علاقات إسرائيل - بورما: سلاح لتطهير عرقي مقابل دعم سياسي

أقامت إسرائيل، منذ خمسينيات القرن الماضي، علاقات متينة مع بورما وزودت نظامها العسكري بالسلاح، دون الاكتراث بالمجازر التي ارتكبها بحق المدنيين، ورأت بذلك فرصة تجارية للجيش والصناعات العسكرية في إسرائيل

علاقات إسرائيل - بورما: سلاح لتطهير عرقي مقابل دعم سياسي

نساء وأطفال الروهينغا يفرون من مجازر جيش ميانمار، نوفمبر 2017 (أ.ب.)

تنظر إسرائيل إلى الأنظمة الاستبدادية في أنحاء العالم، من الناحية الفعلية، على أنها حليفة سياسية لها وخاصة في المؤسسات الدولية وبينها الأمم المتحدة، وفرصة تجارية لبيع أسلحة. وخلافا لدول كثيرة في العالم، لا تتردد إسرائيل من إقامة علاقات وثيقة مع أنظمة كهذه، التي ترتكب جرائم وحشية بحق شعوبها.

وأحد أبرز الأمثلة على هذه السياسة، هي العلاقات المتينة التي أقامتها إسرائيل مع نظام الطغمة العسكرية التي حكمت في بورما. ويؤكد ذلك وثائق وزارة الخارجية الإسرائيلية، التي أزيلت السرية عنها مؤخرا، حول العلاقات العسكرية مع بورما، منذ خمسينيات وحتى بداية ثمانينيات القرن الماضي. وتظهر هذه الوثائق نظرة جميع الحكومات الإسرائيلية إلى الأهلية الدموية في بورما، وإلى علاقاتها مع الطغمة العسكرية الحاكمة وفساد جيشها، وكيف أن إسرائيل رأت بهذه العلاقات فرصة تجارية للجيش والصناعات العسكرية في إسرائيل.

ونشرت صحيفة "هآرتس" اليوم، الجمعة، تقريرا حول هذا الموضوع للمحامي إيتاي ماك، الذي قدّم مع ناشطين حقوقيين إسرائيليين آخرين التماسا إلى المحكمة العليا طالب بوقف تصدير الأسلحة إلى بورما، ودعا إلى فتح تحقيق ضد الإسرائيليين الذين ساعدوا على ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في بورما.

وتبين الوثائق أنه كان لإسرائيل دور مركزي في إقامة الجيش البورمي، الذي حكم البلاد بوحشية طوال سنوات وجود الدولة، قبل أن يتحول اسمها إلى ميانمار. فقد ساعدت إسرائيل في إعادة تنظيم الجيش كجيش عصري، وسلحته، وقدمت إرشادات لقواته وأسهمت بشكل بالغ في بناء قوته. وسمح ذلك للجيش البورمي بإدارة الدولة من خلف الكواليس بداية، وبعد ذلك الإطاحة بالقيادة المدنية وإقامة نظام عسكري كامل.

دمار بعد مجزرة ارتكبها جيش ميانمار عام 2021 (أ.ب.)

وشدد التقرير على أن حكومات إسرائيل لم تهتم بحقيقة أن مساعداتها العسكرية ليست موجهة للدفاع، وإنما استخدمت في الحرب ضد سكان الدولة. ولا يوجد في عشرات آلاف صفحات هذه الوثائق، ولو مندوب إسرائيلي واحد عبر عن موقف ضد بيع الأسلحة إلى بورما.

وإحدى هذه الوثائق هي برقية أرسلها سفير إسرائيل في بورما، عنار كالمان، إلى مدير دائرة آسيا في وزارة الخارجية الإسرائيلية، في كانون الأول/ديسمبر عام 1981. وتناولت البرقية لقاء عقده كالمان مع وزير خارجية بورما من أجل إقناعه بتأييد إسرائيل في التصويت في الأمم المتحدة.

وكتب فيها أنه "من دون جهد كبير للإقناع، حاول الوزير البورمي الادعاء بشأن انتهاك القانون الدولي. وحاولت إقناعه بأن القانون الدولي، وخاصة هذا القانون، ليس أمرا إلهيا، وأي أحد يطبقه بموجب مصالحه الشخصية. ويبدو لي أن أقوالي نزلت على أذن صاغية".

وفي برقية من العام 1955، كتب مندوب إسرائيل في بورما، مردخاي غازيت، بعد لقائه مع سكرتير رئيس الحكومة البورمية، أن إسرائيل هي إحدى أكثر الدول الصديقة لبورما، وبورما دولة ودية للغاية تجاه إسرائيل. وذكر سكرتير رئيس الحكومة أن الدولتين تتعاونان بشكل وثيق في حلبة الأمم المتحدة. وخلال تفسيره لمصدر هذه الصداقة، ذكر أن إسرائيل وبورما هما الدولتان الاشتراكيتان الوحيدتان في آسيا".

إلا أن هذه العلاقات القوية كانت نابعة من حاجة بورما إلى مساعدات عسكرية من إسرائيل ضد حركات تمرد، بعد أن نشبت فيها حرب أهلية حينذاك، وكذلك إقامة صناعات عسكرية مستقلة. وكانت الحكومة الإسرائيلية على علم كامل بالوضع في بورما ومصير مساعدتها العسكرية. ففي العام 1952، بعثت وزارة الخارجية الإسرائيلية إلى رئيس الحكومة، دافيد بن غوريون، برقية جاء فيها إنه "سقط 30 ألف ضحية" وأن "55% من ميزانية الدولة مخصصة حتى اليوم لأهداف دفاعية".

بن غوريون في بورما، عام 1961 (أرشيف بيت بن غوريون)

ورأت إسرائيل بذلك فرصة ذهبية، إذ كتب مدير عام وزارة الخارجية، فولتير إيتان، إلى رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، موشيه ديان، في آذار/مارس 1954، أن "بورما هي الصديقة المخلصة الوحيدة لإسرائيل في آسيا، والعلاقة بين الجيش الإسرائيلي والجيش البورمي قد تكون مفيدة جدا، من الناحية السياسية على الأقل. وعليّ أن أشدد أنه في وضع العلاقات الحالي بين إسرائيل وبورما لا توجد إمكانية لرفض طلب الجيش البورمي".

وكانت إسرائيل وبورما قد أبرمتا، عام 1954، ما يعرف بـ"اتفاق الأرز"، الذي قضى بتسليح وتدريب إسرائيلي مكثف للجيش البورمي مقابل تزود إسرائيل بآلاف الأطنان من الأرز على مدار سنتين. وتظهر البرقيات التي بعثها دبلوماسيون إسرائيليون تفاصيل الاتفاق: 30 طائرة مقاتلة، مئات آلاف الأعيرة النارية، 1500 قنبلة نابالم، 30 ألف بندقية، آلاف القذائف ومعدات عسكرية كثيرة أخرى.

كذلك أوفدت إسرائيل عشرات الخبراء العسكريين والأمنيين لإجراء إرشادات في بورما، وأوفد ضباط بورميون لتلقي تدريبات في قواعد الجيش الإسرائيلي، بدءا بالهبوط بمظلات وحتى تدريب طيارين. وأقامت إسرائيل في بورما، بالتعاون مع الجيش المحلي، شركات عملت في مجالات الشحن البحري والزراعة والسياحة والبناء.

وكتب الملحق العسكري في السفارة الإسرائيلية في بورما، شالوم ليفين، إلى مدير عام وزارة الأمن الإسرائيلية، ىشمعون بيرس، نهاية العام 1957، أن "البورميين يذكرون دائما المساعدات الكثيرة التي تلقوها منا. والعتاد العسكري وصل في الوقت الذي كانوا بحاجة إليه للعمل ضد المتمردين. وهم يمتدحون دون تردد منتجات الصناعات العسكرية التي لم يجدوا فيها أي خلل. وحظي جميع أفراد الجيش الإسرائيلي الذي عملوا في بورما بالمديح".

وفي منتصف العام 1962، وبعد ثلاثة أشهر من الانقلاب العسكري في بورما، زار بيرس بورما كنائب لوزير الأمن والتقى مع قادة الطغمة العسكرية. وجاء في ملخص اللقاء أن "السيد بيرس أبلغ، باسم رئيس الحكومة، أن إسرائيل معنية مثلما هو الحال دائما بأن تكون داعمة في أي موضوع وأي شكل يقرره الجنرال"، أي قائد الطغمة العسكرية.

رئيس وزراء بورما في إسرائيل، عام 1955 (مكتب الصحافة الحكومي)

ورأت إسرائيل فائدة لها بسيطرة الجيش على بورما، بعد أكثر من عشر سنوات من الحرب الأهلية. وجاء في تقرير لوزارة الخارجية الإسرائيلية، منتصف العام 1959، أنه "بالرغم من الأزمات الداخلية الكثيرة التي نشأت في بورما طوال السنوات الماضية، بقيت صداقة إسرائيل – بورما متينة وحتى أنها تعززت بشكل كبير في السنة الأخيرة، منذ أن انتقل الحكم فعليا إلى الجيش. وأصدقاء إسرائيل الأقوى موجودون في أوساط الجيش بالأساس".

بعد الانقلاب العسكري في بورما، سعت إسرائيل إلى استمرار العلاقات وتزويد الطغمة الحاكمة بالسلاح مقابل دعم بورمي لإسرائيل في الهيئات الدولية. وبعد أسابيع من لقائه مع بيرس، أمر قائد الطغمة العسكرية، الجنرال نى وين، بارتكاب مجزرة بحق طلاب جامعيين تظاهروا في يانغون (عاصمة بورما في حينه). ووصفت برقية أرسلتها السفارة الإسرائيلية، في تموز/يوليو 1962، هذه المجزرة، وأوردت معلومات عن "إخفاء" أجهزة الأمن لعشرات الطلاب".

وفي ذروة عمليات القمع هذه، اقترح الملحق العسكري الإسرائيلي في بورما تأهيل قادة كتائب بورمية في إسرائيل. ولأن التدريبات ترمي إلى قمع مدنيين، طلب أن تكون أرض التدريبات "جبلية وتلالية". واستقبل قادة الكتائب البورميين في سلاح المدرعات الإسرائيلي "بصورة رائعة".

واستمرت أعمال القمع الوحشية في ميانمار طوال السنين الماضية، فيما الوثائق الإسرائيلية حولها ما زالت سرية. وفي آب/أغسطس 2017، امتلأت الصحافة العالمية بتقارير حول عمليات قتل واغتصاب واستعباد وتعذيب وعنف ضد الأطفال وهدم في قرى كثيرة، اضطرت أقلية الروهينغا المسلمة إلى الهروب من البلاد. ووصفت الأمم المتحدة ذلك بأنه "تطهير عرقي بموجب الكتاب".

غير أن هذه الممارسات الوحشية لم تمنع إسرائيل من الاستمرار ببيع الأسلحة المتطورة لميانمار. ورغم أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي فرضا حظر توريد أسلحة إلى ميانمار، إلا أن إسرائيل رفضت الإعلان عن أنها ترفض بيعها أسلحة. لكن، وفقا لماك، أوقفت إسرائيل صادراتها الأمنية إلى ميانمار بعد تقارير متتالية وواسعة في وسائل الإعلام وضغوط جماهيرية، في العام 2018.

ورغم ذلك، عبر سفير إسرائيل في ميانمار، رونين غيلئور، من خلال تويتر في نهاية عام 2019، عن دعم معلن وتمنيات بالنجاح لقادة الجيش في ميانمار،/ في المداولات التي جرت في محكمة العدل الدولية في لاهاي، التي نظرت في جرائم التطهير العرقي بحق الرهينغا. وكتب غيلئور: "ندعم قرارا جيدا وبالنجاح".

التعليقات