أما زالت مكة المكرمة مقدسةً وبلداً حراماً؟! / خـالـد خـواجـا (*)

تغرق مدن كبرى مثل جدة والرياض ولا يُحاسب أي أمير مسؤول في بلد يبيع ما يزيد على مليار دولار يومياً من النفط، ناهيك عن الربح السنوي من سياحة الحج والعمرة فقط، والتي تقدر بـِ 50 مليار دولار سنوياً

أما زالت مكة المكرمة مقدسةً وبلداً حراماً؟! / خـالـد خـواجـا (*)

يا فقراء العرب وبؤساء المسلمين ارحلوا لكن بـِ (one way ticket)

 

عاماً وراء عام وعبر توالي الأيام والأشهر يتدفق ملايين الحجاج الأتقياء والورعة ويحلّون ضيوفاً على بيت الرحمن، ونزلاء في فنادق مكة المكرمة العديدة. 

لكن في الآونة الأخيرة أصبح نزلاء أحدث وأكبر فندق في تلك المدينة المقدسة من الزبائن المختلفين.
فبعد أشهر فقط من افتتاح مركز الشميسي للترحيل والإجلاء بلغ تعداد نزلائه ما يزيد على 20،000 من اليمنيين والأثيوبيين والإندونيسيين والمصريين والمواطنين ومن جنسيات أخرى- ليس بينهم شخص واحد من جنسيات غربية ـ وبلغ عدد ما يقرب نصفهم من النساء.

نزلاء الفندق الجديد والضخم (مركز الشميسي للترحيل) هم من الزبائن الفقراء فقط، لذلك لا يتم توفير خدمات فندقية عالية الجودة لهم خاصة وأنهم من فئة سياحة الترانزيت، بمعنى أن إقامتهم في المركز هي لوقت قصير جداً، قبيل تحميلهم وتسفيرهم إلى بلدانهم بتذكرة ذهاب فقط "One way" ليلحقوا بالمُهَجّرين الذين سبقوهم خلال الأشهر الماضية، والذين يمثلون نسبة 10% من العمال الأجانب البالغ عددهم 9 ملايين عامل تقريباً في المملكة.

وقد ازداد خلال الشهر الجاري (تشرين الثاني 2013) عدد مَن هم بإنتظارالترحيل بشكل كبير جداً. فقد انتهت بتاريخ 04/11/2013  مدة العفو الذي  كان يهدف الى السماح للعمال المهاجرين بترتيب إقاماتهم مع ما يتناسب والقوانين الجديدة الصارمة للعمالة الأجنبية في المملكة.

منذ ذلك الحين، شنت الشرطة السعودية حملات مداهمة لمواقع العمل والمناطق التي يعيش فيها العمال الأجانب. وسَلّم آلاف من هؤلاء العمال أنفسهم طوعاً للسلطات، والبعض منهم خيم في الأماكن العامة مع أمتعتهم بإنتظار القبض عليهم و ترحيلهم مجاناً.

لكن آخرين فضلوا مقاومة قوانين التعسف مما أثار أعمال شغب "طفيفة"! أدت إلى مقتل شخصين وبعض الإصابات بين السكان الأثيوبيين يوم العاشر من تشرين الثاني، في إثر مداهمة الشرطة للأحياء الفقيرة في العاصمة الرياض .

كما تسببت الحملة الحكومية الجديدة في اضطرابات أخرى. فقد قام ما يقرب من 6،000 عامل بنغلاديشي من عمال النظافة في مكة المكرمة بالإضراب عن العمل لمدة استمرت خمسة أيام احتجاجا على المضايقات من قبل سلطات الهجرة وكذلك على عدم تسلمهم الأجور وظروف عملهم السيئة والقاسية.

من المعروف أن عمال قطاعات الأعمال اليدوية المتعِبة وقليلة الأجر التي لا تتطلب مهارات عالية في المملكة يشغلها عمال من دول إفريقية وشرق آسيوية في المعظم. وهؤلاء أصبحوا في إثر هذه الحملة من قبل السلطات يتخوفون من الذهاب لأماكن عملهم، مما شلّ أو أوقف بشكل شبه تام بعض قطاعات الخدمات الحيوية مثل إيصال المياه ونظافة الشوارع والضخ من خزانات الصرف الصحي وغسل جثث الموتى... وما إلى ذلك من قطاعات خدماتية أساسية في السعودية. وتوقفت حركة الدوران الطبيعي المعتادة في المراكز التجارية والأسواق أو انخفضت المعاملات التجارية بشكل كبير. وبحسب ما ذكرته الصحيفة السعودية اليومية "المدينة المنورة" فإن أكثر من نصف الشركات المسجلة في قطاع البناء والإنشاء البالغ عدها 200،000 قد أغلقت وتوقفت عن العمل مؤقتا.

وهناك مشاكل مماثلة ظهرت في المملكة عندما بدأت السلطات بالعمل وتطبيق القوانين على أساس القواعد الجديدة للعمل والعمال والتي بدأت ـ متسرعة ـ بمحاولة تطبيقها في الربيع الماضي، عقب الاضطرابات.

في حينه اضطرت السلطات إلى اتخاذ قرار متسرع جديد يتمثل في إعلان عفو وتأجيل العمل بالقوانين الجديدة لمدة سبعة أشهر. لكن هذه المرة يبدو أن السلطات السعودية مصممة على إنهاء المهمة ولن تمنح أي عفو جديد.

إن الحملة والقوانين الجديدة كما أعلنتها الحكومة السعودية ترمي إلى هدفين معلنين على حد سواء:

أولاً، تنظيم تدفق الهجرة إلى المملكة الغنية بالنفط وبأماكن السياحة الدينية؛
ثانياً، فتح فرص العمل أمام العمال السعوديين العاطلين عن العمل.

لكن الحملة جاءت وبوضوح كجزء من حملة طويلة الأمد نحو "السَعْوَدَة" في سوق العمل المشوهة في المملكة أصلاً.

وقد شملت الحملة قوانين جديدة في كثير من الأمور أذكر منها ما يلي:

1 ـ فرض الحصص القسرية أو ما يعرف بالكوتات على الشركات وأرباب العمل في بعض القطاعات لرفع نسبة العمالة السعودية مقابل العمالة الوافدة؛
2ـ فرض حظر على الأجانب في بعض المهن لتشجيع المواطنين على امتهانها؛
3ـ فرض إجراءات صارمة على الشركات التي تُزوّد السوق المحلية بالعمالة المستوردة والتي تمثل ثلثي إجمالي القوى العاملة في كافة مجالات العمل، ونسبة أعلى بكثير في القطاع الخاص .

هذه الإجراءات تهدف الى خفض معدل البطالة في المملكة المقدرة رسميا بِـ 13% ولكن في الواقع يعتقد أن تكون النسبة أكثر من 30% بين الشباب السعودي.

إن الاعتقاد لدى السلطات بأن ترهيب وترحيل الأيدي العاملة الأجنبية من شأنه أن يخلي ويوجِد نظريا وظائف للمواطنين هو أمر مشكوك في صحة نتائجه.

فمن المرجح أن يرفض الشباب السعودي العمل في الأعمال التي يقوم بها عمال أجانب غالبيتهم من دول فقيرة، على الأقل لأن الأجور في هذه الحالة متدنية وظروف العمل قاسية جداً، زد على ذلك أن العقلية المجتمعية السعودية والعادات السائدة بين السعوديين البالغ عدهم 19 مليون نسمة تعتبر أنه من المعيب اجتماعياً على السعودي العمل في مثل هذه الأعمال الخدمية والمهن اليدوية التي يقوم بها (خدم لا أسياد).

لكن بعض الاقتصاديين يتوقع فوائد ونتائج لهذه الحملة على المدى الطويل. فنقص العرض في العمالة مقابل ارتفاع الطلب في حاجة السوق حتمية نتيجة لحملة الترحيل القسرية للعمال الأجانب، وسوف يؤدي ذلك إلى زيادة إجمالية في تكاليف العمالة، وبالتالي زيادة الأجور للعمال مما قد يجعل السعوديين أكثر انجذاباً وأقل رهبةً وخوفاً  للعمل بهذه الوظائف "دنيئة المستوى".

منتقدو الحملة يؤكدون أن الأهداف المرجوة من وراء الحملة يمكن تحقيقها عبر أساليب أقل قمعية وأقل حدة من قبل الشرطة. فقد تراجعت نسبة عدد العمال المخالفين للقوانين السعودية بسبب وعيهم وحسن نيتهم، وليس بسبب الخوف وعدم عدالة نظام التأشيرة المرتبط بنظام الكفالة في المملكة و دول خليجية أخرى.

ونظام الكفيل هذا يتطلب من كل وافد أجنبي أن يكون لديه كفيل سعودي مواطن، يمنحه شرعية طلب التأشيرة للدخول والعمل في السوق السعودية، ويطلب المواطن الكفيل من المهاجر المكفول مبلغا من المال سنوياً يتقاضاه مقابل خدمة الكفالة التي يمنحها كغطاء قانوني للوافد (المكفول). وفي كثير من الأحيان نجد أن نظام الكفالة هذا يخلق مخالفات قانونية قد تجرّم الوافد أو المكفول والكفيل معاً، لأن الكفيل يقوم بتوظيف الوافد اسمياً بشركات وهمية وغير قانونية عند تقديم طلب الكفالة للسلطة المعنية من أجل التأشيرة والإقامة لكن المكفول يعمل في الحقيقة في مهنة ووظيفة أو شركة أخرى، وغير المعلنة وربما لا تكون مرتبطة بالكفيل أصلاً، كما تنص عليه القوانين المنظمة لتأشيرة الدخول إلى السعودية.

لم يكن مجموع هذه القوانين المنظِمة لتأشيرات ودخول الأجانب باهظة ومكلفة جنائياً للمخالفين فقط، بل إنها تسببت في صناعة وإيجاد لوبي قوي من السعوديين المستفيدين من وجودها يقاوم محاولات إصلاحها وتحديثها. كما أنها لا تساعد أجيالا من السعوديين اعتادوا على أن تخدمهم طبقة دنيا مطواعة ليس لها سوى حقوق قليلة.

فعلى سبيل المثال، معظم الأسر السعودية يعتبرون أن وجود خادمة منزلية (وافدة) ضرورة وليس ترفاً، وكذلك بالنسبة لوجود سائق (وافد) حيث تمنع النساء من قيادة السيارات في السعودية.

وحتى وقت قريب جداً، قامت بعض مكاتب الخدمات لأصحابها السعوديين بنشر إعلانات التوظيف في السعودية  لسيريلانكيين وسودانيين أو فلبينيين وبكل جرأة برغم القوانين الجديدة الأكثر صرامة.

الهجرة من أجل العمل إلى السعودية لن تكون من الأمور السهلة في المستقبل، ومن المرجح أن ترتفع الأجور التي سوف يدفعها السعوديون.

ومع ذلك، فإن معظم السعوديين يؤيدون الحملة ضد العمال الأجانب على ما يبدو. فقد قام مواطنون بمساعدة الشرطة بإلقاء القبض على بعض المشتبه بهم من الفقراء الوافدين والمقيمين ربما بطريقة غير شرعية، مما يدل على ضغينة خاصة تجاه هؤلاء الفقراء الأجانب وخاصة تجاه الأثيوبيين "غوغائيي السمعة"، كما جاء في حديثٍ أوردته صحيفة عرب نيوز اليومية باللغة الانكليزية ونسبته لأروة هلال وهي سيدة وأم سعودية عاملة :"لقد استأجرتُ خادمات من جنسيات مختلفة، ولكن عليّ القول بأن الأثيوبيات هن الأكثر غطرسة وعناداً. امتلكت خادمتين أثيوبيتين سابقا وكان من الصعب جدا التعامل مع كلتيهما، فقد كانتا تجيبان بنفس الكلمات التي كنا نوبخهما بها دائما على الرغم من أننا كنا ندفع أجورهما في الوقت المحدد!".

ربما في الأشهر القليلة القادمة سوف نشهد استبدال عمال بعض الجنسيات في السعودية بعمال من جنسيات أخرى، ربما يكونون أكثر فقراً وبؤساً وأقل أجراً... أو ربما تستطيع حكومة السعودية من خلال القوانين الجديدة أن توجه انتباه شعبها وسخطه على مشاكل الهجرة عوضاً عن الانتباه إلى مشاكل البنية التحتية غير الصالحة أو غير الموجودة في الأصل والتي أصبحنا نشاهدها تكراراً مع بدء فصل الأمطار، حيث تغرق مدن كبرى مثل جدة والرياض ولا يُحاسب أي أمير مسؤول عن التقصير في بناء بنية تحتية تحمي الأرواح من الغرق في بلد يبيع وعلى مدار أيام السنة ومنذ أكثر من 13 عاماً متتالية ما يزيد على مليار دولار يومياً من النفط، ناهيك عن الربح السنوي من سياحة الحج والعمرة فقط، والتي تقدر بـِ 50 مليار دولار سنوياً. 

فأين هي أموال العرب؟؟
 

التعليقات