كيف يعلَن عن حالات الركود في الولايات المتحدة الأميركيّة؟

وفقًا للخبراء الاقتصاديين هناك العديد من المؤشرات التي تشير للركود، من ضمنهما الإنفاق الاستهلاكي ومزاج المستهلكين وكلاهما مقياسان رئيسيان يجب مراقبتهما، خاصة إذا قل شراء الأميركيين للسلع الثانوية، مثل الأرائك أو السيارات الجديدة

كيف يعلَن عن حالات الركود في الولايات المتحدة الأميركيّة؟

(توضيحية - Getty Images)

يتوقّع الخبراء الاقتصاديون دخول الولايات المتحدة الأميركية في فترة ركود في غضون العام المقبل، بل وجدت استطلاعات رأي أن بعض الأميركيين يرون بأننا نمرّ بفترة ركود حاليًا، ولكن بغض النظر عن التوقعات المتشائمة والمزاج المتوتر بين الأميركيين، فقد يستغرق الأمر بعض الوقت قبل أن نعرف بالفعل ما إذا كان الاقتصاد في حالة ركود أم لا.

ووفقًا لجوش بيفنز، مدير الأبحاث في معهد السياسات الاقتصادية ذي الميول اليسارية، فإننا "نعرف أننا في فترة ركود عندما نكون في خضمها أو على وشك الخروج منها". وتعلن لجنة مكونة من ثمانية خبراء اقتصاديين في المكتب القومي للبحوث الاقتصادية (NBER) رسميا، عن حالات الركود في الولايات المتحدة، ويتطلب الإعلان عادة نحو سنة، وإن كان لا يوجد جدول زمني معين يتبعونه، هناك بعض القواعد الأساسية مثل ربعين من الناتج المحلي الإجمالي السلبي، ولكن هذه ليست قواعد ثابتة وجميعها استرجاعية لا استشرافية.

وتزايدت المخاوف من الركود مع رفع الاحتياطي الفدرالي (البنك المركزي الأميركي) أسعار الفائدة لتهدئة طلب المستهلكين وترويض وتيرة التضخم الأكثر تسارعًا منذ أربعة عقود، وارتفعت الأسعار بأكثر من 8 في المئة عن العام الماضي وفقا لبعض التقديرات، مما يصعب على الأميركيين شراء الاحتياجات الأساسية من مواد غذائية وقود، لكن يتفق العديد من الاقتصاديين على أن البلاد ليست في حالة ركود بعد، على الرغم من وجود بعض العلامات المقلقة.

ما زال الاقتصاد مرنًا إلى حد بعيد من عدة مقاييس، ففي حزيران/ يونيو الماضي، طرح أرباب العمل 372،000 وظيفة جديدة إلى الاقتصاد، ورافق ذلك انخفاض طفيف لفرص العمل، ولكن مع وجود 11.3 مليون وظيفة مطروحة إجمالًا في السوق، لا تزال هذه المعدلات أعلى بكثير من مستويات ما قبل الجائحة. مع استمرار نموّ الأجور في بعض القطاعات، كما أن مطالبات البطالة الجديدة منخفضة، إذ يبلغ معدل البطالة 3.6 في المئة، وهو أعلى قليلا من مستواه قبل الجائحة، الذي وصل لأدنى مستوى له منذ 50 عاما.

(Getty Images)

وعلّقت ويندي إدلبرغ، مديرة مشروع هاميلتون في معهد "بروكينغز"، بشأن معدل البطالة، بالقول إنه "من الواضح أن الرقم متدنٍ". وأضافت: "عليه أنه يتدنى أكثر حتى أقلق على سوق العمل".

ويأمل المسؤولون الفدراليون تحقيق "هبوط ناعم"، أي إضعاف الطلب وخفض التضخم، بدون إلقاء سوق العمل في حالة من الاضطراب، مع صعوبة تحقيق هذا التوازن، لأن تباطؤ الطلب عادة ما يأتي مع ارتفاع البطالة لانخفاض الإنفاق الاستهلاكي وتقليص الشركات للإنتاج والتوظيف، حسبما ترى أستاذة الاقتصاد في جامعة جورج واشنطن، تارا سنكلير.

دعونا لا ننسى صعوبة هذا التحدي الكبير، خاصة أن الاحتياطي الفدرالي لا يمتلك سجلًا قويًا في تحقيق هبوط ناعم في ظلّ تضخم مرتفع كما هو عليه الآن، وتدني مزاج المستهلكين إلى مستويات قياسية، فإذا ما رأى المستهلكون أنهم قد يفقدون وظائفهم سيتراجع إنفاقهم بحدة، مما سيضر بالنمو الاقتصادي إجمالًا.

وعليه، كيف نعرف فترة الركود قبل صدور الإعلان الرسمي للمكتب القومي للبحوث الاقتصادية؟

التعريف غير الرسمي للركود هو ربعان متتاليان من انخفاض الناتج المحلي الإجمالي، أي إن الاقتصاد يتقلص بدل أن ينمو، وقد انكمش الاقتصاد في الربع الأول من عام 2022 بعد فترة قوية من النمو في الربع الأخير من عام 2021.

ولكن، حتى لو أظهر تقرير الناتج المحلي الإجمالي التالي، انخفاضا في الربع الثاني، فإن العديد من الاقتصاديين قد لا يعتبرون ذلك ركودا لأن سوق العمل لا يزال قويا. وعلى الرغم من أن معظم حالات الركود التي حددها المكتب القومي للبحوث الاقتصادية تفي بهذا المعيار، إلا أن بعضها لا يفي بذلك؛ ففي عام 2001، على سبيل المثال، انخفض الناتج المحلي الإجمالي في الربع الأول، ونما في الربع الثاني، ثم انخفض مرة أخرى في الربع الثالث.

ووفقًا للخبراء الاقتصاديين هناك العديد من المؤشرات التي تشير للركود، من ضمنهما الإنفاق الاستهلاكي ومزاج المستهلكين وكلاهما مقياسان رئيسيان يجب مراقبتهما، خاصة إذا قل شراء الأميركيين للسلع الثانوية، مثل الأرائك أو السيارات الجديدة. وتشير بعض هذه المقاييس إلى أن الاقتصاد ربما بدأ يستقر، فقد ارتفع الإنفاق الاستهلاكي بنسبة 0.2 في المئة في أيار/ مايو، و أظهرت مبيعات التجزئة علامات طفيفة على الضعف، كما وجد استطلاع حديث أجراه مجلس المؤتمرات أن ثقة المستهلك قد انخفضت إلى أدنى مستوى لها منذ شباط/ فبراير 2021، ولكن كان الإنفاق الاستهلاكي إجمالًا قويا نسبيا.

(Getty Images)

وتتسم فترات الركود أيضا بحملات تسريح واسعة للأيدي العاملة، يرافقها ارتفاع كبير في معدلات البطالة، وتصبح مطالبات التأمين ضد البطالة مقياسًا جيدًا حينها وفقًا للاقتصاديين، لأن الحكومة الفدرالية تصدر بيانات جديدة أسبوعيا، فإذا طالب عدد أكبر من الأشخاص بإعانات البطالة فذلك مؤشرٌ على أن سوق العمل بدأ يتباطأ، لكن وفقا لهذا المعيار، لا تبدو الأمور سيئة للغاية؛ إذ لا يزال سوق العمل يطرح وظائف جديدة بدون ارتفاع في مطالبات البطالة.

يشير العديد من الاقتصاديين أيضا إلى قاعدة Sahm، التي تقيس ما إذا كان معدل البطالة ارتفع بحدة أم لا، إذ تنص القاعدة على أن الركود مشروط بارتفاع متوسط معدل البطالة لمدة ثلاثة أشهر بمقدار نصف نقطة مئوية فوق أدنى مستوى لها خلال الأشهر الـ12 الماضية، ومعدل البطالة القومي الحالي البالغ 3.6 في المئة منخفض، كما كان في العام الماضي، لذلك سيتم تفعيل القاعدة إذا ارتفع متوسط ثلاثة أشهر إلى 4.1 في المئة. وتنسب القاعدة لكلوديا ساهم، وهي خبيرة اقتصادية سابقة في الاحتياطي الفدرالي، وقد أخبرتنا بأن الولايات المتحدة ليست في حالة ركود حاليًا.

هناك أيضًا جانب اجتماعي تاريخي يمكن النظر إليه، إذ يشير خبراء اقتصاديون إلى أن العمال السود واللاتينيين سيتحملون العبء الأكبر أولا، وسيكونون أكثر عرضة لفقدان وظائفهم، كما أن العمال الأصغر سنا، والأشخاص من ذوي المستويات التعليمية المنخفضة، والعمال من ذوي السجلات الجنائية؛ سيتضررون بشدة لأن أرباب العمل سيتخلصون منهم أولًا.

وأضافت ساهم في هذا الجانب: "في الوقت الحالي، لا يزال أصحاب العمل يبحثون عن عمال، ويوظفون أشخاصا ممن لا يوظفونهم في العادة". كما يمكن للصناعات الحساسة لعمليات رفع أسعار الفائدة، مثل الإسكان والتصنيع، أن تشهد أيضا انكماشا أكثر حدة أولا، قبل أن تمتد الآثار إلى قطاعات أخرى.

(Getty Images)

والأمر لا يتعلق بتسريح العمال فقط، فمع تقلص فرص العمل، سيصعب على الأميركيين تغيير وظائفهم إذا كانوا غير راضين عن حياتهم المهنية، وهي ظاهرة انتشرت خلال الجائحة في ظل ارتفاع الطلب على الأيدي العاملة. وقد يكون من الصعب أيضا، الحصول على زيادة في الأجور إذا خفّض أصحاب العمل التكاليف، وقد يكافح الموظفون بدوام جزئي للعمل لساعات أطول، كما قد تفقد إنجازات النقابات زخمها. وقالت ساهم: "لا يمكن للعائلات شراء ما تحتاجه لإطعام أطفالها أو الاحتفاظ بشققها... والشركات الصغيرة تنهار لغياب العملاء، الركود يغير كل شيء ما إن يبدأ".

متى يُعلن عن حالات الركود رسميًّا؟

إذا فقدت قطاعات واسعة من الأميركيين وظائفهم ومصادر دخلهم، يصبح الإعلان الرسمي ثانويًا لدى الجميع، ولكن علينا أن نفهم هذه العملية وخطواتها، إذ تنظر لجنة المكتب القومي للبحوث الاقتصادية، المعروفة باسم لجنة مواعيد دورة الأعمال، لمجموعة واسعة من العوامل. وتعرف المجموعة الركود رسميًا بأنه "انخفاض كبير في النشاط الاقتصادي المنتشر في جميع أنحاء الاقتصاد والذي يستمر لأكثر من بضعة أشهر".

لا تسارع اللجنة عادةً للإعلان عن بدء الركود، نظرا لوجود تأخير في الإبلاغ عن البيانات الفدرالية، كما يستغرق الأمر بعض الوقت لتحليل الأرقام، التي غالبا ما تخضع لعدة مراجعات، مما يجعل تحديد حالات الركود في خضمها أصعب.

قال جيفري فرانكل، العضو السابق في اللجنة وأستاذ الاقتصاد في كلية كينيدي بجامعة هارفارد: "ليست السرعة هدفهم، ولا أن يعلنوا أولًا عن الركود". وأضاف أن "مهمة اللجنة الإعلان بطريقة موثوقة للغاية لدرجة لا نحتاج فيها لأية مراجعة بعدهم".

(Getty Images)

وأعلنت اللجنة عن بدء الركود الأخير بسرعة نسبية، بعد نحو أربعة أشهر من بدئه في شباط/ فبراير 2020، وقد يكون السبب ارتفاع البطالة والوضع الاقتصادي المتردي بالإضافة للحالة الاستثنائية للجائحة. أما في أواقات مثل الركود العظيم في عام 2008، فقد استغرقت اللجنة نحو عام لإعلان بداية الركود.

وتنظر اللجنة عند اتخاذ قرارها في مؤشرات مثل مستويات التوظيف والناتج المحلي الإجمالي والدخل الشخصي ومبيعات التجزئة والإنتاج الصناعي، وقال فرانكل إن معظم هذه المؤشرات تبدو قوية في الوقت الحالي. كما توقع بعض الاقتصاديين أنه إذا دخلت البلاد في ركود في العام المقبل، فقد يكون معتدلا نسبيا، أو قصير الأجل، قد يؤخر الإعلان، وأضاف فرانكل: "في الحالات المعتدلة اقتصاديا، يصعبُ بالفعل معرفة ما يجري".

هناك علامات مقلقة... لكن الركود ليس حتميًّا

لا أحد يعرف حقا ما إذا كنا نتجه نحو ركود أم لا، ولكن هناك قلق متزايد لدى الاقتصاديين وأهل الاختصاص، خاصة في ضوء تحركات سياسة بنك الاحتياطي الفدرالي الأخيرة. وقال كبير الاقتصاديين في وكالة "موديز أناليتيكس"، مارك زاندي، إنه يتوقع ركودًا بنسبة 40% تقريبا في العام المقبل، لكن أشار لبعض الجوانب المتفائلة مثل نسب التوظيف المرتفعة، وقوة الموارد المالية للأسَر، لأن الأميركيين راكموا مدخرات خلال الجائحة. ووضح زاندي أن ثقة المستهلك في الاقتصاد ضعفت أيضا في الآونة الأخيرة، "لكنها لا تظهر أي علامات على السقوط من الهاوية".

وتتوقع كارين دينان، أستاذة الاقتصاد في جامعة "هارفارد"، وكبيرة الاقتصاديين السابقة في وزارة المالية، حدوث ركود في الأشهر المقبلة، لكنها قالت إنه قد يكون قصير الأجل نسبيا، لأن العديد من الشروط الاقتصادية الأساسية لا تزال قوية، وأوضحت دينان أنه "إذا حدث ركود، لا أرى أننا سنتجه نحو نسبة بطالة عالية... من المرجح أن تكون فترة قصيرة".

(Getty Images)

وقد أوضح رئيس بنك الاحتياطي الفدرالي، جيروم باول، أن البنك المركزي ملتزم بخفض التضخم، حتى مع المخاطرة بحدوث ركود قادم، لمنع حدوث وضع أسوأ لاحقًا. وأظهر محضر أحد الاجتماعات الأخيرة لمجلس الاحتياطي الاتحادي أن مسؤولي البنك المركزي قلقون من أن التضخم أصبح راسخا في الاقتصاد، مما دفع قرارهم برفع أسعار الفائدة بقوة.

وفي حين يعتقد بعض الاقتصاديين أن بنك الاحتياطي الفدرالي سيتدخل بسرعة ويتراجع عن رفع أسعار الفائدة إذا تراجع سوق العمل، فإن آخرين أقل تفاؤلا.

علّق الخبير الاقتصادي في معهد السياسات الاقتصادية، جوش بيفينز، بالقول: "هل أنا متأكد من أنهم سيحفزون الاقتصاد عند أي علامة لركود؟ لست واثقا من ذلك". وأضاف: "يتوجب عليهم فعل ذلك، لكنني لا أثق بأنهم سيفعلون".


* كاتبة المقالة؛ مادلين نغو، التي يركّز عملها على المواضيع المتعلّقة بالسياسات الاقتصاديّة.

التعليقات