31/10/2010 - 11:02

الأسرى السوريون أمانة في أعناقكم/ ايمن ابوجبل

الأسرى السوريون أمانة في أعناقكم/ ايمن ابوجبل
بداية لا بد لي من استحضار المادة الـ 38 من الدستور السوري لعام 1973، التي تقول: "لكل مواطن الحق في أن يعبر عن رأيه بحرية وعلنية بالقول والكلمة، وكافة وسائل التعبير، وأن يسهم في الرقابة والبناء بما يضمن سلامة البناء الوطني والقومي، ويعمم النظام الاشتراكي". ولا يخفى على كل ذي بصر وبصيرة أن ما يكتب من الجولان السوري المحتل، من مواقف ومقالات وأراء وأفكار، وحتى الخواطر التي تعبر عن أحاسيسنا واوجاعنا، تترك لدى البعض من مواطني الجولان، الغيورين على مصلحة هذا البلد وهذا الوطن، حساسية واستنفارا شديدين، بسبب عدم توافق ما يكتب وما ينشر ويعبر عنه مع توجهاتهم الفكرية والسياسية وربما العاطفية الجياشة. فهم وباعتقاد خاطئ يتمسكون بتلابيب الوطن حيث لا تمر الوطنية والأخلاق والانتماء إلا من خلال غربالهم، الذي يسقط الرأي والرأي الأخر أيضا من حساباتهم، ومن وشاياتهم بأحايين كثيرة، لدى الأجهزة المسئولة في الوطن وراء الأسلاك. ويتوهمون أنهم يملئون الساحة بشعاراتهم وضجيجهم الذي يصم أذاننا لكثرة نشازه وابتعاده عن حقائق الواقع ومعضلاته. على أساس أن هذه المسائل الكبرى ليست من اختصاصنا وإنما من صلاحيات ومسؤوليات تلك الأجهزة في الوطن، صاحبة القرار في التفكير والنقاش ووضع الأولويات .

ملف الأسرى السوريين من أبناء الجولان السوري المحتل، ما زال يكتنفه الغموض والإهمال الشديدين. بالأمس القريب تجاوزت عائلة الجاسوس الإسرائيلي أيلي كوهين "قنوات الاتصال السرية، والوعودات الحكومية الإسرائيلية، التي أثبتت زورها وكذبها على مدار السنوات الأربعين الماضية. وكما تقول ابنته "صوفي" في
حديث متلفز، بمناسبة الذكرى الأربعة والأربعين لإعدام والدها في دمشق: "لقد اخفت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة علينا وجود أوراق ضغط لدى إسرائيل، للمناورة مع حكومة دمشق، لإعادة رفات والدي إلى إسرائيل". وكشفت عن ورقة كانت بيدها تحمل صور أسرى ومعتقلين عرب سوريين من الجولان السوري المحتل، موجودين في ثكنات مصلحة السجون الإسرائيلية، طالبت في تسليط الأضواء عليهم مقابل إعادة رفات والدها.

" ناديا كوهين" أرملة الجاسوس وابنتها صوفي التي كانت في الرابعة من عمرها حين اعدم والدها، واليوم متزوجة ولها ابنة في الرابعة عشر من عمرها اليوم، تقول مخاطبة الرئيس بشار الأسد، في شريط يحمل نداءً إنسانيا، نقله احد الوسطاء الأتراك منذ عدة أيام: "أعد لي زوجي لدفنه في إسرائيل". وتضيف " سيدي الرئيس، أتذكر اليوم الذي توفي فيه والدك، وشاهدناك عندما قمت مع عائلتك بزيارة قبره، إننا نطلب منك منحنا هذه اللحظة، نرجوك. أنا وأولادي نتوق ونريد دفن زوجي هنا. لقد كان هذا هو طلبه الأخير قبل أن تنتهي حياته، فاحترم طلبه. احترمنا كبشر. تصرف بعواطفك كأب. وأتمنى لك العيش حتى 120 عاماً كجد". وأعربت صوفي كوهين عن رغبتها بلقاء الرئيس وزوجته والتحدث عن ضائقتها، متمنية أن يتحلى الرئيس بالشجاعة ويعمل على تحقيق التقارب بدل الانفصال والعداء". ( مقابلة مع القناة الثانية الإسرائيلية(.

لا أستطيع هنا إلا أن أسجل خجلي كانسان، حين استحضر كلمات عميد الأسرى السورين الأسير المحرر هايل ابو زيد، الذي يعالج في مشفى رمبام، في صراع بطولي مع مرض السرطان الذي أصابه في المعتقل الإسرائيلي،منذ أربعة أشهر. يقول هايل في لقائه مع موقع الجولان: "هل عظام جاسوس إسرائيلي، أعدم منذ 40 عاماً، أثمن من زهرة شباب أو حرية أو حياة، عشرات الأسرى الجولانيين، الذين يقبعون في المعتقلات الإسرائيلية؟ لا أعتقد أن المقارنة واردة في الحسبان أصلاً، فحرية وحياة المواطنين السوريين تساوي مئات "الكوهينات" أحياءً وليس عظامهم فقظ... جاسوس إسرائيلي اعتقل في سوريا وأعدم، بتقديري أن ثمنه بخس جداً، وتمنع مقارنته بحرية وحياة أشخاص لا يزالون أحياء. أعتقد أن حياة المواطن السوري لا يجب أن تكون بهذا الرخص. لقد كان باستطاعة سوريا مبادلة عظام كوهين ليس فقط بأسرى الجولان، بل بأعداد كبيرة من الأسرى العرب، وخاصة الأسرى ذوي الملفات الصعبة. وأخص بالذكر أولئك الأسرى من عرب 48 والقدس، الذين ليس هناك من يطالب بهم، وهم يقضون أحكاماً مؤبدة. هؤلاء عشرات ومئات المناضلين العرب، الذين قدموا أغلى ما يمكن في سبيل القومية العربية وكرامة الأمة، هل عظام كوهين أغلى منهم؟). (مقابلة مع موقع الجولان).

ورغم أن هناك مفارقات جوهرية في المقارنة بين الواجب "الإسرائيلي" الذي قام به أيلي كوهين وبين الواجب الوطني السوري الذي قام به الأسرى السورين في السجون الإسرائيلية، والأسرى العرب، وهناك اختلاف جوهري في الزمان والمكان والمضمون، لا مجال لأوجه التشابه بينهما. لكن ما يهم في الأمر، هو بقاء ملف الأسرى أنفسهم طي النسيان والغموض، بعد رحلة اعتقال طويلة مستمرة منذ إحدى وعشرين عاما، لا
احد منا يرغب في انتهائها كالمصير الذي انتهى إليه الأسير المحرر هايل أبو زيد، في انتظار حريته التي تشوهت وغدت مبتورة وناقصة، إلى ان يحقق وعده بالانتصار الكبير على مرضه السرطاني الخطير. ولا احد منا يرغب في انتهائها، واحد الرفاق الاسرى محملا في صندوق خشبي، يبكيه أهله وشعبه. وبنهاية الأمر يستكثر البعض على الذبيحة أن تصرخ ألما ووجعا. كيف لا نقحم أنفسنا، في تلك المسائل الوطنية
والقومية الكبرى؟ وكيف نسكت، ونقف متفرجين مكتوفي الأيدي، حيال ما نسمع ونقرأ ونشاهد، حين يتعلق الأمر بإيجاد مخرج أو حلول لقضية الأسرى السوريين من أبناء الجولان السوري المحتل؟ هل هذا حكرا على وعي وإدراك الحكومة العربية السورية؟ وهل هذا الأمر من اختصاص الجهات والهيئات الحزبية والقيادية في سوريا فقط؟ وهل تم التعامل سابقا بوعي ومسؤولية مع قضية الأسرى في سجون الاحتلال، ناهييك عن قضايا الجولان المصيرية الأخرى؟ كفانا جهلا وخوفا وتملقا، فلنا ما لنا من أوجاع وهموم فاضت بها صدورنا وعقولنا.

إن أحلام أسير واحد داخل زنزانته الانفرادية التي يحصي فيها سنواته السبعة والعشرين عاما المتبقية خلف القضبان، لهي أقدس واشرف وأطهر من كل وعوداتنا، ومواقفنا التضامنية، وخطاباتنا، وتحياتنا لصمودهم الأسطوري. كفانا اختصارا لهذا الشريط الإنساني الذي يدور فينا منذ سبعة وثلاثين عاما. وان اختارت عائلة ايلي كوهين التوجه إلى الرئيس بشار الأسد مباشرة لإعادة رفاته إلى بلده، فعلينا نحن إذن مواطني الجولان السوري المحتل، بصفتنا مواطنون عربا سوريون، أن نرفع صوتنا عاليا، ودون منة من احد ، فلتضع الحكومات والقيادات الحلول والإجابات عن قضايانا الإنسانية قبل كل شئ. ولتثبت سياسة حسن النوايا مع الشعب الأكثر شعورا بالألم والمعاناة والحرمان، مع أولئك المقموعة مشاعرهم والمغيبة عواطفهم تماما. نحن نستحق وجديرون بهذا الاستحقاق لكي نلامس شيئا من هذا الانفراج الدولي، الذي تسعى اليه الدول والحكومات الاجنبية، دون النظر في ضائقتنا كبشر ومواطنيين عزل ابرياء.


وهنا لا استطيع تجاهل هذا البحر الكبير من التساؤلات؟ هل بقاء رفات أيلي كوهين، الجاسوس الإسرائيلي، في المتحف السوري دون أي علاج، او سؤال، او تفكير، او نقاش جديد، علامة من الشيم الوطنية والأخلاقية؟؟ وهل التحفظ على رفاته دون ان نحاول التأثير على علاج بعض من قضايانا الانسانية يصب في خدمة قضايانا الوطنية؟ وهل بقائه يشفى غليل فشل أمننا الوطني قبل أكثر من أربعة وأربعين عاما؟ ولماذا ما زلنا نحتفظ برفات جندي إسرائيلي من أصول شرقية خدم دولته بتفاني وشجاعة قل نظيرها في حاضرنا العربي؟ ولماذا لا نستثمره ميتا، لإدخال بعض الطمأنينة والهدوء لتلك العوائل المشتتة بين حدود خط وقف إطلاق النار، والطلب رسميا بإعادة جمع شملها، او على الاقل لضمان التواصل الانساني فيما بينها؟ لماذا لا نستثمره من اجل مبادلة حياة مواطنينا وأسرانا ومعتقلينا في سجون الاحتلال الإسرائيلي، أليست أثمن من عظامه؟ واليست فرصة قد لا تعوض، لمنح أسرانا ومعتقلينا بعضا من حريتهم وكسر قيودهم؟

اعتقد أن قضية الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين ستاخذ ابعاداً جديدة اخرى في المستقبل القريب، ولن تبقى طي النسيان، وستمارس الكثير من الضغوطات الانسانية على حكومتنا من اجل انهاء هذه القضية لان الغبار قد تكدس عليها منذ زمن بعيد، وقد ان أوان نفضها. فاكثر من نصف قرن تقريبا من عمر الجراح
المتقيحة والألم الشخصي الانساني في الجولان، هو ليس كثيرا من عمر الشعوب حتما، ولكنه عندما يصبح بداية جديدة لرحلة جديدة من الألم والمعاناة والأحلام السجينة، فهذا أمر يستدعي ان نكتب ونصرخ، ونعارض، ونقول كفى ألما وإهمالا، فأولى بنا قبل التمسك في إتباع الإجراءات الإدارية والقانونية والسياسية، والقنوات الرسمية، ان نكرّم ونعيّد أولئك الذين ضحوا وما بخلوا، وأعطوا وما عزوا شيئا من كرامتهم وحريتهم التي ما زالت تحتجز بين تبادل أسرى هنا، واتفاقية سلام هناك، تنتهي أخيرا، في ركنهم هناك في غرفة صغيرة في زنازين ومعتقلات الاحتلال. او ركنهم بعيدا عن الاولويات الوطنية التي هم الاجدر بها.. منذ زمن .

ان الملفات الإنسانية المغيبة لمواطني الجولان تحتاج الى إجابات وحلول، ولم تعد تحتمل الانتظار والتاجيل، فزيارة الام إلى أولادها وذويها هناك في دمشق والسويداء، أليست قضية تحتاج إلى ايجابات؟ وزيارة الابن الى أعمامه وأخواله والتعرف عليهم، وبناء العلاقات الأسرية الإنسانية، أليست قضية مؤلمة تعيش داخلها كل أسرة جولانية؟ وزيارة الزوجة التي تركت أهلها وأقاربها وأصدقائها وجذورها هناك، منذ أكثر من أربعين عاما، أليست قضية تستحق منا كل جهد إنساني، ناهيك عن عشرات القضايا التي تؤجج وجدان العرب السورين الرازحين تحت نير الاحتلال الإسرائيلي في الجولان السوري.


فليفرج عن رفاقنا الأسرى الجولانيين ومعهم عشرات الأسرى القدامى من عرب فلسطين، اولا وقبل كل شئ، مقابل البحث في إعادة رفات ايلي كوهين الى ذويه. فنحن شعب نكرم موتانا، الذين يتركون ورائهم بصمات لا تزول، تبعا لأخلاقنا الإنسانية، فما بالك إن كان أمواتنا ما زالوا أحياء يقودون قوافل من أحلامنا وأمالنا
وتطلعاتنا الوطنية والقومية، ونريد لعدونا ان يتحلى ببعضا من شيمنا الإنسانية والأخلاقية هذه.

ان على حكومتنا في الوطن الحبيب سوريا، التمسك أكثر من أي وقت مضى في الإصرار على إثبات حسن النوايا من الطرف الإسرائيلي، وإيجاد حلول كريمة لقضايانا الإنسانية، وعلى وجه الخصوص لقضية أسرانا ومعتقلينا في سجون الاحتلال. وان كانت جثة الجاسوس الإسرائيلي ايلي كوهين، إحدى تلك الحلول التي ستطرح على جدول الأعمال، وتأخذ هذه الاهتمامات الدولية والإنسانية والأخلاقية، فيجب النظر قبل كل شئ اخر إلى احتياجاتنا نحن في الارض المحتلة، وانتهاز هذه القضية المتعلقة بالجاسوس الإسرائيلي، بعد ان سدت كل المنافذ القانونية والسياسية في وجوهنا، لمصلحة بقاء الأمل والطموح كبيرا في نفوس الجولانيين، ونفوس أسرانا في سجون الاحتلال، ولمصلحة ان ينطفئ أخيرا احتراق ساعات وسنون الانتظار في عيون الأمهات،
اللواتي أصبحن ينتظرن موتهن اليوم قبل موت أبنائهن، ومعايشة هذا الألم والوجع الإنساني الرابض على الصدور منذ سنوات طوال..إنها أمانة في أعناقكم جميعا.

التعليقات