31/10/2010 - 11:02

تجربة الجولان تحت الاحتلال الاسرائيلي/ منير فخرالدين*

تجربة الجولان تحت الاحتلال الاسرائيلي/ منير فخرالدين*
الوجود الاسرائيلي في الجولان، هو احتلال عسكري يخضع على المستوى القانوني لمعايير الشرعية الدولية، كما يخضع على المستويين السياسي والعسكري لتوازنات العلاقات الاقليمية والدولية. لكنه اساساً وجود استعماري استيطاني لا يزال يتبع تقاليد الاستعمار الاوروبي في القرنين التاسع عشر والعشرين، ويطوّرهما، عبر فرض سياسة عرقية تقوم بحجب حقوق المواطنة المتكافئة عن سكان البلاد الاصليين. في هذا المقال، سوف نعالج آليات المقاومة التي اتبعها سكان الجولان السوري، والتحركات الاجتماعية التي تتبلور من خلالها الهوية الوطنية، وتوترات هذه الهوية في الآن نفسه.

خلال حرب الايام الستة، قامت اسرائيل في الجولان، بأوسع عملية تهجير (مقارنة مع نسبة السكان) في تاريخ الصراع العربي - الاسرائيلي. اذ لم يبق في الجولان من اصل سكانه الذين كان يبلغ عددهم 130 الف نسمة عام ،1967 ومن ضمنهم 9 آلاف لاجىء فلسطيني، سوى ستة آلاف نسمة، يقيمون في خمس قرى: مجدل شمس ومسعدة وبقعاتا وعين قنية والغجر. فور احتلال الجولان، قامت جرافات الجيش الاسرائيلي بتدمير قرى المطرودين ومزارعهم، والتي يبلغ عددها مئة وعشرين قرية ومزرعة. وبعد الاحتلال باسبوعين، اقيمت اول مستوطنة اسرائيلية بالقرب من خط وقف اطلاق النار. وفي السبعينات والثمانينات بنت حكومات "المعراخ" و"الليكود" احدى وثلاثين مستوطنة اضافية، يقيم فيها اليوم حوالى خمسة عشر ألف مستوطن يهودي، بينما يبلغ عدد السكان السوريين الذين يعيشون تحت الاحتلال ثمانية عشر الفاً، يتوزعون على خمس قرى في شمال الجولان وعلى سفح جبل الشيخ الجنوبي. تنتمي غالبية السكان الى الطائفة الدرزية، ما عدا سكان قرية علوية واحدة. لم يكن البعد الديموغرافي - الطائفي للتهجير محض مصادفة، بل عكس افكاراً استعمارية تعود الى بدايات الحركة الصهيونية، حول اقامة دولة درزية عازلة تمتد من حوران الى الجولان وصولاً الى الجنوب اللبناني. ورغم حمق هذه الفكرة وعدم جديتها، فإن سلطات الاحتلال حاولت ترويجها في البداية من خلال احد الزعماء المحليين: الشيخ كمال كنج ابو صالح، الذي قام بإبلاغ السلطات السورية عن نيات الاحتلال، فاعتقله الاسرائيليون عام ،1971 وحكم عليه بالسجن لمدة 24 عاماً، لكنه اطلق عام .1973

منذ الايام الاولى للاحتلال، اقدمت اسرائيل على استبدال القوانين والمؤسسات الوطنية السورية، بمؤسسات اسرائيلية، مخالفة في ذلك القانون الدولي الذي يمنع سلطات الاحتلال من إحداث اي تغيير في الوضع القائم. وكانت اهم هذه التغييرات - عدا الاستيطان ومصادرة الاراضي والمياه - تعيين مجالس محلية واستبدال منهاج التعليم السوري بمنهاج اسرائيلي، أعدَّ خصيصاً لابناء الطائفة الدرزية، ويهدف الى خلق انتماء لـ"الهوية الدرزية" كهوية منفصلة عن الهوية العربية. وقد مارس الاحتلال جميع انواع الترهيب، كالسجن والعقوبات الاقتصادية الفردية والجماعية ضد جميع معارضي سياستها. ففي السبعينات تمّ عزل الكثير من معلّمي المدارس، كما تم اعتقال العديد من الناشطين السياسيين في المنطقة وخصوصاً الطلاب. واللافت ان تظاهرات السبعينات اقتصرت على نخبة قليلة من الزعماء والمثقفين، ما عدا التظاهرة العفوية يوم وفاة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر. ولم ينشأ انخراط شعبي واسع في النضال السياسي الا في نهاية السبعينات مع صعود "الليكود" الى السلطة، وتصاعد محاولات فرض الجنسية الاسرائيلية على المواطنين السوريين كخطوة في سياق قرار ضم الجولان الى اسرائيل. وكان الهدف من هذا التصاعد هو الايحاء ان قرار الضم، سوف يكون "تلبية لرغبة السكان المحليين في تقرير مصيرهم". غير ان السكان المحليين رفضوا هذه اللعبة عبر تصعيد الاضرابات والتظاهرات والمؤتمرات الصحافية التي اكدوا من خلالها رفضهم التخلي عن جنسيتهم السورية. وقد واجه الاحتلال هذه المقاومة السلمية عبر تشديد العقوبات الجماعية والفردية: مصادرة الاراضي والمياه، عدم منح رخص البناء والعمل، وفرض الضرائب الباهظة على الفلاحين واصحاب ورش العمل ووسائل النقل.

في آذار ،1980 دعت القيادة الدينية الى اجتماع شعبي في خلوة مجدل شمس، شارك فيه الوف من سكان القرى المختلفة، وصدرت عنه "الوثيقة الوطنية" التي تنص على فرض الحرمان الديني والمقاطعة الاجتماعية التامة على كل من يقبل بالهوية الاسرائيلية.

تكمن اهمية هذا الاجتماع في كونه اتى قبل قرار ضم الجولان الى اسرائيل، الذي اصدرته الكنيست في 14 كانون الاول ،1981 ويكون بذلك قد هيّأ الارض للمعركة ضد المضايقات الاسرائيلية عبر اضراب عام انطلق في 14 شباط 1982 ودام خمسة اشهر من دون توقف. خلال فترة الاضراب الكبير هذه، فرضت قوات الاحتلال طوقاً عسكرياً على القرى، واعاقت وصول المعونات الغذائية والطبية، كما فرضت حظراً على وصول وسائل الاعلام والحملات التضامنية الفلسطينية والاسرائيلية.

في الاول من نيسان ،1982 فرضت سلطات الاحتلال منع تجول كاملاً على القرى دام خمسة ايام، قامت خلاله بأغرب التصرفات واكثرها حماقة، اذ ارسلت ألوف المجندين الى القرى الاربع، وكلفتهم تطويق البيوت حاملين قيد النفوس وبطاقات الهوية الاسرائيلية من اجل فرضها على السكان. وبعد انتهاء الحملة امتلأت ازقة القرى بالهويات الاسرائيلية الزرقاء، التي جُمعت لاحقاً واحرقت في ساحة مجدل شمس.

صار الاضراب احد اشكال المقاومة الجماعية لمواطني الجولان، واصرارهم على هويتهم وانتمائهم الى الوطن. فمنذ عام ،1983 يتم احياء الذكرى السنوية للاضراب الكبير، عبر اضراب ليوم واحد في 14 شباط من كل عام، وذلك الى جانب المناسبات الوطنية السورية، وايام التضامن مع الشعب الفلسطيني والاسرى التي تقام كل عام. وقد صارت ذكرى الاضراب جزءاً من الهوية المحلية، الى درجة اني سمعت عن ارباب عمل يهود في كريات شمونة، يعترفون بالرابع عشر من شباط كعطلة رسمية لعمالهم الجولانيين.

عدا اهمية الاضراب كحدث مؤسس للذاكرة والهوية الجماعية، هناك الأثر الاجتماعي، الذي من النادر ان يتطرق الباحثون اليه.

ان احدى اهم نتائج الاضراب هو الحراك الاجتماعي الذي انتجه، والتغيرات التي طرأت على مفاهيم الحيز العام والهوية والمواطنة. ويمكن اختصار التحول في انخراط الناس العاديين ورجال الدين في السياسة. فالاضراب كان فعلا مؤسسا لمواطنة محلية خاصة، تضبطها نظم اجتماعية وسياسية قابلة للتفاوض، بين مختلف فئات المجتمع. فإذا كانت آلية مقاطعة العملاء والقابلين بالجنسية الاسرائيلية هي التعبير الاول عن فاعلية نظم الضبط الشعبية، فإن نظم الضبط نفسها، اي المقاطعة الاجتماعية والدينية، اداة حاولت من خلالها القوى الدينية والمحافظة مواجهة جميع المسائل الاجتماعية: حق المرأة في التعليم الثانوي والجامعي وحقها في قيادة السيارات والعمل، والمسائل الاخلاقية كالاعراس الشعبية. ولعل اهم صراع في المجتمع اليوم يدور حول مسألة الزواج المختلط، وحق السكن في القرى وارتياد المدارس للابناء المختلطين (يضطر معظم الذين مارسوا الزواج المختلط الى السكن خارج القرى، في كريات شمونة وقرى الجليل المختلطة). وفي اختصار، تحولت المواطنة المحلية من اداة لمقاومة السياسة الاسرائيلية وتعبير عن الهوية، الى اداة لفرض سلطة اخلاقية - اجتماعية هدفها المحافظة على النقاء الاتني- الطائفي.

ورغم المفارقة التي يجسدها تبلور طابع طائفي - محلي للهوية الوطنية، بما يصح وصفه "ارتداد الثورة على ابنائها" لم يمنع هذا من بروز بعدين اساسيين:

اولا: ان الطابع الطائفي الذي اتخذته الهوية الوطنية المحلية، لا يحمل مشروعاً سياسيا بديلا من الهوية القومية العربية، بل قام بتنمية الوعي السياسي، ومكّن المجتمع من مقاومة السياسة الاسرائيلية (وهنا يجب الاشارة الى ان التناقض لا يكمن في الضرورة في الانتماء المزدوج للامة والطائفة، بل في تحول الطائفة سلطة سيادية تتقاسم السيادة مع الدولة).

ثانيا: لم تتحول المقاطعة الاجتماعية اداة في ايدي القوى الطائفية او الرجعية، بل صارت حيزا سياسيا تتقاطع فيه وتتصارع الفئات الاجتماعية والتيارات السياسية والثقافية المختلفة. وما عدا مسألة الزواج المختلط - وهي احدى اكثر المسائل حساسية ليس عند الدروز فقط، بل عند الطوائف والاقليات في المشرق العربي - فقد خسرت القوى الدينية والمحافظة معظم الصراعات الاجتماعية وخصوصا حق المرأة في التعليم والعمل.

الدين الطائفة الوطن

سياسة فرض الهوية الطائفية - الاتنية التي تمارسها اسرائيل على المواطنين السوريين في الجولان المحتل، هي امتداد للسياسة نفسها التي تمارسها على الاقلية الفلسطينية الدرزية داخل اسرائيل. واهم ما يمكن ملاحظته هو النجاح النسبي الاسرائيلي في خلق هوية طائفية - اتنية لدى مواطنيها من الدروز الفلسطينيين، وفشلها في الجولان. يُرجع البعض هذا الفشل الى امور اهمها انتقال دروز الجولان، كغيرهم من المواطنين السوريين، الى العيش في دولة وطنية ذات سيادة، فنما في وسطهم شعور وطني قوي، بينما انتقل دروز فلسطين من الانتداب البريطاني الى الحكم الاسرائيلي الذي تعامل معهم كأقلية "مفضلة"، لكنها لا تتمتع بكامل حقوق المواطنة التي يتمتع بها اليهود في اسرائيل. ويرى محللون آخرون ان اجهزة الدولة الاسرائيلية المختلفة واهمها جهازا التعليم والجيش، اضطلعت بدور كبير في فصل ابناء الطائفة الدرزية عن باقي الفلسطينيين، في تسهيل بلورة هوية خاصة بهم. ولكن رغم نجاح اسرائيل في بلورة هوية درزية، وتحويل الانتماء الطائفي انتماء اتنيا - قوميا، فإن هذه الهوية ليست جامدة، بل عرضة لتوترات داخلية عديدة تعبر عن نفسها بوسائل مختلفة، اهمها الرفض المتنامي لدى الدروز الفلسطينيين للخدمة في صفوف الجيش الاسرائيلي.

ان البحث في اسباب هذا التباين يكتسب دلالة مهمة لأنه يقوّض الافتراض الشائع بأن الهويات الطائفية او المذهبية - الدينية، هي هويات لا تاريخية جامدة. بل يذهب الطيب التيزيني الى وصفها بهويات "مستنفدة تاريخيا ومعوقة للتقدم التاريخي".

تكشف السياسة الاسرائيلية في الجولان عن اعتقاد اسرائيلي خاص وخطير في آن واحد، بأن المواطنة السورية او الانتماء القومي العربي غير قادر على دمج الاقليات الطائفية في اطار هوية متكافئة وتعددية. لذا افترضت اسرائيل انه سيكون من السهل امرار سياستها الطائفية على مواطني الجولان. هذا لا يعني ان العالم العربي يخلو من التوترات الطائفية (لبنان، سوريا، مصر، السودان، العراق) او القبلية ( الاردن، اليمن، العراق، سوريا) او الاتنية - اللغوية (دول المغرب العربي). المهم هو كيفية تجاوز هذه التوترات عبر مواطنة تعددية ومتكافئة، تعترف بالخصوصيات الثقافية والمذهبية وتكفل المساواة في التمثيل القانوني والسياسي لجميع المواطنين. والتعارض يكمن، كما اشرنا اعلاه، ليس في الضرورة بين الطائفة والامة، او بين الدين والسياسة، انما بين الطائفية، المذهب او الدين من جهة، وسيادة الدولة من جهة اخرى، وذلك حين تتحول الاولى نوعا من السلطة الطائفية Communal authority التي تتقاسم مع الدولة سيادتها على مواطنيها. وهذا التعارض لا ينتج من وجود نوع من الشعور بالخصوصية، انما من ظروف تاريخية وسياسية واقتصادية تتيح تخيل مصير مشترك لأبناء الجماعة الخاصة Community او الطائفة وتقدم لهم تاليا امكان ربط مصالحهم السياسية كجماعة خاصة ازاء الدولة او ازاء المجموعات الخاصة الاخرى.

خلاصة

الطائفية هي من هذا المنظور ظاهرة حديثة يتم انتاجها في ظروف الحاضر وليس في ظروف الماضي، رغم انها تستمد روايتها ورموزها وشرعيتها من قراءة معدَّلة للماضي. وهي من هذا المنظور تشبه تماما القومية الحديثة في انتاجها لرواية معدَّلة للماضي واساطير جمعية عن الامة والاصل والمصير. وفقط حين نفهم هذا التشابه البنيوي بين الطائفية والقومية - كهويات جمعية متخيلة وحديثة - ونمتنع عن مقاربة الطائفية كتشويه للامة وانحراف غنوصي ورجعي عن مسارها التقدمي، يمكن ان نتعامل ايجابيا مع التوترات التي تعيشها الاقليات الطائفية - الاتنية في ظل الهويات القومية الاوسع (أكانت اقصائية - تراتبية كما في اسرائيل، ام ادماجية - تراتبية كما في العالم العربي). والعالم العربي بالطبع ليس حالا خاصة في هذا المجال انما يشبه كل المجتمعات الحديثة التي ما زالت تحاول ادماج عناصرها المختلفة في اطار هوية موحدة يتم في اسوأ الحالات تخيلها كبديل من المجتمع المدني المتعدد في ظل دولة قانون شمولية، او، في افضل الحالات، كشرط لنشوء مثل هذا الوضع.

-----

* كاتب هذه المقالة ولد في العام 1972 في قرية مجدل شمس في مرتفعات الجولان السورية المحتلة. نال بكالوريوس في العلوم الاجتماعية والفلسفة في الجامعة العبرية في القدس، ويحضّر لشهادة الدكتوراه في التاريخ والدراسات الشرق اوسطية في جامعة نيويورك.

التعليقات