"ما بعد الحقيقة": مخاطر التطور الإلكتروني المعاصر والحماية منها

أدت التطورات الإلكترونية المتعلقة بتناقل المعلومات، وخاصة بواسطة الهواتف الذكية، في العقد الأخير، إلى نشوء ظاهرة ما بعد الحقيقة، وتتناول العلاقات المتغيرة بين إدراك الواقع والحقائق وبين المشاعر والقناعات والآراء الشخصية

خوادم لحفظ بيانات مستخدمي "فيسبوك" (Erin Green)

أدت التطورات الإلكترونية المتعلقة بتناقل المعلومات، وخاصة بواسطة الهواتف الذكية، في العقد الأخير، إلى نشوء ظاهرة ما بعد الحقيقة (تجاوز الحقائق)، وتتناول العلاقات المتغيرة بين إدراك الواقع والحقائق وبين المشاعر والقناعات والآراء الشخصية.

وتشكل هذه الظاهرة صعوبة متزايدة في استيضاح الواقع وفهمه، في أوساط الجمهور الواسع وأيضا في أوساط صناع القرار في مجال الأمن القومي في الديمقراطيات الغربية الليبرالية، وفقا لدراسة نشرها "معهد أبحاث الأمن القومي" في جامعة تل أبيب، الأسبوع الحالي.

وتهدف الدراسة إلى تحليل ظاهرة ما بعد الحقيقة من الجانب التكنولوجي، وتحاول الإجابة على سؤالين مركزيين، وهما كيف أثرت التغييرات التي ظهرت في عالم المعلومات في السنوات الأخيرة على ظاهرة ما بعد الحقيقة وزادت من أضرارها؟ وكيف بالإمكان تطوير منهج دفاعي فعال ضد أضرار هذه الظاهرة؟

وعالم المعلومات هو الحيّز الذي تُصنع وتُوزع وتُستهلك وتُخزن فيه المعلومات الرقمية، وتشمل المعلومات الخام والمعلومات المعالجة، والبنية التحتية للمعلومات، مثل خادوم التخزين (Server) ومواقع الميديا، والبنى التحتية للاتصالات والحوسبة. وتطرقت الدراسة إلى أربعة تحولات بشأن المعلومات، وهي إنتاجها ونشرها واستهلاكها ومراقبتها.

وطرأت تغيرات كبيرة جدا على إنتاج المعلومات، في العقد الأخير، إثر تحول الفرد من مستهلك معلومات جامد إلى مستخدم نشط، وكذلك في أعقاب وفرة وقوة إمكانية إنتاج معلومات رقمية، على ضوء توفر الأدوات التكنولوجية مثل الكاميرات، وخاصة في الهواتف الذكية؛ وتوفر موارد تخزين متاحة، مثل الأجهزة الإلكترونية والحواسيب؛ وتطوير أدوات أوتوماتيكية لإنتاج معلومات معالجة من معلومات خام. يضاف إلى ذلك سهولة نسخ معلومات وإمكانية تشويهها بشكل كبير، حيث بات بالإمكان إضافة تفصيل إلى صورة أو شريط صوتي من دون أن يتمكن شخص عادي من تشخيص التزوير الحاصل.

كذلك طرأت ثورة على عملية نشر المعلومات، في السنوات الأخيرة، بعد أن باتت وسائل الاتصال العامة والخاصة متاحة وفيما عرض النطاق الكبير في الإنترنت يسمح بنشر معلومات بوتيرة وحجم غير مسبوق. وتطورت حول كل واحد من أشكال نشر المعلومات منصات تكنولوجية – تجارية هادفة، مهمتها تسهيل عملية النشر، مثل شبكة الإنترنت و"فيسبوك ماسينجير" و"واتسآب" و"تيليغرام" و"إنستغرام" و"ريديت" (موقع تجميع وتقييم الأخبار الاجتماعية الأميركية) ومنصات "ويكي"، مثل "ويكيبيديا" ومدونات وغيرها.

في هذا السياق، ثمة أهمية كبيرة لتطور النماذج التجارية حول المنصات التكنولوجية. ويوجد نوعين من المستهلكين الذين تخدمهم سوق المنصات في أية لحظة، مثل معلنين – مستهلكين ومزودين – زبائن. وهكذا تحولت منصات نشر المعلومات إلى شركات عملاقة، التي سيطرت على أسواق نشطت فيها سابقا جهات أخرى، مثل الصحف المطبوعة وشبكات تلفزيون. والأرباح التي جنتها هذه الشركات سمحت لها بشراء منافسين أو شركات تنتج لصالحها موطئ قدم في أسواق جديدة، مثل شراء "فيسبوك" لـ"تيليغرام" و"واتسآب".

يضاف إلى نشر المعلومات بواسطة البشر، نشرها بشكل متواصل بواسطة بوتات (روبوتات الويب) وتوصيات مضامين أوتوماتيكية. والمضامين التي ينشرها هؤلاء اللاعبون الافتراضيون تكون مستقلة بالمطلق أحيانا، وتخدم مصالح تجارية في أحيان أخرى، ولكنها تتميز بميل للتحريض وبمصداقية متدنية جدا. وبات بالإمكان نشر قصة كاذبة على أنها قصة هامة، من دون معرفة المستهلك مدى مصداقيتها.

وتوجد للمعلومات في المنصات التكنولوجية قيمة هائلة بالنسبة للمعلنين. ويخدم نشر المعلومات مصالح متنوعة، وفي مقدمتها المصالح التجارية والسياسية. ونشأت حول المنصات التكنولوجية صناعة مكملة، خاصة في مجال التسويق والمبيعات، التي تشجع هي الأخرى نشر معلومات لم يتم التحقق من مصداقيتها، وهدفها جذب انتباه المستخدم.

ظواهر تشكل تحديات جديدة

وإلى جانب ذلك، تطورت ثلاث ظواهر هامة، تجسد التحديات الجديدة لعالم المعلومات المعاصر:

غرفة الصدى (echo chamber). أصبح أسهل على الفرد نشر معلومات. وتسمح منصات نشر المعلومات للفرد بالانتماء إلى مجموعات مغلقة تتنظم حول أفكار ومعتقدات معينة. ونشر المعلومات في هذه الغرف مريح أكثر، كما أن أعضاءها يعيدون نشر هذه المعلومات. وبذلك، يستهلك الفرد المعلومات نفسها مرة تلو الأخرى، وتتعزز قناعته بصدق هذه المعلومات. وتعزز هذه العملية القناعات السائدة في المجموعات الاجتماعية المغلقة في المنصات المختلفة وتزيد من تطرفها. ولا يشارك أفراد هذه المجموعة أفكاره مع مجموعات أقل ودية ودعما.  

فقاعات تصفية (filter bubble). وهي نماذج تجارية للمنصات التكنولوجية التي تستند إلى مستوى مشاركة عال لمستخدمي المنصات. ولذلك هي تحاول ملاءمة استخدامها للاحتياجات الشخصية للمستخدم ووفقا لعاداته الاستهلاكية. وهي تستخدم المعلومات الشخصية للمستخدم، التي تجمعها وتحللها خلال استخدامه للمنصة.

فضاءات خالية من المعلومات (Data Voids). خلافا لاستخدام الشبكات الاجتماعية، فإن استخدام محركات البحث يبدأ بسؤال يطرحه مستهلك المعلومات. وتنشأ فضاءات خالية من المعلومات عندما تمنح المعلومات ردا على سؤال مقلص، غير دقيق أو غير موجود. وبإمكان جهات ذات مصالح تشخيص الفضاءات الخالية وأن تضخ للمستهلك في الإجابة على سؤاله مضامين تدفع بمصالحها. وتشتد الإشكالية هنا عندما تستغل أدوات تجارية، هدفها دفع مصالحها التجارية بواسطة محركات البحث، الفضاءات الخالية، من أجل زيادة كشف مضامينها. وتنتج هذه الجهات أحيانا طنين، أو إشاعة مصطنعة (BUZZ)، بهدف تشجيع بحث اهتمت مسبقا أن يقود إلى النتائج التي يريدونها. وفي حالات أخرى، تستغل هذه الجهات نشوءا عفويا لطنين إعلامي وارتفاع كميات البحث الحاصلة في أعقاب ذلك.  

استهلاك المعلومات

إحدى الميزات الهامة لاستهلاك المعلومات هي تزامنها، بمعنى استهلاكها في وقت واحد، وهي نتيجة لنشر معلومات من نوع واحد للجميع، مثل نشرة الأخبار في الساعة الثامنة مساء، التي ميزت عالم المعلومات التقليدي. وفي المقابل، الاستهلاك غير المتزامن هو استهلاك تفاصيل مختلفة في أوقات مختلفة، وغالبا بمبادرة الفرد نفسه. وفيما تسببت مؤسسات الإعلام في عالم المعلومات التقليدي بتصرفات متزامنة للمستهلكين، فإن استهلاك المعلومات في عالم المعلومات المعاصر متقطع وعفوي أكثر ولذلك غير متزامن غالبا.

ويعني ذلك أن لدى مستهلكي المعلومات في عالم المعلومات المعاصر، في أي لحظة، صورة للواقع مختلفة قليلا، ومعلومات مضللة أو كاذبة بإمكانها وبسهولة توسيع الفجوات، وبذلك يتم تعميق التقاطب والانقسام في المجتمع. وفي القضايا ذات الأهمية القومية تزداد الحاجة إلى إجماع شعبي واسع، ولذلك توجد للميزة غير المتزامنة، التي تميز عالم المعلومات المعاصر، أهمية كبيرة.

يشار إلى أن إنتاج المعلومات ونشرها جرى في الماضي في المنصة نفسها، وهي منصة الميديا التقليدية، ولذلك تحمّل ناشر المعلومات نفسه المسؤولية عن مصداقية المعلومات ونوعيتها. واليوم، انفصل إنتاج المعلومات عن نشرها، ولم تعد المنصات التكنولوجية مسؤولة، أو لا تريد أن تكون مسؤولة، عن المعلومات التي تنشرها، خاصة في حالات إجرامية متطرفة، مثل نشر مضامين جنسية محظورة، وتحاربها المنصات وتزيلها. ومسألة المسؤولية عن المضامين المنشورة في مركز الضغوط التي تمارس على المنصات، التي بدأت بتغيير توجهها.   

وظاهرة الأخبار الكاذبة هي جزء من ظاهرة ما بعد الحقيقة الأوسع والتي توضح طبيعة عالم المعلومات المعاصر في ظل أربعة تحولات، هي: إنتاج معلومات كاذبة بسهولة ووتيرة سريعة جدا ونوعية عالية؛ نشر واسع للمعلومات الكاذبة وجعلها أكثر تطرفا بواسطة دوي صداها والمشاركة في منصات نشر المعلومات؛ استهلاك الجمهور للمعلومات الكاذبة بشكل متزايد وغير مراقب؛ انعدام التنظيم بسن القوانين وإنفاذها، من أجل منع إنتاج ونشر المعلومات الكاذبة أو محوها.

وتستخدم اليوم بنظام دفاعي كانت فعالة في عالم المعلومات التقليدية ضد ظاهرة الأخبار الكاذبة، لكنها ليست ملائمة لعالم المعلومات المعاصر.  

منهج جديد لحماية المعلومات

وجرى تطوير منهج جديد لحماية المعلومات، ويشمل تطوير "صندوق أدوات" تكنولوجي وبشري جديد، من أجل مواجهة المميزات الجديدة لعالم المعلومات المعاصر. وهذه الأدوات الجديدة جيدة وناجعة من أجل حمايات مختلفة في عالم المعلومات المعاصر، مثل حماية معلومات الفرد، حماية معلومات منظمة أو مصلحة تجارية، حماية بنية تحتية محوسبة، حماية بنية تحتية بالغة الأهمية أو حماية معلومات مؤسسات دولية. لكن هذه الأدوات ما زالت تنقصها القدرة على مواجهة ناجعة لظاهرة ما بعد الحقيقة.  

وتطرقت الدراسة، الصادرة عن "معهد أبحاث الأمن القومي" في جامعة تل أبيب، إلى المراحل المطلوبة من أجل الحماية من ظاهرة ما بعد الحقيقة:

المرحلة الأولى: تعريف الكنوز التي ينبغي حمايتها. وهذه الكنوز التي في حال المس بها يتم المس بقدرة المجتمع على اتخاذ قرارات بالاستناد إلى حقائق وإدراك صحيح للواقع. وبين الكنوز التي بالإمكان حمايتها: توفر المعلومات في أي منصة يتم استهلاك المعلومات منها، مثل الشبكات الاجتماعية ومحركات البحث والميديا التقليدية؛ مصداقية المعلومات بشأن التطعيمات وفاعليتها ومخاطرها؛ القدرة على نسب اعتداء للجهات التي تمارس أي اعتداء على الكنوز، سواء كان فرد أو جهاز.  

المرحلة الثانية: تعريف الأضرار التي يمكن إلحاقها لكل واحد من الكنوز وشكل الحماية الذي اختير: منع الضرر، احتواؤه، أو دمجهما معا. وفي حال الحديث عن انتخابات، فإن الكنوز التي بحاجة لحماية يمكن أن تكون منظومة التصويت الإلكتروني وفرز الأصوات. منع تشويه سمعة مرشحين. مواجهة مسعى إلى تشويه سمعة مؤسسات مسؤولة عن العملية الانتخابية والحماية من نشر معلومات كاذبة تنسب لهذه المؤسسات الانحياز السياسي.

المرحلة الثالثة: تطوير الأدوات المطلوبة لحماية الكنوز من أضرار محتملة.

المرحلة الرابعة: مراقبة فاعلية إستراتيجية الحماية بالأدوات التي جرى تطويرها، وتطوير رد للفجوات التي تطرأ.   

التعليقات