25/06/2022 - 21:49

"الكيانية الفلسطينية" من التشكل إلى الانهيار حتى القيامة المتجددة

وقد كانت فرضيتي الأساسية في الدراسة، التي هي دراسة تحليلية أكثر منها توثيقية، بأن بريطانيا سعت لمنع ظهور كيانية فلسطينية راسخة قادرة على مواجهتها وعملت كل ما بوسعها لتقويض هذه الكيانية بشكل سلمي وطبيعي، وهي بالمقابل عملت على ترسيخ الحضور

من مظاهرات الثورة الفلسطينية في القدس عام 1936 (Gettyimages)

في تعريفه للكيانية الوطنية، يقول د. خالد الحروب، إنها مرتبطة عضويًا وتكوينيًا بفكرة الهوية الوطنية، ذلك بأن الأولى هي التجسيد العملي والسيادي للثانية. فالهوية الوطنية هي التكوين العميق لخلاصات وتعبيرات الشعور بذات جمعية ذات سمات مشتركة وموحدة، لخصتها حديثًا في تاريخ العالم وفي منطقتنا مع نهايات القرن التاسع عشر، فكرة القومية أو الوطنية. وتتجسد الهوية الوطنية على الأرض، كقومية تأخذ شكل كيانية دولتية، ومع نشوء هذا الكيان (الدولتي) تتحول الهوية الوطنية الجامعة إلى حالة مُمأسسة، ويتحول أفرادها إلى مواطنين في دولة.

وبعد نشوء الدولة وترسخ "كيانها الوطني"، وحسم صراعها مع الآخر الخارجي، تتحول الهوية إلى مُعطى جمعي، وتنتقل صراعاتها إلى الداخل، وخصوصًا على مستوى المواطنة المتساوية وتحققها تبعًا لنوع الدولة ومدى سيادة مفاهيم العدل والمساواة والحرية بين أفرادها.

ويضيف، أنه في مرحلة ما قبل الدولة يكون الانشغال الجمعي الحاسم لأصحاب الهوية الجمعية مُندرجًا في سيرورة تجسيدها الضروري (إن لم يكن الحتمي) على شكل كيانية خاصة بهم وبها، وفي أحيان كثيرة تُنتزع هذه الكيانية ضمن سياق صراعي مع المحيط أو "الآخر".

وقياسا على الحالة الفلسطينية ترى د. سنية الحسيني في دراسة لها بعنوان "تشكل الكيانية الفلسطينية" تنشر في مجلة دراسات فلسطينية، أن ما بدأه الفلسطينيون في نهاية العهد العثماني من البحث عن كيانية تحمل هويتهم المستقبلية، لم يؤتِ ثماره، فاللجنة التنفيذية واللجنة العربية العليا والتشكيلات الوطنية والسياسية الأُخرى التي وُجدت في فلسطين في تلك الفترة، لم تنجح في تثبّت أقدامها والتصدي لمكونات المشروع الاستعماري الصهيوني.

وتعزي الباحثة ذلك لجملة أسباب أهمها، سعي بريطانيا طوال أعوام احتلالها وانتدابها على فلسطين، وتنفيذا لوعد بلفور، لتمكين القيادة الصهيونية في فلسطين وتقويض مكانة الحركة الوطنية الفلسطينية، سواء من خلال إضعاف قيادة الحركة الوطنية الناشئة في حينه، أو بواسطة ضرب الحركة الشعبية الوطنية.

وقد ساهمت السياسة البريطانية في إضعاف الموقف الفلسطيني وخلق حالة من الانقسام سواء بين مكونات القيادة الفلسطينية نفسها، في إطار الصراعات العائلية، أو في إطار الاختلاف بين التوجهات الشعبية الرافضة لسياسات الاحتلال والانتداب البريطاني من ناحية، وبين توجهات القيادة التي وثقت بعهود البريطانيين من الناحية الأُخرى.

د. سنية الحسيني

هذا إلى جانب العامل الذاتي المتمثل قصور القيادة الفلسطينية وأدائها في تلك الفترة الحساسة من عمر القضية الفلسطينية، والتي، كما تقول الكاتبة، استهانت وهادنت السلطات البريطانية، وانشغلت بخلافاتها وصراعاتها العائلية والحزبية، حيث وصمت سياسة القيادة الفلسطينية خلال العقدين الأوّلين من السيطرة البريطانية على فلسطين بمحاولات التهدئة من غضب الشارع والثورات الشعبية الرافضة للممارسات البريطانية.

لإلقاء مزيد من الضوء حول الموضوع أجرينا هذا الحوار، مع د. سنية الحسيني.

"عرب 48": أشرت إلى إرهاصات تشكل الكيانية الفلسطينية مبكرا وخطوها خطوات واسعة على طريق بلورة الهوية الوطنية الفلسطينية، رغم اصطدامها بحركة استعمارية قوية -الحركة الصهيونية- التي حظيت بدعم واحتضان الاستعمار البريطاني، صاحب السيطرة على فلسطين، وهو ما تسبب في تقويض منجزاتها والحؤول دون ترجمة أهدافها على الأرض أسوة بباقي الكيانيات العربية؟

الحسيني: في دراستي تحت عنوان "تشكل الكيانية الفلسطينية" المنشورة في "مجلة الدراسات الفلسطينية" رجعت تاريخيا إلى بدايات التشكل المبكرة منذ عام 1917 وانتهاء العهد العثماني وبداية الاستعمار البريطاني لفلسطين، واستفدت في هذا السياق من مقالات جدي حمدي الحسيني الذي كان كاتبا وصحافيا معروفا عاصر هذه المرحلة وكتب عنها، و"الكيان" الذي قصدته هنا هي المؤسسة والقيادة من خلال هذه المؤسسة والتي بدأت ارهاصاتها في المرحلة الانتقالية تلك.

ولاحظت أن ما يميز الكيانية الفلسطينية منذ بداياتها أنها ميّزت نفسها عن الحركة القومية العربية بسبب وجود الحركة الصهيونية، وبدأ هذا التميز في وقت مبكر في مقالات نجيب نصار رئيس تحرير مجلة "الكرمل" وغيره من الكتاب الفلسطينيين في تلك المرحلة، وخاصة بعد صدور وعد بلفور الذي كشف عن استهداف فلسطين وخصوصيتها بالنسبة لبريطانيا.

تتبعت البدايات التي تجلت بظهور الجمعيات المحلية الإسلامية والمسيحية في المدن والتجمعات الفلسطينية، ومن ثم توحيد هذه الجمعيات في إطار المؤتمر الفلسطيني الأول الذي انعقد فمطلع عام 1919 في القدس، وانبثقت عنه لجنة تنفيذية موحدة برئاسة، موسى كاظم الحسيني، تولت قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية.

وظل المؤتمر الفلسطيني يتولى قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية حتى وفاة موسى كاظم الحسيني عام 1934 متأثرا بإلاصابات التي تعرض لها خلال الاعتداء عليه في مظاهرة يافا الكبرى عام 1933 من قبل جنود الاستعمار البريطاني.

بعد ذلك، تولت "اللجنة العربية العليا"، برئاسة أمين الحسيني مهمة قيادة الحركة الوطنية التي جاءت بعد قيام الثورة العربية الكبرى في فبراير 1936، وبقيت "اللجنة العربية العليا" ممثلة عن الفلسطينيين حتى حلّت مكانها "الهيئة الوطنية العليا" برئاسة أمين الحسيني أيضًا، كامتداد لها بعد عام 1946.

"عرب 48": وفاة موسى كاظم الحسيني عام 1934 طوت مرحلة هامة في تشكل الحركة الوطنية الفلسطينية أو "الكيانية الفلسطينية"، ودشّنت مرحلة جديدة؟

الحسيني: صحيح أن وفاة موسى كاظم الحسيني عام 1934 تعتبر نهاية مرحلة أو عهد، إلا أن ثورة البراق التي سبقت وفاته عام 1929، هي التي فصلت سياسيا بين المرحلتين، بعد أن دشنت مرحلة مقاومة بريطانيا والصهيونية معًا، بخلاف المرحلة السابقة التي تحاشت خلالها الحركة الوطنية الفلسطينية الاصطدام مع بريطانيا وركزت جل نشاطها ضد الحركة الصهيونية.

وقد كانت فرضيتي الأساسية في الدراسة، التي هي دراسة تحليلية أكثر منها توثيقية، بأن بريطانيا سعت لمنع ظهور كيانية فلسطينية راسخة قادرة على مواجهتها وعملت كل ما بوسعها لتقويض هذه الكيانية بشكل سلمي وطبيعي، وهي بالمقابل عملت على ترسيخ الحضور اليهودي الصهيوني.

أهمية "ثورة البراق" في أنها نقلت الحركة الوطنية الفلسطينية من مرحلة مهادنة بريطانيا إلى مرحلة مقاومة بريطانيا أسوة بمقاومة التمدد الصهيوني، وتميزت إلى جانب ظهور الانفجارات المسلحة على غرار ثورة القسام عام 1935، بانتعاش الحياة الحزبية وظهور حزب الاستقلال.

"عرب 48": تقصدين حدوث تطور سياسي واجتماعي أيضًا؟

الحسيني: نعم، ثورة البراق نقلت الحركة الوطنية الفلسطينية من مهادنة بريطانيا إلى مقاومة بريطانيا ومن السلمية إلى أشكال المقاومة المسلحة، وقد ظهرت فعلا حركة مسلحة هي حركة القسام عام 1935 وإن كانت ليست من صلب القيادة التقليدية، كما أفرزت أشكالا حزبية جديدة على غرار حزب الاستقلال الذي لم يكن تابعًا لأي من الحزبين المرتبطين عائليا، الحسيني والنشاشيبي، وقد ضم نخبة من المثقفين والسياسيين أمثال محمد عزة دروزة وأكرم زعيتر وحمدي الحسيني وغيرهم.

"عرب 48": المرحلة الثانية ابتدأت زمنيا مع تأسيس اللجنة العربية العليا برئاسة الحاج أمين الحسيني؟

الحسيني: اللجنة العربية العليا تشكلت مع قيام الثورة العربية الكبرى في سنة 1936, التي جاءت بمبادرة شعبية في البداية، ثم تبنّتها القيادة الوطنية الفلسطينية بعد ذلك، وتكونت اللجنة العربية بعد أن قامت اللجان القومية المحلية في المدن والقرى بتشكيل لجان قومية عليا، وعقدت مؤتمرًا عامًا في القدس، ضم قيادات مركزية للحركة الوطنية، قامت بتأسيس اللجنة العربية العليا، في 25 نيسان/ أبريل وانتُخبت أمين الحسيني رئيسًا للجنة.

ومع تحول الثورة نحو العسكرة وتحت وطأة تصاعد الأحداث، وتصاعد عنف الحركات الصهيونية وقمع بريطانيا للمقاومة الفلسطينية، ظهر جيش الجهاد المقدس في العام 1936 بقيادة عبد القادر الحسيني. وتطور ذلك التوجه بوصول تعزيزات عسكرية عربية إلى الفلسطينيين.

إلا أن دعوات قيادات عربية أثرت على استمرار الاضراب، الذي توقف لحين صدور نتائج توصيات لجنة "بيل الملكية"، إلا أن الثورة عاودت تأججها بعد نشر تقرير لجنة "بيل" منتصف العام 1937 والذي دعا إلى تقسيم فلسطين.

وفي أيلول/ سبتمبر من ذلك العام أعلنت، سلطات الانتداب، عدم شرعية اللجنة العربية العليا، وأصدرت أمرًا باعتقال، أمين الحسيني، وقيادات تلك اللجنة، الذين خرجوا من فلسطين وعانت القيادة الفلسطينية في تلك المرحلة وما بعدها سواء في داخل فلسطين أو خارجها حالة ضعف وعجز شديدَين، مما تسبب في تحويل التمثيل الفلسطيني إلى الجامعة العربية بعد تأسيسها مباشرة في سنة 1945، علما أنه جرى تأسيس"الهيئة العربية العليا" برئاسة أمين الحسيني أيضًا، والتي اعتُبرت امتدادًا لـ"اللجنة العربية العليا".

"عرب 48": رغم اعتبار الهيئة العربية العليا امتدادا للجنة العربية العليا والإبقاء على رئيسها الحاج أمين الحسيني، فقد كان واضحا أن الأخيرة تشكلت بقرار عربي وفي مرحلة ضعف فلسطيني بعكس الأولى التي تشكلت في ظل الثورة؟

الحسيني: الدور العربي في الضغط إلى الفلسطينيين كان واضحًا وسار إلى جانب شراسة قمع الثورة، وقد ازداد هذا الضغط مع دخول الحرب العالمية الثانية، والتقى تأثير الضغط العربي مع الضعف الفلسطيني القيادي ليحقق الغرض المنشود في إجهاض الثورة.

ولكن رغم القصور وقصر النظر الذي لحق بالقيادة الفلسطينية وأدائها في تلك الفترة الحساسة من عمر القضية الفلسطينية، والتي استهانت وهادنت السلطات البريطانية، وانشغلت بخلافاتها وصراعاتها العائلية والحزبية، ورغم سياسة القيادة الفلسطينية خلال العقدين الأوّلين من السيطرة البريطانية على فلسطين المتمثلة بمحاولات التهدئة من غضب الشارع والثورات الشعبية الرافضة للممارسات البريطانية، ورغم الرضوخ للضغوطات العربية المتعلقة بوقف ثورة 36.

رغم وقوع القيادة الفلسطينية في كل تلك الأخطاء التي كان من الممكن تداركها، كما خلصت الدراسة، إلّا إنه من غير المؤكد أن تدارك القيادة لهذه الأخطاء وتشكيلها كيانية أكثر تماسكًا وصلابة آنذاك، كان سيجعلها قادرة على التصدي لمؤامرات بريطانيا العظمى، صاحبة المشروع الاستعماري في فلسطين.

وفي المحصلة النهائية، وعندما أعلنت إسرائيل إنشاء كيانها في 15 أيار/ مايو 1948، انهار جميع ما تأسس من مقومات ومكونات الكيانية التي سعى الفلسطينيون لتأسيسها في النصف الأول من القرن العشرين، بينما تُوّج الجهد الاستعماري الصهيوني في بناء كيانية متكاملة تجسدت في إعلان قيام دولة إسرائيل.

إلا أن الكيانية الفلسطينية نجحت في القيامة من تحت ركام النكبة وهي تسير نحو تجسيد ذاتها الوطنية على الأرض.


د. سنية الحسيني: كاتبة وأكاديمية فلسطينية، أستاذة العلوم السياسية والعلاقات الدولية في الجامعة العربية الأميركية، نشرت العديد من الابحاث السياسة في مراكز بحثية ومجلات علمية عربية وأجنبية دبلوماسية فلسطينية سابقة وكاتبة عامود أسبوعي في جريدة الأيام الفلسطينية.

التعليقات