لا تزال أزمة الديون تعصف بالمجتمع الأميركيّ، منذ أعلنت وزارة الخزانة في تشرين الأوّل/أكتوبر الماضي إنّ عجز الميزانيّة ارتفع إلى 1.833 تريليون دولار في السنة الماليّة 2024، وهو أعلى مستوى بعد مرحلة جائحة كوفيد - 19. لتنفق الحكومة، مرّة أخرى، أكثر بكثير ممّا جمعته من إيرادات.
ويعدّ هذا العجز ثالث أكبر عجز فيدراليّ في تاريخ الولايات المتّحدة، بعد العجز الناجم عن الإغاثة من الوباء والّذي بلغ 3.132 تريليون دولار في السنة الماليّة 2020 و2.772 تريليون دولار في السنة الماليّة 2021.
وكان العجز في السنة الماليّة 2023 قد انخفض بفضل إلغاء 330 مليار دولار من التكاليف المرتبطة ببرنامج قروض الطلّاب الّذي أطلقه الرئيس جو بايدن بعد أن أبطلته المحكمة العليا الأميركيّة. وكان العجز سيتجاوز 2 تريليون دولار لولا تلك الإجراءات. وتقدّر الفجوة في ميزانيّة عام 2024 بـ 6.4% من الناتج المحلّيّ الإجماليّ، أكثر من العام السابق الّذي توقّف عند 6.2%.
وقدّرت لجنة الميزانيّة الفيدراليّة، وهي مؤسّسة بحثيّة ماليّة، أنّ خطط ترامب ستؤدّي إلى تراكم ديون جديدة بقيمة 7.5 تريليون دولار، والّتي من الممكن أن تزيد الدين الوطنيّ بمقدار 7.5 تريليون دولار على مدى العشر سنوات القادمة، وهو أكثر من ضعف الـ 3.5 تريليون دولار الّتي كانت متوقّعة من مقترحات هاريس.
وتعدّ تكاليف الفائدة من أكبر الأسباب الّتي دفعت العجز إلى الأرقام الحاليّة، إذ وصل الأمر إلى زيادة بنسبة 29٪ في الفائدة على ديون الخزانة لتصل إلى 1.133 تريليون دولار بسبب مزيج من أسعار الفائدة المرتفعة والمزيد من الديون للتمويل. وتجاوز إجماليّ النفقات على برنامج الرعاية الصحّيّة "ميديكير" Medicare، ويعدّ البرنامج من البرامج الرياديّة في مجال الرعاية الصحّيّة إذ يعدّ البرنامج تأمينًا صحّيًّا فيدراليًّا للأشخاص الّذين تبلغ أعمارهم 65 عامًا أو أكثر، بالإضافة الأشخاص الّذين تقلّ أعمارهم عن 65 عامًا، والّذين يعانون من إعاقات معيّنة أو فشل كلويّ دائم أو تصلّب جانبيّ ضموريّ.
في أيلول/سبتمبر الماضي، أعلنت الحكومة عن فائض قدره 64 مليار دولار، مقارنة بعجز قدره 171 مليار دولار في نفس الشهر من السنة 2023، لكنّ التحسّن كان يرجع إلى حدّ كبير إلى تعديلات مدفوعات المزايا وهي إعانات ماليّة من الحكومة للمرضى أو العاطلين عن العمل أو الفقراء أو الّذين لديهم أطفال.
ويشير الخبراء إلى أنّ استمرار الخلل والعجز الماليّ قد يجعل من الصعب على الكونغرس التوصّل إلى اتّفاق بشأن الإنفاق للسنة الماليّة 2025؛ وبالتّالي معالجة سقف الديون، الّذي يعود في من يناير/كانون الثاني. وتوصّل المشرّعون إلى اتّفاق في شهر أيلول/سبتمبر الماضي لتمويل الحكومة حتّى العشرين من كانون الأوّل/ديسمبر، الأمر الّذي أدّى إلى تجنّب إغلاق الحكومة.
ويحدث الإغلاق الحكوميّ عندما يفشل الكونغرس في تمرير مشروع قانون الإنفاق لتمويل الحكومة الفيدراليّة، أو عندما يرفض الرئيس التوقيع عليه. وينتج عن هذا فجوة تمويليّة يمكن أن تتسبّب في تعطيل العديد من وظائف الحكومة بشكل مؤقّت. وغالبًا ما يتمّ حلّ الإغلاق الحكوميّ من خلال تمرير الكونغرس لقرارات ماليّة، والّتي توفّر تمويل قصير الأجل بينما تستمرّ المفاوضات من أجل التوصّل إلى حلّ طويل الأجل. وقد انتهى كلّ إغلاق حكوميّ منذ عام 1990 بمثل تلك القرارات.
ونظرًا لأنّ السنة الماليّة للحكومة الفيدراليّة تمتدّ من 1 كانون الأوّل/أكتوبر إلى 30 أيلول/سبتمبر، فإنّ العديد من عمليّات الإغلاق تحدث في هذه الأشهر بشكل خاصّ.
يذكر أنّ الإغلاق الحكوميّ الأخير حدث في عام 2019 وبشكل جزئيّ بسبب الخلافات بشأن اقتراح الرئيس السابق دونالد ترامب بتمويل وبناء الجدار العازل بين الولايات المتّحدة والمكسيك حسب التصريحات الّتي أدلى بها ترامب في كانون الثاني/يناير 2019.
ويؤدّي إغلاق الحكومة إلى الإغلاق المؤقّت أو تقليص تشغيل الخدمات الحكوميّة غير الأساسيّة، وقد يتمّ إعفاء بعض الموظّفين الفيدراليّين بشكل مؤقّت أو حتّى تسريحهم، بينما يستمرّ الموظّفون الأساسيّون في العمل دون أجر. ويؤثّر الإغلاق بشكل أساسيّ على الموظّفين الفيدراليّين غير الأساسيّين، فضلًا عن الأشخاص والشركات الّتي تعتمد على الخدمات الحكوميّة. وبينما يتمّ إعفاء العديد من الموظّفين الحكوميّين غير الأساسيّين بشكل مؤقّت أثناء الإغلاق، يستمرّ الموظّفون الأساسيّون الّذين لا يعتمد تمويلهم على الفواتير السنويّة في العمل، مثل أفراد القوّات المسلّحة والجيش ووكلاء إنفاذ القانون مثل الشرطة ومراقبي الحركة الجوّيّة.
وارتفع الدين العامّ بزيادة قدرها 5 تريليونات دولار منذ عام 2023 وحده. وبالنظر إلى المستقبل، من المتوقّع أن ترتفع مستويات الدين بشكل أسرع ممّا كان متوقّعًا في السابق مع فشل السياسات الحكوميّة في معالجة مخاطر الديون وسط شيخوخة السكّان وزيادة تكاليف الرعاية الصحّيّة. وعلاوة على ذلك، قد تؤدّي التوتّرات الجيوسيّاسيّة المتزايدة إلى زيادة الإنفاق على الدفاع، ممّا يضيف ضغوطات على ميزانيّات الحكومات.
استنادًا إلى بيانات صندوق النقد الدوليّ لشهر تشرين الأوّل/أكتوبر 2024. فإنّ الولايات المتّحدة تحتلّ المرتبة الأولى عالميًّا بنسبة 34.55% لتساوي تلك النسبة 36 تريليون دولار، وبهذا يمكن القول إنّ الدين الأميركيّ يساوي أكثر من ضعف الدين العامّ للدولة الثانية في الترتيب: الصين، والّتي ترزح تحت 16.12 من الدين العالميّ. ولإيضاح حجم الدين العامّ الأميركي يمكن القول إنّ ذلك الدين الأميركيّ يساوي الدين العامّ لأكبر الاقتصادات العالميّة مثل اليابان وألمانيا والهند والمملكة المتّحدة والصين مجتمعة!
رغم أنّ الدين يؤثّر في كلّ مواطن أميركيّ بالضرورة، يشير الخبراء إلى أنّه من الصعب وضع مثل هذا الرقم الكبير في منظور صحيح وفهم تداعياته بالكامل. ويشمل إجماليّ الدين الفيدراليّ الديون الّتي يحملها المواطنون بالإضافة إلى الديون الّتي تحتفظ بها صناديق الائتمان الفيدراليّة وحسابات حكوميّة أخرى. وبعبارات بسيطة للغاية، يمكن اعتبار هذا الدين بمثابة دين تدين به الحكومة للآخرين بالإضافة إلى الدين الّذي تدين به لنفسها.
ويشير الخبراء إلى أنّ الديون المرتفعة والمتزايدة في أميركا كارثيّة لأنّها تهدّد مستقبل البلاد الاقتصاديّ. أدّت جائحة كوفيد-19 أدّت إلى تسريع ظهور التحدّيات الماليّة، ولكنّ ذلك لا ينفي أنّ الولايات المتّحدة كانت بالفعل على مسار غير مستدام، مع محرّكات ودوافع كانت موجودة قبل فترة طويلة من الوباء.
ويتطلّب قياس الدين الوطنيّ للولايات المتّحدة أوّلًا تقييم مقدار ما تدين به الأمّة لدائنيها، ويعدّ ذلك مصدر قلق متكرّر للعديد من المحلّلين الماليّين الّذين يراقبون تأثير مستويات الديون المرتفعة على قطاعات السوق الحيويّة مثل التوظيف وقوّة العملة والنموّ الاقتصاديّ.
ويؤدّي ارتفاع الدين العامّ إلى بعض العقبات في الاقتصاد الأميركيّ، منها أنّ الأوراق الماليّة الّتي تصدرها الحكومة تؤثّر في الواقع على أسعار الفائدة. وكذلك عندما يكون لدى الحكومة عجز ماليّ، فإنّها تضطرّ إلى اقتراض المال لإدارة العجز، ممّا يضرّ باستثمار رأس المال في السوق الخاصّ. وفي نهاية المطاف، من المرجّح أن تضطرّ حكومة الولايات المتّحدة إلى استخدام واحدة أو أكثر من الخطوات التالية لتخفيف حصّة الجمهور من عبء الدين الوطنيّ وهي بيع الأصول أو اقتراض المزيد من الأموال أو إعادة التفاوض على الشروط مع الدائنين أو رفع الضرائب، أو في أسوأ الأحوال التخلّف عن سداد الديون.
التعليقات