل. وقال بوتا إنه "كانت لدينا علاقات مع إسرائيل. وعندما زرت إسرائيل كان بلاو قد تواجد هناك، وحتى أنه كان حاضرا في اللقاء الذي جرى فيه الاتفاق على صفقة اليورانيوم وتقرر فيه رفع قيود الرقابة". ونُشر في جنوب أفريقيا أنه مقابل اليورانيوم حصلت جنوب أفريقيا من إسرائيل على 30 غراما من التريتيوم، وهي مادة مشعة تزيد من قوة الانفجار النووي وضرورية لصنع قنبلة نووية.

وبدأت جنوب أفريقيا بتطوير رؤوس حربية بعد حصولها على التريتيوم من إسرائيل، في العامين 1977 – 1978. وبعد سنة، في 22 أيلول/ سبتمبر 1979، التقط القمر الاصطناعي الأميركي وميضا دلّ على حدوث انفجار نووي. وكان وزير خارجية جنوب أفريقيا، عزيز فهد، قد أكد أن هذا الانفجار كان تجربة نووية، وذلك في مقابلة معه نشرتها صحيفة "هآرتس"، عام 1997. لكنه امتنع عن القول ما إذا كانت هذه تجربة مشتركة للدولتين أم أنها تجربة أجرتها إسرائيل بعلم جنوب أفريقيا.

ووفقا لبولاكوف – سورنسكي، فإن هذه كانت قنبلة نووية إسرائيلية. وأضاف أن استنتاجه هذا يعتمد على تحليل الوميض من قبل وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA) وإفادات غرهار. كذلك استند إلى أقوال أندري بويس، وهو أحد المسؤولين في البرنامج النووي الجنوب أفريقي، وبموجبها لم تكن في حينه بحوزة جنوب أفريقيا قنبلة من النوع الذي تمت تجربته، وهي قنبلة صغيرة وتعتبر متطورة. وشدد على أن "القنبلة التي كنت أعمل عليها، لم تكن جاهزة".

التعليقات