فخ التبعية: مصر و صندوق النقد الدولى/ دراسة عبد المجيد راشد

-

 فخ التبعية: مصر و صندوق النقد الدولى/ دراسة عبد المجيد راشد
تعتبر مصر من الدول المؤسسة لصندوق النقد الدولي عام 1945، وقد بلغت حصتها وقت التأسيس ما يعادل 45 مليون دولار. ولكنها رفعت أكثر من مرة تمشياً مع الزيادات العامة في حصص الأعضاء التي يقررها الصندوق دورياً، وقد حصلت مصر على موارد من الصندوق لتمويل عجز المدفوعات.

وفي مايو عام 1962 وقعت مصر أول اتفاق للتثبيت مع الصندوق، وكان ذلك في أعقاب تدهور محصول القطن وانخفاض حصيلة البلاد من النقد الأجنبي عام 1961، وبمقتضي هذا الاتفاق يقدم الصندوق لمصر تسهيلات قدرها 20 مليون جنيه إسترليني، وفي مقابل ذلك التزمت الحكومة المصرية بتخفيض الجنيه المصري من 2.24 دولار إلى 2.30 دولار للجنيه، مع توحيد سعر الصرف لجميع المعاملات عدا رسوم العبور في قناة السويس ورواتب المبعوثين من الطلبة للخارج، كما تضمن الاتفاق أيضاً رفع أسعار الفائدة المحلية وإتباع سياسة تقشفية .( [1])

على أن المرحلة الحاسمة في علاقة مصر بصندوق النقد الدولي بدأت مع منتصف السبعينيات، ففي مايو 1974، بدأ صندوق النقد الدولي دوره في تكييف الإقتصاد المصري في حقبة الإنفتاح، وتزامن ذلك مع بدء تدشين سياسة " الإنفتاح" إقتصادياً بموجب القانون 43 لسنة 1974 .

في البدء، تدخل الصندوق في الإقتصاد المصري من خلال مسلك الإقراض لعلاج عجز ميزان المدفوعات وسداد متأخرات القروض، فقد أشار تقرير البعثة التي زارت القاهرة وقتها إلى العجز في ميزان المدفوعات وتراكم المتأخرات، ونصح بأن الأمر يتطلب "إصلاحاً" جذرياً للقطاع الخارجي ليكون مدخلاً للإصلاح الاقتصادي و "بالتحديد" طلبت البعثة أن يتسع نطاق السوق الموازية للنقد الأجنبي اتساعاً كبيراً كخطوة رئيسية نحو إنشاء سعر معدل وحيد للصرف عند مستوي واقعي، وإعادة هيكلة الأسعار في قطاعات التجارة الداخلية والخارجية.([2])

كما تم في هذه المرحلة تكوين ما يسمي "المجموعة الاستشارية لمصر" وهي تكتل من الدائنين"، ومقدمي المساعدات، الغرض منه فرض سياسات وأولويات اقتصادية معينة مقابل تقديم الموارد المالية. وقد لعب صندوق النقد الدولي دوراً بارزاً في مداولات وإجتماعات المجموعة الاستشارية لمصر وقد طالب الصندوق مصر بضرورة اتخاذ " خطوات جادة للإصلاح الاقتصادي" وتمثلت إستجابة مصر لهذه المطالب في خطابي النوايا اللذين قدمتهما للصندوق في مايو 1976 ويونيو 1978. كما اقتضي الأمر أيضا استئناف المشاورات السنوية طبقاً للمادة الرابعة من إتفاقية الصندوق، وتعيين ممثل مقيم للصندوق في مصر[3] .

ويمكن رصد عملية التكييف التي أخضع صندوق النقد، الاقتصاد المصري لها من خلال استعراض خطابات النوايا التي قدمتها الحكومة في مصر لصندوق النقد. وقراءةخطابي النوايا (76 – 1978 ) تفصح عن الآليات الآتية :
( أ ) تفضيل الزراعة على الصناعة.
( ب ) تفضيل القطاع الخاص على العام.
( ج ) تفضيل الأجنبي على الوطني.
( د ) تفضيل الأنشطة التجارية على الأنشطة الإنتاجية.
( هـ ) تغليب قوي السوق على التخطيط. ( [4])

ومن الأهمية أن نتوقف قليلاً عند تحليل مضمون خطابي النوايا في (76–1978)([5])
صدر هذا الخطاب في مايو 1976 ... ويتضمن الخطاب برنامجاً "للإصلاح الاقتصادي" مدته سنة واحدة في إطار ترتيب مساندة من الصندوق بمبلغ 125 مليون من وحدات السحب الخاصة (قيمة الوحدة 1.2 دولار أمريكي).

ويبدأ الخطاب بتبنيات الإنجازات التي تمت، وفي مقدمتها عملية الإصلاح الإداري التي تستهدف لا مركزية اتخاذ القرارات وجعلها أكثر استجابة لقوي السوق. ومن هذه الإنجازات أيضاً تعديل قانون الاستثمار وزيادة إمكانية حصول المصـريين على السـلع المستوردة (فقرة 2) ... ويلاحظ أيضاً الحرص على تأكيد أن الإجراءات التي اتخذت أو تلك التي ستتخذ بالفعل هي بمثابة إشارة لكل من المصريين والمجتمع الدولي، وأن الحاجة ستكون مستمرة للعون الخارجي (فقرة 5) . والقاسم المشترك وراء كل هذه العناصر هو أننا " نخطب ود الخارج" ... لذلك فنحن نعدل قانون الاستثمار لتشجيع الاستثمارات الخاصة ونزيد من فرص حصول مواطنينا على سلع الخارج ونرسل الإشارات للخارج ونحتاج إلى العون الخارجي.([6])

ويحتوي الخطاب على إجراءات في مجالات إصلاح نظام الصرف وسياسة التجارة الخارجية وتحديد المعاملات الداخلية واللامركزية والسياسة المالية والسياسة النقدية والإئتمانية وسياسة الدين الخارجي والمتأخرات. ففي مجال إصلاح نظام الصرف وسياسة التجارة الخارجية، يحدد الخطاب هدفاً نهائياً هو توحيد سعر الصرف عند مستوي يعيد للاقتصاد توازنه الخارجي، وتحرير المعاملات الخارجية من القيود الإدارية وإقامة سوق تجارية جديدة يتحدد فيها سعر مرن للنقد الأجنبي (فقرة 6) وسوف يصبح القطاع الخاص حراً في استيراد السلع دون قيود كمية ( فقرة 7) وسوف يسمح لسعر الصرف في السوق التجارية أن يعوم استجابة لقوي العرض والطلب، بحيث يحفظ التوازن بين كميات النقد الأجنبي المباعة والمشتراة في السوق (فقرة 9)، وسوف يتم تحويل قدر كبير من المعاملات بالعملات الحرة القابلة للتحويل من السعر الرسمي إلى السعر التجاري بما ينطوي على تخفيض فعلي كبير للجنيه المصري مما يساعد بدرجة كبيرة على ترشيد القطاع الخارجي (الفقرتان 10 ، 11) . وسوف يتم إنهاء معظم اتفاقات الدفع الثنائية مع أعضاء الصندوق (فقرة 12) .

وفي مجال السياسة المالية:- يتضمن الخطاب إجراءات لاحتواء الإنفاق الخارجي ولزيادة الإيرادات (فقرة 14) .. ومن إجراءات احتواء الإنفاق الجاري، تخفيض تكاليف دعم المواد الغذائية بأكثر من 100 مليون جنيه، مقابل منح علاوة لنفقة المعيشة لذوي الدخل المحدود قدرها 30 مليون جنيه.. فضلاً عن توقع ضرورة منح زيادة أخرى في الأجور في أواخر السنة حينما تصبح ارتفاعات الأسعار الناتجة عن إصلاح سعر الصرف أكثر وضوحاً (فقرة 14) .

ـ وفي مجال السياسة النقدية والائتمانية :- يتضمن الخطاب أن البنك المركزي قام برفع أسعار الفائدة وإلغاء ضريبة المنبع على مدفوعات الفوائد (فقرة 16) باستهداف تشجيع المدخرات ... وكذلك الحد من زيادة الأصول المحلية للقطاع المصرفي (فقرة 17) باستهداف احتواء التضخم.

ـ وفي مجال سياسة الدين الخارجي والمتأخرات :- يستهدف البرنامج المتضمن في خطاب النوايا ، تخفيض الاعتماد على الاقتراض الخارجي إلى مستوى أكثر تناسباً مع الاحتياجات، وبالذات تقليل الاعتماد على الاقتراض الخارجي قصير ومتوسط الأجل بواسطة الحكومة، وبضمانها، وقصر الاقتراض متوسط الأجل في مدي أجل استحقاق أطول من 5 سنوات وتخفيض مستوي استخدام التسهيلات الائتمانية قصيرة الأجل للبنوك المراسلة (فقرة 18) . كما يتضمن الخطاب نية التخلص من المتأخرات السابقة بسرعة (فقرة 19).

ولعل أهم ما إحتواه خطاب النوايا و المتعلق بموضوع هذه الدراسة، التعهدات موضوع الفقرات 20 – 22 ، فالفقرة (20) تسلب مصر تماماً قدرتها وحريتها في تعديل نظام الصرف أو فرض قيود جديدة أو تشديد القائم منها على المدفوعات والتحويلات للمعاملات الدولية الجارية، كما تحرم عليها الدخول في أية اتفاقيات ثنائية للدفع، وإذا أخلت مصر بتعهداتها والتزاماتها الواردة في الفقرات 9 ، 11 ، 17 ، 18 ، 19 ، 20 ، فلن تستطع الحصول على أية موارد من الصندوق طبقاً لترتيب المساندة، كما أنها ملزمة بنص الفقرة 22 من خطاب النوايا بالاستجابة لطلب المدير المنتدب للصندوق بالتشاور متي رأي ذلك.( [7])

وجدير بالذكر في هذا المقام أن السياسات الاقتصادية التي طبقت وفقاً لهذا البرنامج وطبقاً لما ورد في خطاب النوايا (1976) كانت السبب الرئيس في انتفاضة الشعب المصري في 18 و19 يناير 1977. فقد كانت الاحتجاج العملي من جانب الجموع الغفيرة من الشعب على محاولة تحميلهم بعبء التكيف الاقتصادي المطلوب في إطار وصفة صندوق النقد الدولي. ففي إطار اتخاذ إجراءات تنفيذية لخطاب النوايا ... بعث " بول ديكي " ممثل صندوق النقد الدولي بالقاهرة – بمذكرة سرية وشخصية إلى الدكتور " زكي شافعي " وزير الاقتصاد – جعل عنوانها " بعض الأفكار حول مسألة الإصلاح الاقتصادي " وفي هذه المذكرة أوضح " ديكي " أن الحاجة أصبحت ماسة لبعض الإجراءات الحازمة، ومن ضمنها تخفيض سعر الجنية المصري ( ما أصبح يسمي تأدباً توحيد سعر الصرف)، إلى جانب رفع – أو تخفيض – الدعم على بعض السلع الضرورية التي كانت الحكومة لسنوات طويلة تقوم بدعمها لصالح سواد الشعب ( بين هذه السلع السكر والخبز والسكر والوقود وبعض أنواع الأقمشة الشعبية) إلى جانب ما تضمنه خطاب النوايا من تعهدات... وأدت مقترحات " ديكي " إلى شعور بالقلق العميق لدى الدكتور " زكي شافعي " وزملائه في المجموعة الاقتصادية داخل مجلس الوزراء، وأبدوا بعض الاعتراضات. وكان بين ما حاولوا شرحه لممثل صندوق النقد الدولي، أن مصر تحولت في حقيقة الأمر من دولة مصدرة إلى دولة مستوردة، فإذا جرى تخفيض قيمة الجنيه المصري، فمعني ذلك ببساطة أن فاتورة الواردات سوف ترتفع.

ولقد كانت الرعشة تصيبهم حين يتصورون ما يمكن أن يترتب على إلغاء الدعم من آثار. كان الدكتور "عبد المنعم البسيوني" - وهو من أنصار المدرسة الاقتصادية الكلاسيكية – خبيراً متمرساً بالمفاوضات مع الغرب، وكان هو في ذلك الوقت نائباً لرئيس الوزراء ومسؤولاً عن الشؤون الاقتصادية والمالية كرئيس للمجموعة الخاصة من الوزراء الذين يتصل عملهم بقضايا الاقتصاد والمال.

وقد بذل الدكتور " القيسوني " كل جهده لكي يفند مقترحات صندوق النقد الدولي، لكن الجميع ما لبثوا أن وجدوا أن ما قدمه ممثل صندوق النقد الدولي هو في واقع الحال " طلبات" وليس مجرد اقتراحات.

وعندما تسربت أخبار ما كان يجري في الكواليس إلى بعض الدوائر السياسية المهتمة في مصر، ثارت في مجلس الشعب زوبعة من الاحتجاج قادها بعض النواب المستقلين في مجلس الشعب في ذلك الوقت. لكن الضغوط على مجلس الوزراء وعلى المجموعة الاقتصادية كانت لا تقاوم. وهكذا جرت الموافقة في مجلس الوزراء على إلغاء الدعم عن بعض السلع تحت شعار " ترشيد الأسعار ".

وصدرت صحف يوم 17 يناير 1977 تحمل على صفحاتها الأولي قوائم بخمس وعشرين سلعة ضرورية قفزت أسعارها إلى أعلى مرة واحدة. كان رئيس الوزراء في ذلك الوقت هو " ممدوح سالم"، وهو ضابط شرطة ومحافظ الإسكندرية ووزير داخلية سابق. كان بحكم خبرته الطويلة في مسائل الأمن قد اتخذ بعض الاحتياطات التي وجدها ضرورية لتعزيز قوى الأمن في العاصمة، خصوصاً من قوات الأمن المركزي، ومع ذلك فقد شهد الصباح الباكر من يوم 18 يناير انفجاراً شعبياً هائلاً بدأ أولاً في الإسكندرية، وبعد قليل – ودون تنسيق – انفجر في القاهرة.

اندفعت إلى الشوارع في كل مكان كتل بشرية من عشرات ألوف الرجال والنساء في مظاهرات ساخطة صاخبة تعلن معارضتها القوية لقرارات انقضت على رؤوسهم مفاجئة كالصواعق، وكان من شأنها أن تجعل الحياة مستحيلة بالنسبة لهم ولأسرهم، ولم يكد النهار ينتصف حتى كانت المظاهرات تجتاح مصر من أقصاها إلى أقصاها، من الإسكندرية وحتى أسوان. مما أدى إلى إصدار الرئيس السادات أمراً بتدخل الجيش وأصدر قراراً بإعلان الأحكام العرفية وفرض حظر التجول وتكليف الجيش بمسئولية السيطرة على الموقف( [8]).

ولم تهدأ المظاهرات إلا بعد أن قررت الحكومة إيقاف قرارات المجموعة الاقتصادية بزيادة أسعار السلع الأساسية. وأعلنت الحكومة استمرار منح العلاوة التي كانت قد تقررت يوم 17 يناير. ورغم أن انتفاضة يناير 1977 حالت دون تطبيق " وصفة " صندوق النقد الدولي، فقد نشطت – في ذات الوقت – الاتصالات مع صندوق النقد والبنك الدولي ومع الدول العربية ومع الولايات المتحدة الأمريكية، وبدا أن السادات قد استثمر الانتفاضة، في كسب الدعم السياسي والاقتصادي العربي والغربي في آن معاً .

فقد سمحت هيئة الخليج ببدء استخدام مصر للقرض الأول (بقيمة 250 مليون دولار)، وأبرق، ويتفين، رئيس الصندوق معلناً القاهرة موافقته على تراجع الحكومة عن قرارات زيادة أسعار السلع الأساسية. وغادر جون جنتر واشنطن للقاهرة حاملاً معه تقرير للقيسوني يؤكد موافقة الصندوق على الاكتفاء بالإجراءات التي لم تلغ.

وفي نهاية زيارته أعلن أن بعثة الصندوق توافق على تقديم اتفاق مساندة يتضمن تقديم تسهيل ائتماني بقيمة 140 مليون دولار بشرط مواصلة الحكومة المصرية تنفيذ برنامج صندوق النقد... وكان ذلك في الأسبوع الأخير من شهر فبراير 1977.

وفي أول مارس جرت مفاوضات بين المجموعة الاقتصادية برئاسة القيسوني وبعثة صندوق النقد برئاسة وتيفين ووفد البنك الدولي برئاسة مكنمار. واستمرت المفاوضات ستة أيام اتفق معهم نائب رئيس الوزراء على مشروع خطاب نوايا مع الصندوق، ومشروع إعلان سياسة مع البنك يحددان ما تنوي مصر اتباعه من اجراءات([9]) . وقد صدر هذا الخطاب في يونيو 1978.

صدر هذا الخطاب في يونيو 1978 وهو يتضمن الحصول على تسهيل ممتد تبلع قيمته 600 مليون وحدة من حقوق السحب الخاصة لتنفيذ برنامجاً للإصلاح الهيكلي مدته ثلاث سنوات تغطي الفترة من 1979 – 1981.

ويقوم الإصلاح الهيكلي المتضمن في هذا الخطاب على دعائم أربع هي: القضاء على الاختلال بين الأسعار والنفقات، وتخفيض الدعم، وتشجيع الزراعة، وإطلاق حرية مشروعات القطاع العام في استئجار العمال. فبالنسبة للقضاء على الاختلال بين الأسعار والنفقات، ينص الخطاب على استمرار عملية ترشيد الأسعار خلال مدة البرنامج بهدف وضع عمليات شركات القطاع العام على أساس تجاري سليم ويتضمن هذا تعديل الأسعار المحددة "لتعكس نفقات الإنتاج بصورة أفضل" وبتحويل سلطة اتخاذ مجموعة عريضة من قرارات التسعير لمجالس إدارات الشركات (فقرة 5).

وبالنسبة لتخفيض الدعم، فالخطاب ينص على أن الحكومة تنوي جعل الإنفاق على الدعم ينمو بمعدل أقل كثيراً بالمقارنة بالإنفاق الحكومي الكلي في كل سنة من البرنامج (فقرة 7).

وبالنسبة لتشجيع الزراعة، فالبرنامج يؤكد على التوسع الرأسي بتحسين مرافق الري والصرف وتطوير خدمات الإرشاد الزراعي ومراجعة سياسات التسعير الزراعي وترشيد نظام التوزيع للمدخلات الزراعية (فقرة 6).

وبالنسبة لسياسة التوظف في الحكومة والقطاع العام: فإن البرنامج يؤكد على أن شركات القطاع العام أصبحت حرة في اتخاذ قراراتها الخاصة بالتشغيل، وعلي أنه مع حدوث تقدم في توفير فرص العمالة الحقيقية في القطاعات المنتجة، فسيكون من الممكن أيضاً إعطاء الهيئات الحكومية استقلالاً أكثر في هذا المجال (فقرة 9) . وهذا يعني أن حق العمل لن يكون أحد الأسس التي تقوم عليها سياسة التوظيف. وبالإضافة إلى الإصلاح الهيكلي، يتضمن الخطاب نوايا بالسياسات المزمع إتباعها في المجالات المختلفة، السياسة المالية، السياسات النقدية والائتمانية ، وأسعار الصرف والدين الخارجي ، وهي امتداد لنفس الخط الذي تضمنه خطاب النوايا في مايو 1976، في هذه المجالات وبالتالي لا داعي لتكرار ما سبق توضيحه بشأنه .

ولا يفوتنا في هذا المقام الإشارة إلى الدور الذي لعبه صندوق النقد الدولي في إطار المجموعة الاستشارية لمصر ، وكما ذكرنا، تكونت هذه المجموعة الاستشارية من الدول والمنظمات الدولية والإقليمية المعنية بتمويل التنمية وتقديم المساعدات لمصر. وقد عقدت اجتماعها الأول في مايو 1977 والثاني في يونيو 1978 ونلاحظ هنا توقيت الإجتماع الثاني بعد إصدار خطاب النوايا مباشرة . وفي هذا الاجتماع الثاني ألقي المدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي لعمليات الشرق الأوسط خطابا في المؤتمر جاء فيه " إن البرنامج الذي أعدته الحكومة المصرية للإصلاح الاقتصادي قد أقره صندوق النقد وتم الاتفاق بناء على ذلك .. وأن المشكلة لا يمكن أن تحل بين يوم وليلة ، بل إنها في حاجة إلى برنامج مستمر وإلى الاستمرار في إتباع سياسة اقتصادية حكيمة ، حتى تتمكن مصر من التغلب على عجز ميزان المدفوعات خلال ثلاث أو أربع سنوات ، كما أنه إذا طبقت مصر هذه السياسة ، فسوف يكون هذا مبرراً لحصولها على تسهيلات جديدة ".( [10])

والكلام واضح ولا يحتاج إلى تعليق ، إلا أن نذكر أن صندوق النقد الدولي يكون بذلك جبهة واحدة مع باقي مقدمي المساعدات والقروض . وبذلك يصبح ثمن عدم إلتزام مصر بتعهداتها فادحاً ، فلن تخسر فقط الموارد التي وعد بها الصندوق في إطار التسهيلات الممتدة ، بل إن باقي أعضاء المجموعة الاستشارية سوف يتبعون خطوات الصندوق ، وبذلك تصبح البدائل أمام مصر محدودة بالفعل.([11])

وإذا كان عام 1974، 1975 يمثلان بدء تكييف صندوق النقد للاقتصاد المصري مع بدء تدشين سياسة " الباب المفتوح " ، فإن الفترة من عام 1976 إلى عام 1987 قد شهدت تغلغل صندوق النقد عبر مسالكه الثلاثة معاً : الإقراض لعلاج العجز في ميزان المدفوعات ، ضمان تدفق قروض الحكومات والمصارف العالمية ، والتدخل لإعادة جدولة الديون بعد تفاقم متأخرات القروض والفوائد.

وفي هذا السياق ، بدأت الحكومة المصرية في تطبيق بعض الإجراءات الاقتصادية منذ عام 1984، والتي كانت تستهدف إظهار إلتزام مصر بالإصلاح ورغبتها في تطبيق توصيات صندوق النقد الدولي ومن ثم بدء حوار رسمي معه. وكان من بين تلك الإجراءات مضاعفة أسعار وسائل النقل، وزيادة أسعار استهلاك الكهرباء والبنزين واللجوء إلى إنتاج خبز متعدد الأنواع ومتفاوت الأسعار بدلاً من رفع سعره بصورة صريحة. إلى جانب ذلك إتجهت الحكومة المصرية في يناير 1985 إلى إتخاذ مجموعة من القرارات النقدية والإستيرادية التي إستهدفت ترشيد السياسات الإقتصادية القائمة ، وقد فجرت هذه القرارات مواجهة إجتماعية بين المستوردين وتجار العملة من ناحية، والحكومة من ناحية أخرى. الأمر الذي جعل الحكومة تتراجع عن تلك القرارات وهو ما كشف من ناحية أخرى عن عدم قدرة الحكومة على إتخاذ إجراءات فعالة لترشيد السياسة الاقتصادية القائمة.([12])

وإلى جانب مقاومة القطاع الخاص ، كان هناك السخط من جانب قطاعات كبيرة من الشعب ، والذي كشف عن نفسه في أكثر من مناسبة ، ففي نوفمبر 1984 ، عندما أعلنت الحكومة زيادة قدرها 30% في أسعار بعض السلع الغذائية تظاهر عمال كفر الدوار ، وكان على الحكومة أن تتراجع عن هذه الزيادات، بل وقامت بزيادة الدعم المخصص لميزانية 84 – 1985 ، كذلك فإنه في فبراير 1986، قامت مجموعة بسيطة من الشعب بجذب اهتمام عالمي عندما كشفت عن عدم رضائها عن أوضاعها المتردية، حيث قامت قوات الأمن المركزي بأعمال شغب وتمرد معبرة بذلك عن السخط السائد بين القطاعات الكادحة من الشعب المصري عن الأوضاع الاقتصادية السيئة التي نحيا في إطارها.([13])

وعلى صعيد آخر ، تباطأت عملية دفع الديون الخارجية حتى أنه بحلول شهر يونيو 1986 بلغت قيمة المتأخرات 4.30 بليون دولار وفرضت الولايات المتحدة الأمريكي عقوبةإضافية متمثلة في 4% على مدفوعاتها بسبب تخلف مصر عن دفع القروض الأمريكية ورفضت طلب مصر بتخفيض نسبة الفائدة على الديون العسكرية.

وهكذا تضافرت عوامل الأزمة الاقتصادية الحادة بملامحها المختلفة ، وفشل السياسات والإجراءات الاقتصادية الترشيدية التي اتخذت لمواجهتها ، والتوتر الداخلي الناتج عن تدهور الأوضاع الاقتصادية ، والتشدد الأمريكي إزاء قضية الديون ، فاتجهت مصر إلى مناشدة نادي الأصدقاء من أجل مساعدتها على مواجهة الأزمة الاقتصادية الحادة التي باتت تهدد قدرة مصر على دفع ثمن واردتها الأساسية ، إلا أن الأصدقاء أكدوا أن المساعدات الإضافية لمصر لن تكون مجدية ما لم تتخذ خطوات أساسية على طريق الإصلاح الاقتصادي ، وفي ضوء هذه الضغوط جميعها تحركت الحكومة نحو صندوق النقد الدولي ، ودخلت في مفاوضات مضنية مع رئيس بعثة الصندوق في مايو 1986 من أجل التوصل إلى إتفاق مع الصندوق يمكّنها من الحصول على مزيد من القروض من ناحية ويمهد لها الطريق لإعادة جدولة ديون باريس من ناحية أخرى . ( [14])

وقد وقعت حكومة مصر في مايو 1987 إتفاق مساندة مدته 18 شهراً مع الصندوق بعد أن استكملت المفاوضات حول " مسودة خطابه النوايا " في فبراير 1987 .[15]

في فبراير 1987 ، استكملت المفاوضات بين مصر وصندوق النقد الدولي حول " مسودة خطاب النوايا ". وتشير مقدمة مسودة الخطاب، إلى أن الحكومة استهدفت من خلال برنامجها للإصلاح الإقتصادي، زيادة دورآليات السوق وإعطاء دور متزايد لجهاز الأثمان في الإقتصاد والتحكم في التضخم من خلال تخفيضات فعالة في الإنفاق الحكومي مع زيادة إيرادات الدولة ، كما إستهدفت علاج العجز في ميزان المدفوعات عن طريق ترشيد واردات السلع الإستهلاكية وتشجيع الصادرات.

ثم تشير المسودة إلى الإجراءات التي إتخذتها الحكومة للإصلاح الاقتصادي مثل تقليل التعدد في أسعار صرف الجنيه وتقليل عدد السلع المدعمة من الدولة وزيادة أسعار البنزين والتعريفة الجمركية الجديدة.

ثم يتطرق " مشروع خطاب النوايا " إلى بيان الإجراءات المتفق عليها بين مصر والصندوق والمقرر أن تنفذها الحكومة في 18 شهراً تبدأ في 15 مايو 1987 والتي تنتهي في 30 نوفمبر 1988 وهي: في سياسة سعر الصرف : يؤكد المشروع " الاتجاه لسعر صرف حقيقي للجنيه المصري ، بتحويل تدريجي للمعاملات من مجمع البنوك التجارية إلى السوق الحرة ، لمنع التعدد في أسعار الصرف لتقليل الواردات وتشجيع الصادرات ويعتمد ذلك على دور نشط للبنوك التجارية تحت رقابة البنك المركزي المصري .

وفي السياسة النقدية والائتمانية : يشير إلى " زيادة تدريجية في أسعار الفائدة على الودائع بالبنوك وزيادة المدخرات " . وفي السياسة المالية حدد " خفض العجز في ميزانية الدولة من خلال خفض عدد السلع المدعمة بواسطة الدولة ، وخفض نسبته إلى الإنفاق العام للدولة في الميزانية ، والتحكم في الإنفاق الاستثماري للحكومة من خلال تشجيع القطاع الخاص ، بالإضافة إلى زيادة إيرادات الدولة من الضرائب من خلال الإصلاح الضريبي ، وتحرير أسعار المحاصيل الزراعية فيما عدا القطن وقصب السكر مع زيادة أسعار نصف إنتاج السكر إلى الأسعار العالمية ، وخفض حجم القروض المحلية للهيئات الحكومية وشركات القطاع العام وزيادة أسعار المنتجات البترولية والكهرباء لتقريب الأسعار المحلية من الأسعار العالمية .

وفيما يتعلق بسياسة الاقتراض تضمن المشروع ضرورة تقليل الاقتراض من الخارج ، وتحديد سقف للاقتراض السنوي ، والاتفاق مع الدول الدائنة الكبرى لإعادة جدولة الديون.

وبحصول مصر على شهادة الصندوق فإنها تمكنت من التفاوض مع أعضاء نادي باريس (مايو – يوليو 1987) والحصول على موافقتهم على إعادة جدولة ديونها المقدرة ب 12 بليون دولار ، كما تمكنت من الحصول على 500 مليون دولار في صورة قروض غربية . [16]

ومع نهاية الثمانينيات إحتاجت مصر مرة أخرى شهادة صندوق النقد الدولي لتذهب بها إلى نادي باريس لجدولة ديونها. وضغطت الدول المقدمة للمساعدات من أجل دفع مصر إلى عقد اتفاق مع صندوق النقد الدولي بالشروط التي يراها ملائمة ، فعلي سبيل المثال قامت الولايات المتحدة بتجميد المعونة النقدية عن عامي 88 – 1989 والبالغة 230 مليون دولار (115 عن كل عام) ، والتى قررت عام 1987 تخصيصها بغرض تحقيق الإستقرار الإقتصادي في مصر وتشجيع الإصلاح ومواجهة أزمة المدفوعات.

وقد طالب الكونجرس بأن يتم منح المعونة النقدية مقابل إتخاذ خطوات سريعة في اتجاه الإصلاح الإقتصادي. وقد ربط تصريح المتحدث الرسمي الأمريكي الذي أعلن قرار تجميد المعونة بين إستمرار المعونة النقدية، وتوقيع مصر لإتفاق مع صندوق النقد الدولي، بما يعد سابقة علنية جديدة للتنسيق بين الإدارة الأمريكية ومؤسسات التمويل الدولية بهدف ممارسة أقصى ضغوط على مصر لقبول شروط صندوق النقد الدولي بأقصي سرعة ممكنة.( [17])

وهكذا وفي ضوء تلك الأوضاع الاقتصادية – السياسية : أزمة اقتصادية حادة، ومتأخرات متراكمة، وإصرار الدول الدائنة على الإصلاح أولاً وضغوط أمريكية شديدة، اتضح مأزق الإصلاح التدريجي والجزئي وفي ضوء ذلك أصبح حتمياً طبقاً للمنهج الذي تبنته الحكومة المصرية تبني برنامج الإصلاح الجذري والشامل طبقاً لأجندة صندوق النقد الدولي وروشتته وتصوراته ، ومن ثم بدأت نغمة رسمية جديدة تنبئ عن تحول أكثر راديكالية في السياسة الاقتصادية لمصر وبدأت الصحف القومية في عرض المشكلات الاقتصادية بشكل يومي وأخذت تظهر عناوين غير معتادة فبرزت إشارات إلى أنه لم يعد هناك طريق ممكن سوي تبني برنامج متكامل لإعادة هيكلة الاقتصاد.([18])
[1]د0 جوده عبد الخالق :ـ مصر وصندوق النقد الدولى ـ آليات التبعية فى التطبيق ـ ، قضايا فكرية ، الكتاب الثانى ، دار الثقافة الجديدة ، القاهرة ، ط1 ، ص 152
[2] ـ عادل حسين :ـ نحو فكر عربى جديد ، دار المستقبل العربى ، القاهرة ، ط1 ، 1985 ، ص 131 0 و للمزيد حول هذا الموضوع أنظر : عادل حسين ، صندوق النقد الدولى و الانفتاح ، منشور فى : الانفتاح ـ الجذور و الحصاد و المستقبل ، المكتب العربى للبحث و النشر ، القاهرة ، 1982
[3] ـ د0 جوده عبد الخالق ، مرجع سابق ، ص 152
[4] ـ د0 جوده عبد الخالق ، مصر و صندوق النقد الدولى ـ آليات التبعية فى التطبيق ، مرجع سابق ، ص 153
[5] ـ أنظر الملحقين المنشورين فى المرجع السابق
[6] ـ د0 جوده عبد الخالق ، المرجع السابق ، ص 153

[7] ـ د0 جوده عبد الخالق ، السابق ، ص 154
[8] ـ الاستاذ : محمد حسنين هيكل :ـ خريف الغضـب ، شركة المطبوعات للتوزيع و النشر ، بيروت ، الطبعة الثالثة عشر ، 1986 ، ص 219ـ 223
[9] ـ رضا هلال :ـ صناعــة التبعية ، دار المستقبل العربى ، القاهرة ، ط1 ، 1987 ، ص 104
[10] ـ بيان نائب رئيس مجلس الوزراء للشئون المالية و الاقتصادية عن الاتفاقية التى تمت مع بعثة صندوق النقد الدولى و القرض المقدم من هيئة الخليج للتنمية فى مصر ، مجلس الشعب ، الفصل التشريعى الثانى ، دور الانعقاد الاول ، مضبطة الجلسة الحادية و الخمسين ، مساء السبت ، 10 جمادى الاول 1397هـ
[11] ـ د0 جوده عبد الخالق ، مرجع سابق ، ص 156 ـ157
[12] ـ د0 زينب عبد العظيم محمد ، صندوق النقد الدولى و الاصلاح الاقتصادى فى الدول النامية ، كتاب الاهرام الاقتصادى ، القاهرة ، العدد 143 ، ديسمبر 1999 ، ط1 ، ص 139
[13] ـ د0 زينب عبد العظيم :ـ الاقتصاد السياسى لعلاقة مصر بصندوق النقد الدولى من اتفاق 1987 الى اتفاق 1991 ، منشور فى : عالية المهدى "محرر" ، شركاء فى التنمية ، مرجع سابق ص 140
[14] ـ د0 زينب عبد العظيم :ـ صندوق النقد الدولى و الاصلاح الاقتصادى فى الدول النامية ، مرجع سابق ، ص 140
[15] ـ رضا هلال :ـ مشروع خطاب النوايا مع صندوق النقد الدولى ، الأهرام الاقتصادى ، القاهرة ، العدد 943 ، 9 فبراير1987
[16] ـ النص الكامل منشور فى :ـ رضا هلال ، صناعة التبعية ، مرجع سابق ، من ص 240 الى ص 243
[17] ـ د0 زينب عبد العظيم محمد :ـ صندوق النقد الدولى و الاصلاح الاقتصادى فى الدول النامية ، مرجع سابق ، ص 145
[18] ـ المرجع السابق ، ص 146

التعليقات